الأردن ليس على ما يرام هذه الأيام. فالرسائل التي تبلَّغها الملك عبدالله الثاني واضحة وجازمة: لا مفرَّ من القبول بالكونفدرالية الفلسطينية – الأردنية، بحيث يكون للفلسطينيين الحقّ في المواطنة في الأردن.
وهذا يعني، بالنسبة إلى الملك، تحويل الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين. ولذلك، هو عبَّر عن رفض واضح للمشروع، ومقاطعة لمؤتمر البحرين الذي يُراد له إنشاء خطة ضخمة ومتكاملة للتمويل، يتولاها أثرياء العرب.
طبعاً، رفض الملك لن يؤخذ في الاعتبار، لأنّ المشروع الذي يجري تحضيره للشرق الأوسط أكبر من قدرة أي جهة أو فردٍ على الرفض. ومعلوم أنّ اضطرابات «الربيع العربي» وانقلاباته وحروبه طاولت كثيراً من الدول العربية المعنية بالنزاع مع إسرائيل، لكنّ شرارتها في الأردن انطفأت وهي في المهد.
الأردن، كما لبنان، يُراد منه أن يكون جنّة آمنة لاستقطاب اللاجئين، لا لـ»تطفيشهم»، انتظاراً للحظة التسويات الكبرى التي يبدو أنّ موعدها يقترب سريعاً. ففي الأردن لم تندلع حربٌ أهلية كما في سوريا، ولا سقط النظام كما في مصر وتونس. ولا سقط النظام واندلعت الحرب الأهلية معاً كما في ليبيا، بعد العراق.
وهذه «المناعة» الأردنية ليست مجرد مصادفة. بل هي تدبير. إنها تؤشّر إلى أنّ الكيانات التي تحظى بتغطية إقليمية ودولية لا يهتزّ استقرارها الأمني والسياسي والاقتصادي مهما ترنّح… وأنّ الدول المكشوفة سريعة السقوط مهما اعتقدت أنها في مأمن.
ولبنان نموذج رديف للأردن. فكلا البلدين سيؤديان وظيفة واحدة في ملف اللاجئين الفلسطينيين. إلّا أنّ الوظيفة المُلقاة على عاتق الأردن أكبر. فهي قد تطيح بالهوية الوطنية الأردنية وتدمجها بالهوية الوطنية الفلسطينية. وفي هذه الحال، هل سيكون حتمياً استمرار النظام الأردني القائم حالياً، من دون تغيير؟
هنا يبدو لافتاً الكلام الذي يتردّد عن احتمال تعرّض العرش الأردني لضغوط مختلفة لكي يوافق على الجانب المتعلق به في «صفقة القرن». وعلى رغم من أنّ النظرة التقليدية للعرش الهاشمي، مع الملك عبدالله، وقبله والده الملك حسين بن طلال، هي أنه الحليف العربي المدلّل للولايات المتحدة والغرب، فإنّ الأمر باتَ مختلفاً اليوم. وطبعاً، لم تَظهر إسرائيل في أي يوم، مقبلة على التصادم مع العرش الأردني، كما هي اليوم.
يَجد الملك نفسه في وضعٍ مصيري: يبقى الأردن أو لا يبقى. ولكن، هناك متابعون ومحللون يعتقدون أنّ المرحلة المقبلة قد تضع الملك أمام خيار آخر: يبقى الاستقرار والنظام أو لا يبقى. وإذا اهتزّ استقرار الأردن، فسيهتزّ مصيره أيضاً.
هنا يجدر التفكير في ما كتبه أخيراً تسفي بارئيل، في «هآرتس»، عن الأردن. فقد أشار إلى ضغوط أميركية وإسرائيلية يتعرض لها الملك لإقناعه بدعم «صفقة القرن»، وإلّا فإنه قد يواجه «حالة انقلاب داخلي»، في ظل «الانتقادات المتزايدة لطريقة أداء العديد من المقرّبين» و«الاحتجاجات» التي ظهرت في الشارع أواخر العام الفائت. وتضمَّن المقال كثيراً من التفاصيل حول هذه المسألة.
