إن ما تعيشه الطائفة الدرزية بعد اتفاق الطائف ١٩٨٩ وصولا إلى ما جرى في اليومين الأخيرين في منطقة الشوف الأوسط والساحلي مرورا بحادثتي الجاهلية ودميت في قضاء الشوف ليس بالأمر الجديد، بل تكملة لواقع مأزوم تعيشه الطائفة الدرزية ، ذات الفعالية المحدودة والدور الوجودي المتقهقر مما يؤثر على مستقبلها داخل المنظومة السياسية اللبنانية.
لا بد لفهم هذا الواقع من الاصغاء الى الأحاديث والطروحات التي تدلي بها معظم المرجعيات الدرزية سواء السياسية او الدينية؛ او تنسب اليها بالتواتر، او الى التحليلات التي تتكلم عن تراجع الحضور الدرزي في أجهزة الدولة على مستوى المناصب والوظائف وشبه غياب المؤسسات الاجتماعية والتربوية والصحية والاقتصادية والانمائية داخل الطائفة.
نحن اليوم امام واقع سياسي مأزوم، سرعان ما انعكس على بنية الطائفة الدرزية بشكل لا يتناسب مع دورها التاريخي منذ ايام الأمير فخرالدبن المعنى الثاني مرورا بنظام القائمقاميتين وصولا إلى اعلان دولة لبنان الكبير حيث شكل الدروز شريكا اساسيا وطائفة كيانية ضمن ديناميكيات سياسية كبيرة.
ان التراجع السياسي لدور الطائفة المعروفية، وتقلص حدود نفوذها، وزحمة المقولات الأيديولوجية التي اتكأت عليها عروبة، اشتراكية، ديمقراطية؛ وسيطرة بنية الأحادية على الانتظام السياسي والاجتماعي بفعل عوامل التهميش والاقصاء والهيمنة وتبلور الفردانية، والهجرة، والبطالة والحرمان ومحاولات ضرب التعددية والتنوع في المؤسسات التابعة لها (مثال المجلس المذهبي الدرزي.. ) والأنقسام الحاصل على مستوى مشيخة العقل؛ وغياب تأثير المرجعيات الدرزية؛ والإنفراط الداخلي الذي يعبر عنه في الأوساط الاجتماعية الدرزية؛ كل ذلك قد أسهم وسوف يسهم في استمرار تهميش دور الطائفة وأن كانت التحولات السياسية في الوسط الإقليمي والمحلي، قد ساهمت إلى حد كبير في تراجع دور الزعامة الجنبلاطية وبلورة منظومة سياسية تعددية، تعبر عنها ظهور أحزاب ومرجعيات وشخصيات ومحاور سياسية مناوئة للسياسة الجنبلاطية، اما عن طريق إحياء الزعامات والعائلات التقليدية المناوئة ( المير طلال ارسلان؛ النائب فيصل الداوود والنائب فادي الأعور.. او الزعامات المنافسة ( وئام وهاب… )، اما من خلال نشوء تجمعات مدنية وسياسية خارجة عن لعبة الاصطفافات التقليدية المعهودة.
ان نسبة واقع التداعي الذي يعيشه الموحدين الدروز في اوساط طوائفية متعددة هي مسألة ليست مضخمة بعد أن بنبت السياسة الجنبلاطية على فرضية التحالفات السياسية الانقلابية والمصلحية مع اقطاب الداخل والخارج؛ وبالتالي احجامها عن المطالبة بتثبيت حقوق الطائفة الدرزية على قاعدة المشاركة الحقيقية من خلال استحداث مجلس الشيوخ حسب اتفاق الطائف واسناد رئاسته لدرزي وهذا يشكل ضرورة ملحة في ظل ما نعيشه من تبدلات اجتماعية و ديموغرافية وسياسية، لا يمكن القفز فوقها بعد اليوم في مجال صياغة الاستراتيجيات السياسية العامة والانتخابية.
ان شراسة ردة الفعل والتلويح الدائم بالحرب الاهلية، ليس من الواقعية السياسية بشيء، ولا هو خيار مقبول بعد نهاية الحرب الأهلية نظراً لاستباحته مبدأ السلم الأهلي، وتردداته السيئة على المستويين الدرزي واللبناني. لذلك المطلوب اليوم هو العودة إلى قراءة الواقع على ضوء التبدلات البنيوية الدرزية الناشئة، وممارسة العمل السياسي بعيدا عن الاساليب الدموية المعهودة، وضرب قواعد العيش المشترك وما نشأ عنها من اختلالات بنيوية في مناطق الجبل من تهجير وفراغ سكاني وبطالة وحرمان وفقر وجوع؛ والحاجة الدائمة الى خلق “عدو” لاستمرار الزعامة وحمايتها من الأخطار الوجودية المتوهمة وغير الواقعية؛ كل ذلك و في ظل دولة عاجزة؛ متسكعة، وهمية لا قيامة لها بوجود سلطة فاسدة وجشعة.
لا خروج عن هذه المعادلات المقفلة الا بتجاوز هذه التصورات الانعزالية، والاعتراف بالواقع واعادة صياغة الاستراتيجيات السياسية على اساس متماسك وقائم على الاعتراف بالتحولات البنيوية والتعاطي معها؛ والكف عن الشطحات المتهورة التي تزيد من حالات التشنج والاحتقان في الأوساط الدرزية.
لاسبيل لاستعادة الاستقرار في الجبل دون مراجعة نقدية للأداء السابق والخروج برؤية سياسية بديلة والخروج من دائرة الالغاء والتهميش إلى دائرة الاعتراف المتبادل بحرية العمل السياسي وتعزيز مرجعية القضاء في حل النزاعات، والتنافس والعمل المشترك من اجل الإنماء، مما يعيد الدور للحياة المؤسسية، وللعبة الديموقراطية الحرة غير المقيدة بمنطق “البوابة” و”الكانتونات” لجهة تكريس مناطق نفوذ منعزلة ومطوبة بأسماء أقطابها.
علينا تجاوز القراءة المتشنجة والسطحية للأحداث والتطورات للتبصر بمدلولاتها وبإمكانية التعاطي معها من منطلق تجاوزي يقينا الانقسامات البغيضة وتهديد الأمن والاستقرار والتدهور الاجتماعي والاقتصادي، ويفتح افقاً تغييربة من اجل احتواء تداعيات المخاطر المحتملة ومعالجة اسبابها.
**