ماذا يعني قول رئيس مجلس النواب نبيه بري،”أن المجلس سيمارس دوره الرقابي بأقصى الدرجات، وأن ما قبل جلسة الثقة شيئ وما بعدها شيئ آخر”؟
وهل أن إعلان دولة الرئيس ايلي الفرزلي التحضير للدعوة لعقد جلستين متتاليتين للمجلس النيابي، في النصف الأول من آذار، واحدة لإنتخاب المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، والثانية تليها مباشرة، وهي جلسة تشريعية لإقرار القوانين المنجزة والملحة، يليها عقد جلسة رقابية، في النصف الثاني من آذار، يمكن وضعه في إطار انطلاق قطار محاربة الفساد الفعلية؟ وما هو تحديداً دور المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وهل هو قادر على ممارسة دوره في تحديد الارتكابات والمخالفات؟
أسئلة كثيرة تُطرح، في كل مرة يتم فيها انتخاب أو تعيين أعضاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، المؤلف حسب قانون إنشائه من نواب وقضاة، والآلية المعقدة التي تتحكم بمسار عمل هذا المجلس، خصوصاً لجهة تأمين ثلثي عدد أعضاء مجلس النواب أي 86 نائباً لاتهام أي وزير بالمخالفة، أو الارتكاب. وهو الأمر المتساوي مع تأمين نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية!
تختلف الطرق التي تعتمدها الدساتير في محاكمة الرؤساء والوزراء. فالبعض يعطي هذه الصلاحية لمجلس النواب والبعض الآخر ينيطها بالقضاء. وهناك طريقة ثالثة اعتمدها الدستور اللبناني بعد تعديلات الطائف وهي طريقة مختلطة حيث يتألف المجلس الأعلى المنصوص عليه في المادة ٨٠ من الدستور “من سبعة نواب ينتخبهم مجلس النواب وثمانية من أعلى القضاة اللبنانيين رتبة حسب درجات التسلسل القضائي أو اعتبار الأقدمية إذا تساوت درجاتهم ويجتمعون تحت رئاسة ارفع هؤلاء القضاة رتبة وتصدر قرارات التجريم من المجلس الأعلى بغالبية عشر أصوات. وتحدد أصول المحاكمات لديه بموجب قانون خاص”.
وتنص المادة ٦٠ الخاصة بمسؤولية رئيس الجمهورية على ما يلي:” لا تبعة على رئيس الجمهورية في حال قيامه بوظيفته إلا عند خرق الدستور أو في حال الخيانه العظمى”.
لقد شهد قانون المجلس الأعلى سوابق متعددة في محاولة إقراره. كانت الأولى بموجب المرسوم الرقم 4132 في 25 آذار/مارس 1966، حيث أحيل مشروع القانون على مجلس النواب، في عهد الرئيس شارل حلو وحكومة الرئيس رشيد كرامي، إلا أنه بقي في أدراج المجلس. والثانية كانت من خلال اقتراح قانون قدمه رئيس لجنة الادارة والعدل بالإضافة إلى اقتراح النائب أنور الخطيب الذي وضعه في كتاب “المحكمة العليا في لبنان ومختلف الدول العربية والغربية” عام ١٩٦٦ وصولا إلى مطلع الثمانينيات، عندما تقدّم النائب ناظم القادري باقتراح للقانون، لم يلق هو الآخر أي إستجابة.
وبعد ذلك، جرت محاولة من رئاسة مجلس النواب، للسير في مشروع قانون تنظيم المجلس الأعلى وأصول المحاكمات أمامه. فتشكّلت العام 1987 لجنة خاصة، برئاسة نائب رئيس المجلس المرحوم الدكتور ألبير مخيبر حينذاك، لدرس اقتراح النائب القادري، وأنهت اللجنة دراستها خلال ثلاثة أشهر وعرضتها على اللجان النيابية المشتركة، التي أضافت عليه تعديلات أساسية.
وتنفيذًا لما جاء في وثيقة الإصلاح الوطني العام 1989، قدّمت الحكومة اللبنانية مشروع قانون أصول المحاكمات لدى المجلس الأعلى، الذي صدر بالقانون الرقم 13/90، في 18 آب/أغسطس 1990، ليصبح هذا المجلس المرجع الوحيد الذي يمكن أن يحاكم الرؤساء والوزراء، على عكس النواب الذين يحاكمون في المحاكم العادية.
