ربما هي الصدفة تلك التي تجمع اليوم بين ذكرى رحيل أمين التعبئة في حزب التوحيد العربي الرفيق غازي عبد الخالق وبين ذكرى تأسيس الحزب في السادس والعشرين من شهر أيار 2006.
وبينما يستعد التوحيديون هذا العام للاحتفال بالذكرى السنوية لتأسيس حزبهم، وفي انجاز الترتيبات الاحتفالية عن ازاحة الستار عن نصب شهيد بني معروف محمد أبوذياب في احتفال حاشد سيقام بالمناسبة في بلدة الجاهلية والذي سيشكل جمعا وطنيا شعبيا حاشدا يرعاه الوزير وئام وهاب ويشاركه الحضور الأمير طلال ارسلان والنائب فيصل الداوود وحشد من رجال الدين إعلانا عن التمسك بالثوابت التي أفنى الشهيد أبوذياب سنوات عمره في الدفاع عنها، يطل من بعيد طيف الأمين غازي عبد الخالق من وراء الأبعاد الغائمة.
هي ذكرى تحمل رائحة أمة ووطن. فكل روايات أبو وائل وأحاديث دروبه، تأخذنا الى أبعد مدى. نرى فيها ذوب أرواحنا وأماسي نضالاتنا العسيرة، على امتداد طريق طويل. هو ذاكرة نزهو بها، غَدت هي الأعز، والأقوى، في مواجهة المحن. تعلمنا منه، كيف نسمو على الجراح، وكيف نتفاءل ونتشبث بكبريائنا حتى وإن مضت بنا الأيام، الى وجهة لا نعلم مسارها.
نستمد ذرائع البقاء والثبات، من صور الأمكنة التي ألفناها مع أبو وائل، فلا تغيب تفاصيلها ولا شخوصها. طيف الرجل، ما زال يُطل علينا، وما تزال ملامحه قريبة من عيوننا، ومسيرته حاضرة تضج بلقطاتها، وإن كان فقده، يشي في كل يوم، بغياب جديد، وبرحلة جديدة.
في أوقاتنا الراهنة، نقترب من طيفك يا ” غازي” أكثر فأكثر، يفتش كل واحد منا عن شىء يشبهك أو يشبه صلابتك وعنفوانك .وفي تدرجات الألوان، في كل صورة لأبي وائل ، نفتش عن براهين الجدارة في استمرار المسيرة. إن طائر الفينيق ذاك، هو الشاهد على عنادنا الأول، وعلى جسارتنا الأولى، وعلى غربة الحنين، وعلى الأشواق الثكلى، لذا فإن فقيدنا الغالي في دروب الغياب، يبثنا الأمل والإحساس بالعز والفخار.
كم كان مؤلماً غياب العزيز غازي، وكم هو مؤنسٌ طيفه المُستعاد. إن الأسعد حظاً بيننا، هم أولئك الذين فاز كل منهم بنصيب أوفر من أي مشترك مع أبو وائل سواء كان همسة أو رحلة أو طُرفة أو حتى عتاب.
لقد أبكر “غازي” في رهانه على دور التوحيد العربي بقيادة وئام وهاب وفي إمكانية مساهمته في الدفاع عن قضايا الأمة وفي طليعتها القضية الفلسطينية ، وأن يشارك ومن موقع متقدم مع أحرار العالم الذين ما زالوا يعملون لهدف التغيير.
لقد أدرك الأمين غازي أن مشروعه التوحيدي لا يمكن أن يكون إلا في هذه الضفة من المواجهة مع “إسرائيل”، ولذلك فقد كان يفاخر بنَسَبِه العربي لأنه كان يؤمن أن ما تختزنه أرض الأجداد من تراث مرتبط بفلسطين، لن يندثر بفعل الهجمة الشرسة والمستمرة على المنطقة.
يستطيع رفيقنا غازي أن يطمئن اليوم في عليائه إلى أن قضية التغيير الذي آمن بها وعمل من أجلها اجتذبت الكثيرين من أحزاب المعارضة في الجبل وأن المسافة التي باعدت في ما بينهم قد ضاقت كثيراً.
بالأمس ارتجت الارض ..اهتزت بقوّة الصمت المعرش في روح المناضلين.. بالأمس انحدر صديقي الجبار .. متسلقا سفح الغياب متوجها نحو الأبدّية.
رحل غازي عبدالخالق .. ورحلت معه الأحلام.. لكن طيفه.. طيف البارحة مازال عالقا في الذاكرة..
رحل باجنحة من رماد وذكريات …رحل خارج فضاء زوجته هيام وولديه زينة ووائل وجميع رفاقه وأهله ومحبيه..
ينام أبو وائل .. ويغمرنا الإحساس شبه اليقينيّ، بأنه لا يمكن أن يكون غافلاً عمّا يحدث بعد رحيله ربما نرقبُ نحن المشهد الحاضر الآن، لكن من يدري، لعلّه هناك في الأعالي، يُطلّ من إحدى النجمات، يبتسم، ويرى المشهد إلى نهاياته.
في ذكرى غيابك يطل طيفك يا رفيق الدرب كمنارة توحيدية شعّت من بلدتك مجدلبعنا على لبنان وكل أحرار العالم ، لأن تاريخ مجدلبعنا الناصع يشهد لها أنها كانت عن حق بلدة المقاومين والمناضلين.
ولكن من قال أنك رحلت.. فالعظام وقوفاً يموتون. فأبو وائل قضى بطلاً واقفاً ممتنعاً عن الإنكسار، ليهرع المرتجفون والخائنون للانضمام الى الأحباء الحقيقيين، في تشييعه المهيب.
طوبى له حيثما يضجع الآن على مقربة من القدس وجبل الشيخ . ستظل سيرته، نبعاً لذاكرة المناضلين، نتعلم منها، أن الغزاة ذاهبون حتماً، وأن الأمة هي صنو الفطرة، وأن الأعداء لا عهد لهم ولا ميثاق، وأن الاستشهاد وقوفاً وامتناعاً على الطامعين، هو أحلى أنواع الموت وأعذبها. سيرحل من تبقى من المتواطئين غير مأسوف على سحناتهم، أما أبو وائل فإنه سيظل حاضراً في الضمائر، على الرغم من الفقد والغياب.
**