يختصر الرئيس سعد الحريري حصيلة مشاوراته مع الكتل النيابية بعد أكثر من ١٠٠ يوم على تكليفه تشكيل حكومة العهد الثانية بصفر نتيجة.
من المعروف أنه من خصائص النظام البرلماني أن تتجسّد فيه السلطة التنفيذية بشخصين مختلفين في وضعهما القانوني والدستوري: شخص أو عضو مستقر وهو رئيس الدولة، ملكاً كان أم رئيس جمهورية، وعضو جماعي هو الوزارة أو الحكومة، التي يرتبط بقاؤها بالسلطة بتمتعها بثقة مجلس النواب.
والدستور اللبناني شديد الوضوح بهذا الشأن، فقد أبقى التعديل الدستوري الصادر في ٢١/٩/١٩٩٠ على ثنائية السلطة التنفيذية، وإن كان قد أحدث تغييراً جذرياً في صلاحيات رئيس الجمهورية. ففي حين كان يخص الدستور قبل التعديل رئيس الجمهورية بسلطات دستورية واسعة حيث أناط السلطة الإجرائية به بمعاونة الوزراء، مما جعل منه سيد السلطة التنفيذية، إلا أنه وبموجب المادة ٦٥ الجديدة تغيّرت اللعبة الدستورية وباتت صلاحيات رئيس الجمهورية مناطة فيه من جهة، وبعضها الآخر برئيس مجلس الوزراء الذي خصّه الدستور بموجب أحكام المادة ٦٤ بصلاحيات خاصة فيما أبقى الدستور لرئيس الجمهورية على بعض الصلاحيات التي يمارسها بمشاركة رئيس مجلس الوزراء أو الوزراء المعنيين ما عدا بعض الصلاحيات الخاصة به مثل مرسوم استقالة الحكومة ومرسوم تعيين رئيس الحكومة.
وإذا كان دستور ما قبل الطائف قد عزّز دور رئيس الجمهورية على صعيد تأليف الحكومة، فأطلق يده في اختيار الوزراء، لكن وخلافاً لأحكام المادة ٥٣ القديمة، فإن طبيعة المجتمع اللبناني ومعطيات المشاركة فرضت بعد إتفاق الطائف فيما يتعلق بتشكيل الحكومة توقيع رئيس الحكومة الى جانب توقيع رئيس الجمهورية، وإن كان الدور الأساسي في عملية التشكيل هو لرئيس الحكومة، وبعد الإتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة حول التركيبة الوزارية يصدر رئيس الجمهورية المراسيم بقبول استقالة الحكومة القديمة وبتسمية رئيس مجلس الوزراء وأخيراً بتعيين الحكومة الجديدة بالإتفاق مع رئيس الحكومة.
أما إذا وقع الخلاف وتباينت الآراء كما هو حاصل اليوم بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري فما هو المنطق القانوني والدستوري لحل هذه الأزمة وإيجاد الحلول المناسبة رأفة بحقوق المواطنين وتسيير الشؤون العامة؟.
تتأرجح الإجابة على هذا السؤال بين المنحى السياسي من جهة، والدستوري والقانوني من جهة ثانية. ويزداد حظ هذا التأرجح عندما تقع المقاربة هي ذاتها بظروف دول المنطقة التي لم تتوافر لها حتى اللحظة الفسحة الزمنية الكافية بعد الهجمة “الداعشية” لإلتقاط أنفاسها، وبالتالي انعكاس هذا الوضع على الإستقرار والأمن في لبنان.
قد تبدو الكتابة حول مسألة تشكيل الحكومة في لبنان ترفاً فكرياً أو اوتوبيا في زمن لبناني تُخرق فيه المبادئ والثوابت وتُستغل رمزية القانون لإيهام الرأي العام بوجود ثغرات دستورية أو لممارسة معايير انتقائية.
لكن في هذه الأزمة بالذات الحاجة هي ملحة واكبر وأكثر ضرورة لإنقاذ دستور الطائف وقواعده من التلوث والإنتهاك وتوضيح المرجعية وتصويبها انطلاقاً من المواد الدستورية التي تحكم عملية تشكيل الحكومة.
يمكن التأكيد مع الحريصين على استمرارية الحكم أن الباخرة التائهة تحتاج الى تصويب بوصلتها كي لا تفقد الجمهورية ذاكرة مرتكزاتها الدستورية التي تشكّل في غالب الأحيان الإعراب المفقود في خطابات غالبية المسؤولين.
لا يتناقض البحث الدستوري مع الفعالية السياسية، بل على العكس فإن المواد الدستورية التي ترتبط بعملية تشكيل الحكومة هي الفيصل إما هو ممكن ولمواقع المظالم بدلاً من المقاربات العامة والإجتهادات المغلوطة والإطلاقية غير المسؤولة.
إن بعض ملامح الأزمة الحكومية التي نعاني منها اليوم في ظل نفق الإهتراء المالي والاقتصادي يمكن تلخيصها بمثال الرأس والطربوش! ففي حال عدم التطابق بين الرأس والطربوش فهل الحل في توسيع الطربوش أم تكسير الرأس؟ وفي حال يمكن اعتماد الحل الثاني أي تكسير الرأس، فهل يتنافى هذا الحل مع تشخيص الواقع بأن الرأس غير مألوف في ضخامته!؟ وهل المشكلة هي في تحديد كلفة ومنافع العملية؟ وما فائدة الطربوش بعد تكسير الرأس؟ وهل يصلح هذا الطربوش لرأس آخر؟.
تكمن المشكلة في وجود اغتراب ثقافي عند قوى سياسية تمرّست غالباً على تجاوز قضايا دستورية متعددة، ما فعله ويفعله ويعممه سياسيون، فساداً وإفساداً لا علاقة له بعملية تأليف الحكومة كما هو محدد ومحدود دستورياً وإن كان هناك غالباً استغلال لهذه القواعد الدستورية.
فالقاعدة الدستورية صريحة وواضحة في هذا المجال وإن تباينت الآراء من حولها فيما يبقى النص القانوني هو الحكم في ظل هذا الخلاف الحاصل بين الرئيسين عون والحريري حول التركيبة الوزارية، وعليه يصبح من الضروري العودة الى الدستور وإجراء قراءة هادئة لأحكام المادة ٥٣ التي تلحظ إمكانية وقوع تباين في الآراء بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف بتشكيل الحكومة وفي هذه الحالة ليس على الثاني من باب الحرص على تجنب أزمة دستورية في البلاد سوى الإعتذار.
بالمقابل، وفي حال عادت الأكثرية النيابية لتؤكد على تسميته مجدداً لتأليف الحكومة يكون رئيس الجمهورية ملزماً بالموافقة على ما يقترحه الرئيس المكلّف بخصوص الحكومة العتيدة. وهذا ما حدث عام ١٩٧٤ عندما أعلن الرئيس صائب سلام، لأول مرة في تاريخ الحكومات في لبنان، اعتذاره عن تأليف الحكومة لاختلافه مع رئيس الجمهورية في الأساس وفي تشكيل الحكومة.
ولكن يبقى علينا الإعتراف أن النص الدستوري لا يضمن ذاته، وضمانته في الفعالية تكمن غالباً خارج النص في بنية السلطة وموازين القوى البرلمانية والثقافة السياسية السائدة واستقلالية القرار الداخلي.