دأبت قوى التحالف المعادية لأمتنا على صياغة أوضاع جديدة في المنطقة كي تضمن هيمنتها عليها في مختلف الميادين، الإقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد” الذي يقصد منه ضرب الهوية العربية والإسلامية للمنطقة، وبكل ما تمثله هذه الهوية من قيم ومبادىء تحض على الوحدة القومية، والسيادة الوطنية، ورفض كل المساعي لإلغاء وتهميش الذات العربية، ذلك أن القوى المعادية تجد في الهوية العربية الإسلامية، عقبة تسعى لإزاحتها من طريق مخططاتها، ولتحقيق هذه الغاية عملوا لإقامة هيئات إقليمية شرق أوسطية لتكون بديلاً عن إقامة منظمات إقليمية عربية أوسع في إطار وحدوي والسوق المشتركة العربية، وهدف القوى الإستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، العمل على إدخال “إسرائيل”، هذا الكيان الصهيوني في نسيج المنطقة وتطبيع العلاقات معه، وإقامة عرى التعاون في مختلف الميادين، وبنفس الوقت أن يتم تهميش القضية الفلسطينية ورفض حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال الوطني، وللقفز عن هذا الموقف تكررت الدعوات الى الكونفدرالية مع الأردن خلال العقود الماضية، مما يؤدي الى طمس الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني والتنكّر لحق العودة.
وفي أعقاب حرب الخليج والتحولات التي جرت على النطاق العالمي إثر تفكك الإتحاد السوفياتي، أصبح الدعم الأميركي مباشراً للكيان الصهيوني بالتوازي مع دور أميركي لإنجاز إتفاقات “سلام” بالرعاية الكاملة وبالتفاصيل المتفرعة، مما يؤكّد بأن الحركة الصهيونية وسياستها إنما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة الأميركية، وهي في خدمتها كونها ثكنة متقدمة في قلب الوطن العربي، لذلك تركز الدعم الأميركي لـ “إسرائيل – الكيان” على مستويات قياسية وتعزز خلال عهد إدارة الرئيس كلينتون، والطاقم الأميركي المكلف بمتابعة ما يجري في المنطقة في عملية المفاوضات، ترأسه إثنان معروفان بولائهما للصهيونية وهما دنيس روس ومارتن أنديك.
وعملت الشرائح المهيمنة والمتنفذة العربية على إنجاح المشاريع والمخططات الأميركية التي تخدم “إسرائيل – الكيان”، وإتفاقيات كامب ديفيد فتحت المجال للهيمنة الأميركية والإسرائيلية في مصر والمنطقة.
والشرائح العربية في سدة الحكم لعبت دور السمسار لمد الهيمنة على الوطن العربي عبر الإتفاقيات المماثلة لاحقاً، وهدفها إنجاز عملية تطبيع تتيح لأميركا وأداتها “إسرائيل”، الهيمنة على مقدرات الوطن العربي ونهب موارده وخاصة النفطية، واستخدام الدول التابعة في خدمة أهدافه في المنطقة، وإتاحة المجال للكيان الصهيوني “إسرائيل” ليكون في نسيج تلك الدول حليفاً لحمايتها وتغيير إتجاه البوصلة في إتجاه آخر نحو إيران وخلق عدو وهمي والخاسر في هذا المجال القضايا العربية وأولها القضية الفلسطينية المهددة بالتصفية.
من هنا نفهم الحصار الذي يستهدف إيران ومنعها من تصدير نفطها، وليس صدفة أن ينطلق قطار التطبيع والهيمنة على منابع النفط في هذا الوقت، وتتولى حلقات الصدمات التطبيعية بعد زيارة رئيس حكومة العدو الصهيوني، لمسقط، واستقباله بحفاوة بالغة، وكذلك تجوّلت وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغيف في مسجد الراحل الشيخ زايد في أبو ظبي الذي تزعم حظر النفط تضامناً مع أبطال حرب تشرين المجيدة عام 1973، وأطلق عبارته التاريخية “النفط ليس أغلى من الدم”، وعُزف النشيد الوطني الإسرائيلي في الدوحة إحتفالاً بفريق الجمباز المشارك في دورة رياضية فيها.
وبعد كل هذه “الضربات التطبيعية” يقف وزير المواصلات الإسرائيلي يسرائيل كاتس في منبر دولي للنقل بدأ أعماله يوم 6/11/2018 في مسقط للكشف “عن مشروع خط سكك حديدية يربط ميناء حيفا الفلسطيني بالأردن والسعودية ومنها الى الدول الخليجية الأخرى، ويشرح الفوائد الجمة لقطار التطبيع هذا التي ستجنيها دول الخليج من جراء إقامته سياسياً واقتصادياً”.
أي قطار هذا الذي يسمونه “قطار السلام” الذي يأتي الإعلان عن مشروعه في تزامن محسوب مع بدء تطبيق الحزمة الثانية من العقوبات الأميركية على إيران التي تقود محور المقاومة والممانعة.
