لم يسبق في تاريخ لبنان السياسيّ منذ الاستقلال أن تزامن تراجع حضور طائفة الموحدين الدروز في تولّي المناصب والمراكز الدستوريّة والإدارية والعسكرية والأمنية في ظل وجود نظام طوائفي يعتاش على الشعور بالخوف الوجودي والغبن الخدماتي والوظيفيّ والذي يزرعه زعماء الطوائف بين صفوف “جماعتهم”.
إن عملية التناوب بين الطوائف اللبنانية في السيطرة على السلطة قد مرت بمرحلتين بارزتين في التاريخ المعاصر للبنان، ما قبل اتفاق الطائف والذي يمكن أن نطلق عليها زمن التحفز والاستعداد للطوائف الإسلامية التي صنعت لـ «جماعتها» ثقافة الغبن والحرمان والخوف، مقابل سيطرة “المارونية السياسية” على مقاليد الحكم.
اما في مرحلة ما بعد الطائف فقد تمكنت الطوائف الإسلامية بمذهبياتها المتعددة وتحديدا عند ألسنة والشيعة من تشكيل عصب الطائفية الحاكمة، لينتقل الشعور بالغبن والخوف هذه المرة إلى الموارنة بشكل خاص والمسيحيين بشكل عام، وأن كان هذا الأمر قد بدأنا نشهد تراجعه نوعا ما منذ وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وخصوصاً منذ الانتخابات النيابية الأخيرة وتشكيل الحكومة الحالية، حتى بات من الممكن القول أمام هذا الستاتيكو بأن ثالوث الموارنة والسنة والشيعة قد يدخل بلبنان مرحلة ثالثة، لم يعرفها هذا البلد من قبل، حيث الأقوياء في طوائفهم، هم الأقوياء في السلطة، يلعبون مع جماعاتهم لعبة الخوف والغبن، ولدى كل منهم القدرة الكامنة التي تتحفز لمرحلة مقبلة بقوة خوف أو غبن أو تهميش.
ولكن أين موقع طائفة الموحدين الدروز من هذا المنهج التقليدي المتجدد للنظام الطائفي، والقائم بصورة طبيعية على استشراء الفساد وتوزيع المغانم والمكاسب والامتيازات والتوظيف على اساس الزبائنية ، والالتزامات والتعهدات التي غالبا ما تكون مخالفة للقانون والتي كانت تتحمل الدولة أعباءها في زمن الوفر المالي والاقتصادي وما عادت قادرة عليه اليوم.
ما تقوله وقائع الحياة اللبنانية أن ما كان ممكناً في الماضي لم يعُد ممكناً اليوم، فقد ضاقت رقعة “بيضة القبّان” التي كانت تتغذّى عليها مكاسب الجنبلاطية السياسية التي استحوذت على السلطة، عندما تراجعت بقية الأطراف السياسية الدرزية الأخرى . وها هي اليوم تنتقد الثنائيات السياسية التي تقوم من هنا وهناك؛ سواء الثنائية المارونية – السنية او المارونية – الشيعية والتي انعكست سلبا على ما اعتقدت الجنبلاطية السياسية أنه صار حقوقاً مكتسبة لها،، وبالتوازي توسع جشع الطوائف بما لا يقاس بما كان يرتضيه أسلافها لأشخاصهم أو لمريديهم أو لجماعاتهم، فصار النزاع على توزيع المكاسب محفوفاً بالسخونة التي تستدعي استنفاراً دائماً للعصبيات وللخطاب الطائفي وتهديداً بانفجار موجات من المواجهات المعرضة للخروج عن السيطرة، كما تغيّر المحيط الذي تجري فيه هذه الصراعات، وتمارس تحت خيمته هذه الازدواجية الطائفية والوطنية، فأصل فكرة الجماعة الطائفية، يقوم على تبنّي هوية رديفة للهوية الوطنية، يصعب الجمع بينهما كما يصعب التنسيق بين أغراضهما، لا بل إن تغذية إحداهما لا بدّ أن تتم على حساب الأخرى.