وفي حين إن إعطاء المجلس الأعلى، وفق ما نصّ عليه الدستور في المادتين 60 و70، صلاحية محاكمة رئيس الجمهورية لعلّتي خرق الدستور والخيانة العظمى وحتى لإرتكابه الجرائم العادية، ومحاكمة رئيس الوزراء والوزراء لإرتكابهم الخيانة العظمى أو لإخلالهم بالموجبات المترتّبة عليهم يجعله ليس محكمة سياسية فحسب وإنما أيضًا محكمة جزائية إستثنائية، إذ إن مهماته الأساسية تكمن في محاكمة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء بالجرائم المسندة إليهم. وتتأكّد هذه الصفة الجزائية بطبيعة إجراءات الإتهام المتبعة أمام المجلس النيابي الذي أعطي صلاحية إستثنائية ألا وهي حق تحريك الدعوى العامة مكان النيابة العامة، وبطبيعة إجراءات التحقيق أمام لجنة التحقيق.
إلا أن ذلك لا يمنع من توجيه بعض الملاحظات المتعلقة بتركيبة المجلس الأعلى وآلية عمله المعقدة إذ أن التجارب لا توحي بالأمل والثقة في دور هذا المجلس وفعاليته، ما لم يتم تعديل قانون إنشائه الصادر منذ عام 1990.
فعلى الرغم من الأهميّة التي يتمتّع بها هذا المجلس من الناحية القانونيّة، في إطار المساءلة والمحاسبة على أعلى المستويات، إلا أنه يجب التنبّه إلى نقطة أساسية، والتي تجعل من المجلس دون أيّ فعاليّة، حيث أنّ الأعضاء السبعة من النواب من المفترض أن يتمّ التوافق عليهم بين الكتل النيابيّة الأساسيّة، كما أنّ التدخّلات السياسيّة من المؤكّد أنها ستنعكس على الأسماء التي سيتمّ تعيينها من قبل المجلس الأعلى للقضاء.
وإذا كان هناك من نية جدية لمحاربة الفساد ومحاكمة المسؤولين المرتكبين يتوجب بداية تبسيط آلية عمل هذا المجلس وتعديل قانونه لجهة آلية الاتهام والإحالة. وبالتالي يصبح وجود المجلس الأعلى كهيئة برلمانية – قضائية أمر ضروري بعد وجوب تعديل الآلية لتفعيل عمل المجلس والاقلاع عن النص القانوني الذي يستوجت توفر أكثرية الثلثين لتوجيه الاتهام الامر الذي انعكس على فعالية عمل المجلس الذي بقي ضمن النظريات القانونية المكرّسة في نصوص دستورية وتشريعية صريحة، حيث لم تجر أية محاكمة من قبله لغاية تاريخه.
وفي هذا المجال نعتبر أن المجلس الأعلى؛ ووفقا للقانون القائم حاليا؛ انه وضع لحماية الرؤساء والوزراء ولتغطية مخالفاتهم وارتكاباتهم؛لأن من يخالف القانون بالدرجة الأولى هو الوزير في لبنان؛ فهناك مئات الارتكابات من الوزراء التي تحصل يوميا دون حسيب او رقيب وفي ظل عدم وجود رادع قانوني؛ الأمر الذي يستدعي ضرورة المطالبة بإلغاء هذا المجلس واستبداله بمحكمة عدل الجمهورية كما الحال في فرنسا والتي تتألف من ١٥ قاضيا : ١٢ برلماني منتخبين مناصفة من قبل الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ بعد تجديد كلي او جزئي لهاتين الجمعيتين البرلمانيتين ومن ثلاثة قضاة حكم لدى محكمة التمييز ويترأس أحدهم محكمة عدل الجمهورية التي تندرج صلاحياتها في اطار تلقي الشكاوى عبر هيئة قبول الشكاوي من كل شخص يدعي تضرره من جنحة او جرم ارتكبه أحد أعضاء الحكومة في ممارسة وظائفه حبث تقوم الهيئة المذكورة بحفظ الشكوي أو احالتها إلى المدعي العام لمحكمة التمييز بهدف تقديم مراجعة أمام محكمة عدل الجمهورية؛ وإما تعديل الاكثرية المطلوبة للاتهام؛ ذلك ان اشتراط اكثرية الثلثين من مجموع اعضاء المجلس تعطل عمليا عملية الاتهام مما يشجع على الارتكابات والمخالفات؛ وبالتالي الاكتفاء بالاكثرية المطلقة من مجموع النواب الذين يؤلفون المجلس.
على ضوء ما تقدم حول موضوع المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء يمكننا ان نبقى متفائلين ولو بحذر في امكانية تفعيل المجلس وتصحيح مسار عمله بتجاوز سلبياته والتأكيد على ايجابياته وفي الدور الذي يمكن ان يقوم به المجلس بارتقائه إلى مستوى طموحات اللبنانيين الكبرى. والا فان الفشل؛ لا يشكل ادانة للمجلس الأعلى وحسب؛ بل الغاء لوجوده وربما لدور البرلمان اللبناني في مساءلة ومحاسبة السلطة التنفيذية؛ والدخول في نفق مظلم جديد له اول وليس له آخر.
**