يشكل التصعيد بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الاسلامية في ايران سابقة خطيرة في علاقة البلدين التي تشهد حالة من التوتر وان بقيت ضمن سقف محدد مع تسجيل مؤشرات بين فترة وأخرى، تتخطى الإطار المتعارف عليه بين الطرفين.
وبالعودة إلى طبيعة المطالب الأميركية – الايرانية المتضاربة، ثمة ارتباطات اقليمية ودولية بأطراف أخرى، الأمر الذي يزيد الأزمة توتراً وتصعيداً؛ لكن الثابت في مجملها قدرة الطرفين على إيجاد مساحات مشتركة للتفاهم، وإن بطرق وسيطة وغير مباشرة على تفكيك المسائل الشائكة الأكثر تعقيداً بطرق تترك الأبواب مفتوحة لأي تسوية تقلص من حدة الاشتباك وتعيد امتصاص حدود التوتر والتصعيد إلى مستويات مقبولة، ومتعارف عليها بين الجانبين.
ورغم وصول الازمة بين واشنطن وطهران هذه المرة إلى مستويات يعدها الخبراء الدوليون غير مسبوقة، فإنها لم تصل إلى حد اعتبار طرق العودة مغلقة، وبالتالي الذهاب إلى صدام عسكري مباشر. ففي أحلك الظروف التي مرت فيها العلاقات بين الجانبين كنا نشهد في السابق قنوات سياسية ودبلوماسية حافظت على حد أدنى من تخفيف حدة الاشتباك والابقاء على إمكانية التفاهم على جوانب عديدة من القضايا المثارة، وإن كانت تتمظهر بتصعيد عالي النبرة والسقوف.
ولكن هل التصعيد الاميركي _ الايراني سيؤدي هذه المرة إلى حرب شاملة في المنطقة وتهديد السلم والامن الدوليين ؟ أم أن الطرفين سيعودان إلى مسارات غير عسكرية وحلول سلمية سبق واعتمدت لخفض حدة المواجهة؟
إن التدقيق في مسار العلاقة بين الطرفين يرتبط في النهاية في مستوى المطالب والشروط والإجراءات المتبادلة وإمكانية ضبطها و احتوائها والتفتيش عن طرق بديلة لتخطيها عبر وسائل وسبل امتهن الطرفان في إيجاد مخارج لها وتأمين الأرضية المناسبة الذاتية والموضوعية؛ للبناء عليها، وفقاً لاعتبارات ومعطيات متنوعة تتلاءم ومستوى المصالح والغايات المطلوب تحقيقها، والتي عادة ما تتقاطع أو تتباين عند خط مطالب وظروف أخرى إقليمية ودولية، مترافقة للتصعيد بين الطرفين.
وربما الخلاف الاميركي – الايراني القائم وما يدور حالياً حوله، يتعلق بجوانب استراتيجية نوعية بأبعاد إقليمية ودولية عالية المستوى؛ بعد اعلان ترامب تملص ادارته من الاتفاق النووي مع ايران؛ الا ان ايران سرعان ما تعاملت مع الازمة بحنكة ودراية عالية المستوى و في أُطر منضبطة يمكن السيطرة عليها، واحتواء النتائج المتوقعة منها.
فعلى الرغم من ظهور وقائع ومؤشرات حساسة ودقيقة تنذر بإشعال حرب إقليمية، فإن التدقيق في تفاصيلها يشير ببقاء المشهد السياسي في سياقات غير منفلتة وقابلة للاحتواء في حدود وأطر سياسية و دبلوماسية، وإن بدت في جوانب منها غير مألوفة وعالية التوتر؛ وذلك يرتبط بالنتيجة بالخوف من الانزلاق إلى مواجهات عنيفة متنقلة في اليمن والعراق ولبنان والتي من الممكن أن تكون نتائجها السلبية، أكبر مما يمكن استثماره سياسياً واقتصادياً، وحتى في القضايا الجيوسياسية في المنطقة، وهو أمر حرص عليه الطرفان، وإن بمستويات متفاوتة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، رغم التشدد الاميركي في المواقف المعلنة تجاه البرنامج النووي الايراني فإنه لم يتخذ مواقف وخطوات ذات طبيعة تنفيذية مباشرة، الامر نفسه ينطبق ايضا على الموقف الايراني الذي لم يسلك طرقاً يستشف منها استثمار طهران أذرعها الخارجية في مواجهة بعض الوقائع والضغوط المفروضة عليها؛ وبالتالي لم تفرز هذه السياقات من التعامل بين الطرفين وقائع استفزازية جديدة، تنقل أطر العلاقات الساخنة والمتوترة إلى مستويات عسكرية غير مرغوب بها إيرانياً وأمريكياً.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى موقف ترامب وإن بدا أكثر تشدداً، لكنه عكس بالمقابل صراحة عدم الذهاب إلى اعلان مواجهة عسكرية مباشرة ضد ايران؛ وهذا ما ظهر جليا من خلال حديثه عن إمكانية إيجاد قنوات اتصال مع طهران عبر أطراف أخرى كسويسرا التي تقوم بإدارة العلاقات بين الطرفين دبلوماسياً، أو عبر تنشيط الدبلوماسية الاميركية من خلال الزيارات التي قام بها وزير الخارجية مايك بومبيو إلى روسيا والعراق اضافة إلى جولات مكوكية يقوم بها دبلوماسيين أمريكيين زاروا عواصم معنية بالملف، دون ان ننسى أيضاً تنشيط الدبلوماسية الإيرانية؛ كزيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى طوكيو على سبيل المثال لا الحصر، وزيارة وزير خارجية عُمان إلى طهران.
إن الوقائع والمؤشرات التي تمت قراءتها بدقة متناهية، والسلوكيات التي تم اتباعها من قبل الطرفين حتى الآن، تشي برغبة واضحة في إبقاء الستاتيكو الحالي في مستويات قابلة للاحتواء، فلا طهران قادرة حالياً على فتح سياقات تصعيدية، تؤدي إلى صدام عسكري مباشر، ولا الظروف الإقليمية تسمح للادارة الاميركية حالياً للذهاب نحو الحرب، و ذلك على الرغم من وجود الكثير من الصور التصعيدية ظاهرياً، لكنها لا تشير إلى امكانية حصول مواجهات غير مباشرة وانها قابلة للاحتواء أقله مرحلياً.
**