واللافت هو الترويج الإسرائيلي لهذا المشروع الذي يلقى دعماً أميركاً، وقولهم إن هذا المشروع يخدم الخطط الخليجية في مواجهة “الخطر الإيراني” الذي يهدّد المنطقة وأمنها واستقرارها.
بالتأكيد، يأتي هذا في حال وزمن الهوان العربي، حيث يجد الإسرائيليون بأن التربة باتت مهيأة والفرصة سانحة لوصولهم الى منابع النفط العربية في الخليج والسيطرة عليها وعلى اقتصادها.
في الواقع تعمل قوى الهيمنة الاستعمارية الأميركية – الصهيونية التمهيد لزعامة المنطقة وقيادة حلف “الناتو العربي السُنّي”، ليس من الصدفة أن يربط مشروع القطار عواصم هذا التحالف؟!.
وكثيرة هي التساؤلات، ماهي حاجة دول الخليج والسعودية للوصول الى المتوسط وهي التي تطل على بحار “الخليج وبحر العرب والبحر الأحمر وخليج العقبة”، وإذا كانت هناك حاجة من باب “الفرضيات”، لماذا تكون عبر ميناء حيفا وليس عبر الموانئ العربية؟!.
ما يجري هو عملية كاملة من التنازلات والهوان بدأت مبكراً “منذ مشروع فهد للسلام والمبادرة العربية للسلام” ولكل منها ظروفها وحاجاتها وأثمانها، إنه مسلسل التطبيع الذي ينتقل من السر الى العلن وحيث اللعب أصبح على المكشوف، وفي هذا التوقيت تحوّلت “مبادرة السلام العربية” الى ملحق في ذيل “صفقة القرن”، وبدأ تطبيقها بعكس ما هو معلن بحيث أصبحت المصالح الإسرائيلية أولاً وأخيراً، أي البدء بالتطبيع أولاً والى ما لا نهاية! دون قيام الشق الأساسي الذي بنيت عليه المبادرة يومها وهو قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
وما دور الأردن في هذه الحالة؟ إنه مجرد “حصان طروادة” في تطبيق هذا المخطط إذا إنتقل الى مرحلة التنفيذ، وكون الأردن منخرط في مشروعين: الأول قناة البحرين التي تربط البحر الأحمر بالبحر الميت، وإتفاق الغاز الإسرائيلي لمدة 15 عاماً، لذلك في حال تطبيق مثل هذه المشاريع ستكون على حساب الأردن وهويته في نهاية المطاف إذ ربطنا بذلك لمشروع الكونفدرالية مع الضفة الغربية وأهدافها البعيدة والقريبة “تصفية القضية الفلسطينية” وخلق جدار جديد أمام قوى المقاومة والممانعة والهدف إثارة النزاعات الى مدى غير منظور، أي إلحاق الأردن بالمشروع الصهيوني.
هذا يعني أن “قطار التطبيع” ليس قطار سلام وإنما قطار استسلام للمشاريع التي تمهّد للهيمنة على اقتصاديات العرب وثرواتهم النفطية، وتدمير هويتهم الوطنية وإلحاقهم بالمشاريع الأميركية والصهيونية كعبيد وأتباع ونواطير.
ومشروع “الشرق الأوسط الجديد” هو مشروع أميركي طرحه الرئيس بوش الأب عندما تحدث عن إقامة نظام إقليمي جديد تحت إشراف الولايات المتحدة في المنطقة، والهدف من ذلك إحكام القبضة الأميركية على المنطقة وثرواتها النفطية.
وقد ارتبطت خطة إقامة “النظام العالمي الجديد” مع ما يسمى بعملية “السلام” من أجل التسهيل على الأنظمة العربية التابعة، الإنخراط فيه، وتكون مهمته المباشرة تثبيت التسويات التي يمكن التوصل إليها في إطار المفاوضات الثنائية، وتبرير تقديم بعض الأطراف العربية للتنازلات وتجاوبها مع الطروحات الصهيونية.
وجوهر المشروع هو “أمني – سياسي – اقتصادي”، وأيضاً يتحسب التحالف الأميركي – الصهيوني من احتمال انهيار الأنظمة العربية التابعة أمام رياح التغيير، الأمر الذي يعرض للإنهيار ما أبرمته من صفقات تسووية، وللكيان دور إداري ووظيفي كقاعدة متقدمة ومصلحة أميركية في المنطقة.
ومخاطر هذا المشروع لا تتجاوز المخططات الصهيونية الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية بالإحتواء والتمزيق والإذابة، والقمع وفرض حل على حساب الشعب الفلسطيني ووجوده وتطلعاته وحقوقه الوطنية، ولكن جماهير شعبنا ومعه كل الشرفاء في أمتنا، لم ولن تنطلي عليها مثل هذه المشاريع، وسيستمر الصراع ولنا ثوابتنا بعيداً عن الأصوات المهزومة، وكل يوم يثبت بأن جماهير أمتنا قادرة على فرض معادلاتها الخاصة:
الحق يؤخذ ولا يُعطى، والعدوان يواجه بالمقاومة، والأرض تُحرّر بالتضحيات…