طبعاً، هذه عيِّنة من المطالب التي يتلقاها الملك الأردني في الفترة الأخيرة. وسيكون عليه أن يواجه التحدّي: السير في الخطة أو رفضها على طريقة شمشون: «عَليّ وعلى أعدائي».
وفي الموازاة، هناك رقم من اللاجئين الفلسطينيين مطلوب من لبنان أن يبتلعه. هو رقم أصغر، لكنه كبير بالنسبة إلى مساحة لبنان وعدد سكانه. وليس واضحاً تماماً رقم النازحين الفلسطينيين في لبنان، بعدما تمّ «تَنحيفه» من نصف مليون تُسجّله «الأونروا» إلى 174 ألفاً في تقرير الإحصاء المركزي اللبناني – الفلسطيني… ربما ليصبح «أسهل على الهضم».
ليس هناك مخاوف من انقلاب في لبنان لمعاقبته على رفض المشروع… إذا قرَّر الرفض. فالتركيبة اللبنانية لا تلائمها الانقلابات. وإنما هناك انهيارات اقتصادية ومالية ممكنة، عندما تقرر الدول المانحة ذلك.
فلبنان اليوم يرتكز إلى المساعدات الخارجية ليتمكن من الاستمرار. وفي أي لحظة، يمكن أن تتوقف المساعدات فيقع الانهيار الاقتصادي والمالي، وتواكبه حتماً اضطرابات سياسية وربما أمنية. والوضع الحالي، الرديء، يرشّح لبنان لـ«يرفع العشرة» سريعاً على رغم «العنتريات» المسموعة أينما كان ضد التوطين، والدعوات الفلسطينية إلى اجتماعات طارئة مع لبنان للمواجهة.
هذا الإرباك في الأردن ولبنان يلاقي الإرباك الفلسطيني الذي بدأت تتّضح تجلياته أيضاً بإنهاء «الأونروا» في شكل تدريجي. وقد عبَّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الرغبة في ذلك بوضوح.
ويبلغ عدد لاجئي 1948، المسجلين في الوكالة التي نشأت في العام التالي، مع ذرّيتهم اليوم، قرابة 5,4 ملايين شخص. وهم يقطنون في شكل رئيسي في الضفة الغربية وغزة والأردن ولبنان وسوريا. وتالياً، هذه هي مناطق عمليات «الأونروا» رسمياً.
وأما خارج هذه المناطق، فالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين هي التي تعمل على مساعدة اللاجئين الفلسطينيين. ما يعني أنّ انتشار الفلسطينيين في الشتات، خارج رقعة «الأونروا»، يحرمهم من امتياز. فاللاجئون الفلسطينيون تمَّ استثناؤهم، بصورة خاصة ومقصودة، من اتفاقية العام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين والبروتوكول المنبثق منها في العام 1967، ما داموا يتلقّون المساعدات من «الأونروا».
ولكن، يمكن أن يتوقف عمل المنظمة إذا توقّف تمويلها. والولايات المتحدة هي أكبر المانحين يليها الاتحاد الأوروبي. وفي العام 2018، برز عجز إجمالي في موازنة «الأنروا» مقداره 146 مليون دولار، بسبب تجميد الدعم الأميركي، الأمر الذي وضعها في أزمة مالية غير مسبوقة وهَدّد عملياتها. ولولا حملة التبرعات العالمية التي قَلّصت العجز لَتوقّفت عملياتها، علماً أنّ الوكالة خفّضت إنفاقها بنحو ملموس احتياطاً.
وفي الخلاصة، استحقاق التوطين الفلسطيني بدأ يقرع الأبواب فعلاً. ولا يبدو أحد في الشرق الأوسط قادراً على اعتراضه. والكثيرون ربما يلتزمون الصمت اليوم لأنهم يرون مصلحة في التوطين أو أنهم قبضوا الثمن في أمكنة أخرى. لكنّ بعض الذين يملأون الدنيا صراخاً، رفضاً للتوطين، ربما يكونون أيضاً جزءاً من المسرحية.
**