حال المستشفيات ليس أفضل من حال هذا السائق. هي تعاني من تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي ومن الاهتراء في مفاصل الدولة، وفي الوقت نفسه، عليها الاستمرار في العمل لأنّ التوّقف سوف يكون أكثرَ كلفة على كافة الاصعدة.
إنّ كلفة الطبابة تزداد سنة بعد سنة، وهذا من طبيعة الامور لجملة اسباب اهمها:
1- الازدياد في معدل عمر الانسان وما ينتج عن ذلك من الحاجة الى مواكبة طبية اضافية سواء لناحية تكرار الدخول الى المستشفيات ام اللجوء الى علاجات مكلفة.
2- التطوّر السريع في التقنيات والمعدات والمستلزمات الطبية الذي يترافق مع ارتفاع كبير في كلفتها. فالاعمال الجراحية التي كانت تُستعمل فيها آلات بسيطة، صارت اليوم تجرى بواسطة المعدات المعقدة والروبوتات التي يبلغ ثمنها مئات الآلاف من الدولارات بل يتجاوز البعض منها المليون دولار.
3- التدهور البيئي وطرق العيش المضرّة التي زادت من عدد الامراض في القلب وحالات الاصابة بالسرطان، ومعالجة هذه الحالات تكلفتها مرتفعة جداً لا بل الأغلى ثمناً مقارنة مع العلاجات الاخرى.
من البديهي، القول إنّ هذه الامور تتسبّب بتضخّم قيمة الفاتورة الاستشفائية إذا أردنا المحافظة على مستوى عال من الجودة، وفي الوقت نفسه تمكين جميع المواطنين من الحصول على العناية الطبية. ومن الغباء، أو الاستغباء التفكير أنه يمكن تحقيق ذلك من دون زيادة الموازنات المخصّصة للاستشفاء. كذلك فإنه من السذاجة التفكير بأنّ المستشفيات حرام عليها أن تؤمّن ربحاً معقولاً يمكّنها من تطوير نفسها ويشجّع على الاستثمار في هذا القطاع.
اكثر من 85% من الذين يدخلون الى المستشفيات في لبنان هم على عاتق الجهات الضامنة الرسمية، وأكبرها الضمان الاجتماعي، ووزارة الصحة، والطبابة العسكرية، والقوى الامنية وتعاونية موظفي الدولة. هذه الجهات تعاني جميعها من نقص في الموازنات بدأ منذ سنوات ما أدّى الى تراكم مخيف في المستحقات غير المسدَّدة للمستشفيات، وهذه السنة لم تُقرّ اية زيادة في الموازنة ما يعني انّ المشكلة سوف تتفاقم، فما الذي ينتظرنا؟
تمكنت المستشفيات لغاية الآن من الاستمرار، ومن تسجيل نتائج جيدة تشهد عليها دراسات قامت بها جهات اجنبية وفق مؤشرات لمقارنتها مع أداء القطاعات الاستشفائية في دول اخرى. وهذه الجهات ابتداءً من وكالة بلومبرغ الى منظمة الصحة العالمية، اشادت بقدرة المستشفيات اللبنانية على تأمين خدمات ممتازة وبكلفة لا تتجاوز 20% ممّا هي عليه في الدول الاوروبية والولايات المتحدة. وأخيراً صدرت دراسة عن وزارة الصحة اللبنانية أظهرت انّ اكثر من 92% من المرضى راضون عن أداء المستشفيات في لبنان.
رغم هذه النتائج المشرّفة، نرى كيف انّ الحملات تتكرّر ضد المستشفيات لا سيما على لسان بعض الإعلاميين والسياسيين فيُصار الى التفتيش ومن ثم الإضاءة على الأخطاء، وهي لا مفرّ منها في جميع بلاد العالم وليس فقط في لبنان، وفي الوقت نفسه التغاضي عن الإنجازات الكبيرة التي تحصل.
هذا الظلم لا يسيء فقط الى المستشفيات بل كذلك يسيء الى وزارة الصحة المسؤولة عن هذا القطاع والى سمعة البلد بمجمله. هؤلاء الناس يسعون الى بطولات وهمية، وهي إن دلّت على شيء فعلى أخلاقيات هابطة وعلى عقد نفسية يجب معالجتها.
على كل حال، وبالنسبة الى الضائقة المالية، فلقد استنفدت المستشفيات جميع «الهندسات» التي يمكن اللجوء اليها كي تتمكن من الاستمرار، وأخيراً بدأنا نرى مؤشرات سيّئة، من تقليص عدد الأسرّة الى تسريح موظفين ناهيك عن التأخير في تسديد فواتير الموردين الذين لجأوا بدورهم الى التوقف عن تسليم المستشفيات المتعثرة الأدوية والمستلزمات الطبية.
هذه الامور تُنذر بمأزق كبير والمستشفيات واقعة بين سندان الشحّ في الموارد ومطرقة المريض الذي يدخل اليها وهو بحاجة للعناية. لقد لجأنا الى جميع الطرق المتاحة لإيصال الرسالة الى المسؤولين ولكننا لغاية الآن لم نلاحظ أنّ هناك آذاناً صاغية.
ربما هناك مَن يعتقد أن لا ضير في أن تقفل مستشفيات أبوابها، فسوف يبقى منها عددٌ كاف في كل حال. هنا ننبّه الى انّ المستشفيات المتعثرة هي في غالبيتها الساحقة التي تستقبل مرضى الجهات الضامنة الرسمية، وبالتالي، فإنّ إقفالها سوف يؤدي الى مشكلة كبيرة للمرضى الذين هم على عاتق هذه الجهات، وبالتالي لن يتأثر بذلك الميسورون مادياً أو الذين هم مؤمَّنون لدى شركات خاصة. حذارِ من هذا التفكير لأنه سوف يطال الطبقات الفقيرة والمتوسطة فقط لا غير.
هل إنّ المستشفيات متروكة لقدرها؟
نعم هذا ينطبق على العديد منها وما حصل في القطاعين الصناعي والتجاري من تقهقر قد يحدث ايضاً في القطاع الاستشفائي، ولكن هنا سوف تكون الوطأة كارثية.
حان الوقت لأن يبحث هذا الموضوع بعقلانية ومهنية بعيداً من المزايدات والأفكار المسبقة. نحن لا ندري بشكل مؤكد ما هو الوضع المالي للدولة ولكن مهما
كان الامر، إنّ تأمين الطبابة للناس هو اولوية ليست فقط اجتماعية انسانية بل كذلك اقتصادية، ووضع المشكلة على أكتاف المستشفيات وحدها هو إنكار للواقع يدفع ثمنه المواطن.
المستشفيات في حال حرجة، قلناها بصوت عال ولكن لا اعتقد انّ هذه الصرخة لاقت آذاناً صاغية وبالتالي لم يبقَ لي سوى القول: «اللهم اني بلّغت».
المصدر: المهندس سليمان هارون – الجمهورية
**