لقد كذبوا علينا حين قالوا أنّ لبنان أجمل بلد في العالم. كنّا صغاراحين أقنعونا، ومن قبلنا ربّما لم يرَ ما وراء الحدود من بلاد جميلة وراقية، من أنظمة حديثة ومحترمة، من بيئات نظيفة وأناس طيّبون. قولوا لنا أنّكم تسعون لجعل لبنان من أجمل بلدان العالم قد نصدّقكم رغم نفاقكم، لكن لا تستخفّوا بعقولنا، فلبنان في القعر. ليس ذنب الطّبقة السّياسية أبدا، بل هو ذنب كلّ ناخب سمح لنفسه انتخاب أمراء الحروب، ناهبي ثروات الدّولة وفاسدي لبنان.
لم يعد التّنمرّ كافيًا، ولا ثورات وسائل التّواصل الإجتماعي الوهميّة التّي لا تعدو كونها حِبراً على هواتِف، فالورق مُكلفٌ في هذه الأيام السّوداويّة. لا يكفي بعد الآن كلاماً موسميّاً لا يُصرف على أرض الواقع كونه مجرّد كلام كان يدفنُ بعد أيّام أصبح يُدفنُ ببضعة دقائق.
التّقارير الصادرة عن المنظّمات والجمعيات والصّحف العالمية مرعبة. قالت صحيفة الفورن بوليسي (foreign policy) أنه عام ٢٠١٨، أعلن وزير الصّحة أنه منذ عام ٢٠٠٥ نسبة الإصابات بمرض السرطان تزداد ٥،٥ ٪ سنويّا. منظّمة الصحة العالمية أن ١٦٪ من نسبة الوفيّات في لبنان سببها مرض السّرطان. معظمهم مصاب بسرطان الرّئة ويعود السبب إلى تنشّق الهواء المسموم. الباحثون أكّدوا أن ٩٣٪ من سكّان بيروت معرضون لتلوّث الهواء بسبب المولّدات. سبب آخر هو رمي النّفايات أو طمرها بنسبة ٧٧٪.
أمورٌ كثيرة كارثيّة تُغرِق لبنان بمستنقع من الوحول، والله وحده يعلم اذا كنّا سنخرج منه يوما ما. لكن لا شيء يوحي أنّنا سنخطي خطوة إلى الأمام في القريب العاجل.
بيروت أصبحت غابة يصعب التّنقل فيها. قد يكون ركوب الحمير أهون فيها من قيادة السّيارات. قد يكون أيضاً أهون على الحمير سلوك طرق المدينة المنكوبة. الناس فيها متشنّجون وكلّ ينتظر الآخر كالذّئب للانقضاض على الآخر. نظرة قد تعرّض مواطِن للضرب من قبل أحد “القبضايات” أو قد تكلّفه حياته في بعض الأحيان. دولةٌ غائبة تفرض قانونها حينا، وتنساه حينا آخر. واذا فرضته تفرضه على الضعيف. “القانون كنسج العنكبوت، تعلقُ فيه الطّيور الصغيرة، وتعصف به الطّيور الكبيرة”. في لبنان طيورٌ كبيرة تعصف به وتأكل حتّى العنكبوت كي تنسج قوانين على مقاسها.
المشكلة في الشّعب. شعب يهبّ لمعارك إقليمية لا ناقة لنا فيها ولا جمل بدل التّلهي بإنقاذ بلده. ويعتقد أنه أذكى شعوب العالم ويصرّ على ذلك. أذكى شعوب العالم هو الشّعب الذي ينتفض لكرماته، ينتفض ليعش أولاده عيشة كريمة، يثور ليكون بلدا حضاريّا على أرض الواقع لا في مناماته وأوهامه. أين الكهرباء؟ الطرّقات؟ المياه؟ الصّرف الصّحي؟ الوظائف؟ الطّعام؟ الشّرب؟ حتّى الهواء أصبح استنشاقه مكلفاً.
أي دولة هي التّي لا تملك مخطّطات نهضويّة؟ هل يعلم الشّعب اللبناني أنّنا في مزرعة؟ نسخر من جميع الشّعوب بعقولنا الفارغة وكلّ تلك الشعوب تعيش في دول أفضل من لبنان.
كنّا صغاراً مقتنعين أننا قد نكبر يوما ونحدث تغييرا جذريا. كنّا نعتقد أن لا شيء مستحيل، وانّ كلّ شيء ممكن. لكننّي استنتجتُ انّ إصلاح لبنان مستحيل إلّا بحالة واحدة، إستقدام شعب جديد نهديه بلدنا كي يحافظ عليه قبل أن نقلب ترابه رمادا بحرائقنا الفكرية وعنجهيّتنا الفارغة. نحن لا نحتاج طبقة سياسيّة جديدة، بل نحتاج شعبا جديدا قد لا نجده أبداً.
**