“لا يجدر بأحد أن يغفل الدستور”. هذا القول المأثور وإن أسيء استخدامه أحياناً أو خفّف السياسيون من وقعه غالباً، فإنه لم يبرح حافلاً بالمعنى. فإنه يشير الى كل واحد منا بضرورة العيش في كنف المجتمع والإحتكام الى القوانين التى تمّ سنّها جماعيا وفي إطار الدولة الدستورية الحديثة.
يعني ذلك على وجه الخصوص أن على كل فرد أن يعرف المبادىء الأساسية التي تحكم الدولة وعلاقتها بالمواطن. بيد أننا في كثير من الأحيان نتجاهل المعيار الأساسي الذي يحدّد هذه القواعد. فغالباً نكتفي وفي أحسن الأحوال بشذرات المعرفة أو اغتراب ثقافي تجاه بعض المفاهيم أو نلجأ في الحالات الأسوأ الى الصور النمطية و”ميثاق العيش المشترك” وبند “إلغاء الطائفية السياسية” واللامركزية الإدارية ومجلس الشيوخ في لبنان جميعها شذرات تفتقر الى الدقة وتعروها ذكريات غامضة من نص بقدر ما هو بعيد عن احترام الحكام والمسؤولين له وتطبيقهم إياه.
في الواقع إذا كان اللبنانيون لا يعرفون مجلس شيوخهم فهم نسوا بلا ريب أساسيات التوافق والتمثيل الحقيقي في ما بينهم، وعناصر رغبتهم في العيش معاً بعيداً عن كل أشكال الإقصاء والتهميش. فعدم إقرار مجلس الشيوخ منذ الإنقلاب على “إتفاق الطائف” منذ أوائل التسعينيات ليس سوى انعكاساً لإجترار السلم الأهلي المفروض جراء تضافر جهود إقليمية ودولية بموازاة الضجر من حروب لا طائل منها وبلا نهاية.
هذا الإنحراف المزمن، بلغ اليوم ذروته ويستوجب التفتيش عن آلية بديلة في الحكم تنقلنا من المراحل المؤقتة والفترات الإنتقالية الى صيغة توافقية جديدة بين اللبنانيين بعد السقوط البطيء والتدريجي للدولة وسوء فهم المعنى الحقيقي لتفاهمات الطوائف الدينية من حسن سير العمل في المؤسسات، دون أن ننسى التلاعب المنهجي في القوانين الإنتخابية وتحكم الطائفية في الإدارة… جميعها تشكّل عوامل متناقضة كان لها التأثير السلبي الحاد على التوازن المجتمعي الدقيق وهي عيوب شابت آليات عمل الجمهورية الثانية وربما تنذر بقيام الجمهورية الثالثة الكفيلة بالتخلص من الأمراض السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية داخل المجتمع.
إن مجلس شيوخ في لبنان بات من الأمور الملحّة في لبنان، وشرطاً أساسياً من شروط قيام الجمهورية المنشودة وهو مستلهم من مفهوم الصيغة التوافقية على قاعدة نظرية الفيدرالية الشخصية المختلفة عن الفيدرالية المناطقية التقليدية.
إن إقرار مجلس شيوخ في لبنان مبنياً على التمثيل الطائفي ينبع من تلك المقاربة. وهذا المجلس على النحو المنصوص عليه في المادة ٢٢ من الدستور من خلال تمثيل جميع العائلات الروحية وحصر صلاحياته في القضايا المصيرية أمر في غاية الأهمية، ولكن استكماله يتطلّب الإسراع في البت بآلية انتخاب أعضائه والتحديد الدقيق لمفهوم القضايا المصيرية الذي لايزال يكتنفه غموض ونظام التصويت وغيرها من الشروط التي لا يمكن العثور عليها في النص وهي أساسية لوجود مجلس الشيوخ.
وفي هذا الخصوص لابدّ من التشديد على أن فكرة إنشاء مجلس للشيوخ وارتباطه بتخطي الطائفية السياسية ليست عبثية في حد ذاتها. ويمكن لمجلس الشيوخ هذا أن يكون ضمانة للطوائف الدينية كعائلات روحية ذات مصالح خاصة. فالنظام المدني الذي نطمح إليه من شأنه أن يحترم الحقوق الدينية للطوائف مثل حرية الإعتقاد والعبادة والتعليم ونظام الأحوال الشخصية كما من شأن ذلك أن يُسهم في إحقاق اللامركزية الإدارية إذا لزم الأمر في وجه المركزية الشديدة من خلال التصويت الأولي على القضايا ذات الصلة بالسلطات المركزية ونظام انتخاب ممثلي الطوائف من خلال تصويت غير مباشر كما هو الحال في النموذج الفرنسي لنظام المجلسين مما يسهم في تحجيم دور الوجهاء المحليين وهو تأثير قوي جداً في السياق المحلي.
هذه جميعها أفكار متنوعة وجائزة نطرحها لإجتراح أفضل الحلول الممكنة لتجاوز الطائفية السياسية. فبوجود مجلس شيوخ كمؤسسة دستورية تملك من الصلاحيات التي تنحصر بالقضايا المصيرية وحق التشاور والبت في الأمور التي تمسّها يشكل ورقة ضغط لتجاوز الطائفية السياسية في مختلف المؤسسات الأخرى والعبور بالتالي الى رحاب الجمهورية الثالثة.