مرة جديدة تعود الأزمة بين أطراف الطبقة الحاكمة في لبنان، وسرعان ما انعكست تداعياتها على تعطيل جلسات الحكومة على خلفية حادثة قبرشمون واشتداد الصراعات على المحاصصة الطائفية، والعودة إلى استخدام الخطاب الفئوي والطائفي والمذهبي، وإحياء سلطة الميليشيات والكانتونات والبوابات المذهبية والإحتماء بها للحفاظ على المصالح والإمتيازات للزعامات الطائفية…
مخطئ مَن يحاول تلميع مشهد الصراع السياسي الحاصل والتي تمارسه بعض أطراف الطبقة الحاكمة بهدف الدفاع عن حقوق الطوائف؛ ففي هذا الأمر تضليل للرأي العام، وبالتالي خداعه وجعله يتراصف خلف هذه الزعامات الطائفية على حساب مصالحه وحياته ومعيشته وأمنه واستقراره، وبالتالي عودة إحياء مناخات أهل الكهف والإنغلاق والتعصب والحقد وحتى العنصرية البغيضة التي سادت خلال الحرب الأهلية، وبالتالي عدم السماح للخروج من آثارها وسلبياتها الخطرة.
إن هذه الأزمة المتدحرجة ككرة الثلج تعكس بصورة واضحة طبيعة هذا النظام الطائفي القائم على المحاصصة والزبائنية، واستمرار النزاعات بين أطراف السلطة كلما ارتبط الأمر بعملية تقاسم الجبنة أو حصة من هنا، أو تعيين من هناك، في مراكز الدولة على كافة المستويات السياسية والعسكرية والأمنية والمدنية.
من الواضح أنّ أطراف الطبقة الحاكمة التي استولت على مقدرات البلاد بعد اتفاق الطائف، أفرغت هذا الاتفاق من روحه ومضمونه الإصلاحي، وأحجمت عن تنفيذ كلّ بنوده الإصلاحية التي نصّ عليها لمصلحة إعادة أحياء منطق المحاصصة الطائفية بين أطرافها، مستفيدة من إقصاء وتهميش شريحة من المسيحيين في ذلك الوقت.
اليوم، عاد هذا الصراع إلى الواجهة مع عودة التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية إلى السلطة، والذين يرفضون استمرار الواقع السياسي السابق الذي ساد بعد اتفاق الطائف، لأنّ هذه القوى التي تُمّثِّل شريحة واسعة من المسيحيين إلى جانب تيار المردة والكتائب اللبنانية أصبحت هي مَن سيحدّد أسماء المسيحيين في التعيينات في مؤسسات الدولة، لا العكس، وربما هذا الأمر قد أزعج البعض من الذين اعتادوا على عملية استيلاد ممثلين الطوائف المسيحية في كنفهم.
بالطبع هذا الأمر يحتاج، من أجل تجاوزه، إلى تغيير في الذهنية السياسية التقليدية التي شبّت على حب التفرد والاستئثار والهيمنة؛ وبالتالي العمل على بلورة تيار وطني عريض عابر للطوائف على أساس برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي، يناضل من أجل بناء موازين قوى سياسية وكتلة شعبية وازنة، لصالح إقامة نظام سياسي جديد يقوم على استحداث مجلس شيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية مقابل انتخاب مجلس نواب وطني غير طائفي، الأمر الذي يعبّد الطريق أمام المواطنة والعدل والمساواة بين جميع اللبنانيين، واعتماد تكافؤ الفرص قاعدة في تعامل الدولة مع جميع مواطنيها…
هذا الهدف ليس مستحيلاً إذا ما أقلع اللبنانيون عن الأنانية الفئوية، والعصبوية والشخصانية، وغلّبوا المصلحة الوطنية على ما عداها من أهداف خاصة؛ وهو ما يستدعي بالضرورة بحث ودراسة الصيغة التي تحقق هذا الهدف المنشود، وإنّ ما هو قائم حالياً مع الأسف الشديد لا يزال قاصراً جداً عن بلوغ وتحقيق دولة المواطنة.