إن التحالفات السياسية التي دأبت الجنبلاطية السياسية على نسجها منذ اتفاق الطائف تارة مع السنية السياسية وتارة أخرى مع الشيعية السياسية بدلا من تثبيت حقوق الطائفة الدرزية في مواقع ضمن المؤسسات الدستوريّة؛ فضلا عن ممارستها نوع من الأحادية على مستوى السلطة على حساب الزعامات الدرزية الأخرى ؛ هي تعبير واضح عن ملامح المرحلة الجديدة، وتجسيد للعجز عن امتلاك خطاب يعيد للدروز دورهم التاريخي الذي تأسس عليه عليه الكيان اللبناني، وبالتوازي العجز عن تثبيت موقع الطائفة في إطار مؤسساتي وازن أسوة بموقع رئاسة الجمهورية و رئاسة الحكومة و رئاسة مجلس النواب؛ وهو ما جعل الدروز يقفون اليوم على مفترق الطرق على قاعدة التسليم بالعجز والحرمان والغبن والتهميش وعدم التساوي بالحقوق بين بقية الطوائف والمذاهب، هو مفترق طرق بين مشروعين يتجاذب اللبنانيين في ما بينهم: مشروع يرى في الحفاظ على النظام الطائفي مسألة وجودية، ولذلك يرى الحل بالفدرالية الطوائفية انطلاقاً من اعتماد القانون الأرثوذكسي في الانتخابات النيابية وما يعنيه عملياً من انتخاب مجموعة مجالس للطوائف تجتمع في مجلس واحد، وانتهاء بتكريس التوزيع الطائفي لكل وظائف الدولة في الفئة الأولى وغير الفئة الأولى، مروراً بتوسيع نطاق اللامركزية الإدارية والإنمائية والمالية والأمنية المحلية، على أقاليم يجري توزيعها وترسيمها على حدود الطوائف، والسير بهذا المشروع يعني سقوط اتفاق الطائف والذهاب لمؤتمر حوار وطني مفتوح على كل الاحتمالات ومخاطرة غير محسوبة بمستقبل لبنان في ظروف إقليمية دولية شديدة الحساسية والتعقيد.
وبالمقابل مشروع آخر يقول إن الانتقال إلى دولة القانون، المسماة بالدولة المدنية، يتحمل الجمع مع قدر من التوزيع الطائفي للمناصب العليا للدولة، وفقاً لما نص عليه اتفاق الطائف في دعوته لاستحداث مجلس شيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية بمعنى آخر اعتماد صيغة مجلسين منتخبين واحد خارج القيد الطائفي، ومجلس آخر على أساس طائفي، ومثله الرئاسات والوزارات، وربما بعض الإدارات العليا، تأميناً للاطمئنان الوجودي للطوائف والمذاهب من جهة، واستثماراً لميزة التعدد الطائفي التي يتصف بها لبنان من جهة أخرى.
الدروز على مفترق الطرق، وكل تأخر في إشهار الخيارات الوجودية يدخلهم في أزمة أشد قسوة ويعبر عن أزمة أعمق لدى زعمائهم ومرجعياتهم، فلا قانون الانتخاب يمكن إصلاحه تجميلياً للقول إن سبب الأزمة عندهم تقنية، ولا الخطاب الطائفي سيزيد الأحادية الجنبلاطية قوة، بل سيفتح باب مساءلتها من جماعتها، ماذا حققتم وقد حصلتم على سقف ما تريدون وما يمكن بلوغه، ولا الإصلاح الإداري والاقتصادي والمالي أمور تقنية يمكن تحقيقها دون الإصلاح السياسي. لذلك فإن مدخل هذا الإصلاح بات وقفاً على شد العزم نحو الحلقة المغيبة من اتفاق الطائف، وهي الإسراع في تشكيل جبهة موحدة من القادة والمرجعيات الدرزية للمناداة بإنشاء مجلس شيوخ تكون رئاسته من حصتهم وذلك تماشيا مع المذكرة الدرزية التي رفعها كل من شيخ العقل محمد ابوشقرا والأمير مجيد أرسلان والأستاذ وليد جنبلاط إلى المسؤولين اللبنانيين عام ١٩٨٤ والتي طالبت بإنشاء مجلس الشيوخ واعتباره الأساس لضمان حقوق الطائفة وتأمين المشاركة في الحكم.
إن الزعماء الدروز مدعوون للتسليم بأن زمان الصراعات في ما بينهم قد انتهى ، وأن التوترات التي نشهدها في الجبل هي مؤشر على دخول المنعطفات الخطرة، وأن وحدة الطائفة حول مصيرها والتمسك بحقوقها تتوقف جميعها، على التجرؤ في التخلص من نظرية الأحادية الجنبلاطية ، لحساب ثقافة التعددية والحرية والديمقراطية ونبذ كل اشكال الهيمنة والتفرد والاقصاء والتهميش والتخوين ، والمدخل في أي مشروع لتعزيز مصالحها وتحديد هويتها يبدأ بمطلب مجلس الشيوخ، الذي بات ملحاً أن يحسم أمره كبديل عصري لتثبيت الحقوق والعبور نحو دولة حديثة تتجنب المخاطر والأعاصير.
**