حادثة قبرشمون، أشعلت النيران في الجبل، ووضعت لبنان، أمام تحدٍّ كبير، وأطلقت الكثير من المؤشرات السلبية القاتلة، وفي التوقيت المنطقة من حولنا تغلي وتنذر بالمزيد من التطورات المفتوحة، هل هناك مَن يريد أن يدفّع لبنان الثمن، ليس صدفة ما يحصل، ومَن المستفيد؟.
إنه يوم من زمن العصبيات والحروب، وإن اختلفت الروايات، فإن النتيجة ملامسة للخطوط الحمر، في مساحة حساسة وتوقيت أكثر حساسية، في عمر وطن لا يحتمل إدخاله في متاهات أمنية تضاف إلى معضلات اقتصادية ومشاكل اجتماعية يرزخ تحتها.
لقد مرّ الجبل بقطوع أمني على خلفية سياسية، فوسط الخلاف المستحكم بين الزعيم وليد جنبلاط والوزير جبران باسيل، حصل إطلاق نار في قبرشمون سقط خلاله اثنان من مرافقي الوزير صالح الغريب رامي أكرم سلمان وسامر نديم أبوفراج وجرح آخر أيضاً.
فهل تكون هذه الحلقة الأخيرة من مسلسل الحوادث الأمنية في الجبل التي كانت أولها حادثة الشويفات التي ذهب ضحيتها الشهيد علاء أبي فراج، لتتوج بحادثة الجاهلية ومحاولة التعرض للوزير وئام وهاب، ذهب ضحيتها الشهيد محمد أبوذياب، وغيرها من الهزات الأمنية كالإشكال الذي حدث في معمل فتوش في عين دارة، وكلها حوادث أمنية تمّ تطويقها بحكمة وتيقظ شديدين للحفاظ على السلم الأهلي في الجبل والبقاء على استقراره لأنه كان ولا يزال نموذجاً للعيش المشترك بالرغم من الحروب التي ألّمت به، فقد سقط الجبل في الدم والدموع للمرة الأولى بعد كذبة 1840، وسقط للمرة الثانية بعد فتنة 1845، وسقط للمرة الثالثة بعد محنة 1860، وللمرة الرابعة بعد لعنة أيلول 1983، يوم انسحب الإسرائيليون من الجبل، وقال أحد قادتهم العسكريين لمسؤول عسكري مسيحي يومها: “الآن باستطاعتكم أن تفنوا بعضكم لكن انتظروا قليلا لنكمل انسحابنا”، لن نعود إلى تلك المرحلة لا لتحريك السكين في الجرح ولا لنبش الذكريات المؤلمة، كانت حرباً بين مكونين أساسيين صنعا الكيان ولبنان وكرامة الإنسان فيه في وجه المماليك والعثمانيين والمنتدبين، فكان الدروز عبر مئات السنين رأس حربة في الشهامة والكرامة وصون الأرض والعرض، وصنعوا مع شركائهم وحلفائهم وأبناء الجبل والأرض المسيحيين، صنعوا مجد لبنان قبل أن تنسل إلى قلوبهم تخويفات وأوهام، يريد لها أعداء لبنان أن تتحقق في هذا التوقيت.
إنتهت الحرب، وعمّت المصالحات وكأن شيئاً لم يكن، إلا أن ما حصل بالأمس في قبرشمون وكفرمتى يدل ويؤكد ويثبت أن المصالحة من فوق لا تكفي، المطلوب وأكثر من أي وقت مضى هو تنقية الذاكرة وإزالة الرواسب وإعادة بناء جسور الثقة، كي لا يدفع الجيل الحالي ثمن ما اقترفه الجيل السابق.
الجميع يريد أن يمحو الحرب من ذاكرته، لكن التاريخ الذي يعيد نفسه في المنطقة بحروب أذكت عقول أصحاب المصالح الشخصية وعمّقت الفئوية والطائفية، هذا التاريخ يمكن أحياناً أن يظلم الأبرياء، لكنه أبداً لا يرحم الضعفاء والجبناء.
ما حصل في عاليه والشحار بالأمس وقد يكون له أذيال، مؤشر غير مريح إلى أن البعض يستخدم الماضي لإعاقة المستقبل وضرب العهد، والأخطر ضرب الإستقرار داخل البيت الواحد، في سبيل الإستئثار بالقرار واحتكار الخيار وهناك من يرى اليوم – وبكل واقعية – أن وليد جنبلاط أصبح عاجزاً حتى عن الوقوف فكيف بالسير، في ظل الأزمة السياسية التي يعيشها اليوم، فهو على خصومة مع وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، زاد منها التحضير للتعيينات التي لم يعد فيها جنبلاط وحيداً في تحديد أسماء الدروز بحيث سيحصل على الثلثين لتحصل المعارضة الدرزية الممثلة برئيس الحزب الديمقراطي طلال إرسلان ورئيس حزب التوحيد العربي على الثلث، ولا فرض أسماء مسيحيين، إضافة الى قلق جنبلاط من التسوية القائمة بين رئيس الحكومة سعد الحريري وباسيل، وشعوره بأنه بات على هامش القرار السياسي”، لذلك هو مستمر بحرب الدجل ولكن الى حين.
والسؤال، ما الذي تغيّر بين قداس التوبة والغفران بتاريخ آذار الماضي، عندما وقف رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط ووزير الخارجية جبران باسيل في دير القمر، ليقول جنبلاط إن المصالحة أقوى وأهم وفوق كل اعتبار من أجل مستقبل أفضل، وليعلن جبران باسيل أن المصالحة لا تهتز إذا اختلفنا بالسياسة وإن علينا أن نتعلم من الماضي لبناء المستقبل، واليوم؟.
اليوم، اهتزت المصالحة، وما حصل أن الخلاف السياسي كان أقوى من المصالحة، ومن الجبل كله، وحتى من شهدائه؛ ما حصل اليوم هو الحقيقة الموجعة التي لا يجرؤ أحد على الإعتراف بها، أنه نتيجة لزعامة كرست نفسها منذ عقود من دون أن تعرف سوى التلون في السياسة، والدم في فرض خياراتها بالقوة، ومنطق الميليشيا حتى في زمن السلم، وأسلوب فرض الخوات والتعدي على ما ليس لها، وما الشعارات السيادية التي ترفعها أحيانا سوى “عدة شغل” تستخدمها حين يلزم”، وما حصل في الأمس ليس محصوراً بزعيم أو منطقة، فبعض من يدير الدولة إما يقطع الطرقات ويتعدى على حياة الناس أو يقطع الطريق أمام بناء الدولة، وأصدق مثال هو التفتيش في جيوب المواطنين لتمويل موازنة بلغت عجزاً كبيراً بسبب فساد بعض من السلطة.
من هنا كل الحجج والتبريرات لا تستقيم ولا للحظة أمام هذا الإستخفاف بأرواح المواطنين، فهذه الجريمة مدانة بكل المعايير، لكن من دون العودة إلى مسببات هذا العنف المفرط ومعالجته جذرياً، لن تكون هناك ضمانة لأحد بعدم تكرار ما حصل فالحوادث المماثلة راسخة في أذهان الجميع.
وإذا كان لا بد من انتفاضة، فلتكن على الفساد والزبائنية والطائفية السياسية والتبعية التي تمثل أدوات الطبقة السياسية الحاكمة والمستفردة بالسلطة في إذلال المواطنين باستمرار.
والمطلوب اليوم تحصين لبنان وتقوية مناعته وترتيب أولوياته لدرء صفقات القرن وما أدراك منها؟! وهذا مسؤولية الجميع وامتحان جديد في مواجهة التحديات.