اللقاء الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي دونالد ترامب في العاصمة الفنلندية هلسنكي، يوم 15 تموز 2018، سيقال عنه الكثير من التحليلات والقراءات، وكل سينظر إليه برؤية مختلفة عن الآخر كونه محل جدل كبير بعد سنوات من الصراع المتعدد الأوجه والأبعاد، لكنه يدور على ساحة ما يسمى منطقة الشرق الأوسط ونتائجه ستمس المعادلات الإقليمية والتوازنات الدولية، ويمكن القول إن هذا اللقاء فرض نفسه، ولكن ما الذي أوصل الأمور الى حد هذه الفاصلة؟! والبحث عن تفاهمات جديدة سيكون لها ما بعدها على صعيد المنطقة والعالم.
لقد تبدّلت المعطيات على الأرض بشكل جذري من خلال الإنتصارات المتلاحقة التي يحققها الجيش العربي السوري ومحور المقاومة بأكمله، لم يعد بالإمكان مواصلة المؤامرات بعد أن إنكشفت مخططات حلف واشنطن وأدواته الذي دخل المنطقة مدّعياً بمحاربة الإرهاب كـ “داعش” وغيرها، وهو بذلك إستخدم الأمر لضرب الدولة السورية كبنى تحتية ومواقع عسكرية ومدنية، ومتجاهلاً كل الأعراف الدولية، وحاول حلف واشنطن وأدواته وإرهابييه تحقيق أي نصر كي يستطيع من خلاله اللعب بالورقة السياسية للمنطقة ككل وتداعياتها الأممية لاحقاً.
ولكن مع إقتراب موعد إعلان الجنوب السوري منطقة خالية من الوجود الإرهابي، عسكرياً وسياسياً، وحيث التداعيات المتسارعة في المنطقة وكافة المؤشرات تفيد بأن منطقة التواجد الأميركي في “التنف” ستكون هدفاً لمقاومة وطنية، في حال قرر الأميركي المماطلة وعدم الخروج.
لذلك إن اللقاء الأميركي – الروسي في هلسنكي لم يأتِ بالصدفة في توقيته، وأهدافه المباشرة تنظيم آلية الخروج الأميركي من الأراضي السورية، وما هو إلا قرار الضرورة ولا مجال أمامه للمغامرة بجنوده، طالما الوضع على الأرض قد تمّ حسمه لصالح سوريا ومحورها في المنطقة.
وفي السيناريو المرسوم أميركياً، جعل الأميركي من نفسه طرفاً مباشراً في مواجهة الإيراني والروسي، وطارحاً إنسحابه كمدخلاً لإنسحاب بقية القوى المتواجدة على الأرض السورية، لكنه لا يعرف أو يتجاهل أن التواجد الإيراني والروسي هو تواجد شرعي، وبالتالي لا مجال للمقايضة، أو للمقارنة بين قوى العدوان والقوى الحليفة والصديقة.
وبعد أن تغيّرت موازين القوى لصالح سوريا وتغيّرت صورة المشهد كلياً، حاول العدو الصهيوني بدوره، القيام بغارات متعددة على المواقع السورية ومدعياً بأنها مواقع إيرانية، وهو مجرد تعبير عن إفلاس صهيوني، وحيث لا خيارات أمامه بعد أن تمّ حرق جميع أوراقه، ولم يبقَ أمامه إلا ورقة إعادة قوات فض الإشتباك الى منطقة الجولان الذي جرى توقيعه عام 1974، وخاصة أن الكيان الصهيوني لا يستطيع خوض حرب شاملة يتمناها محور المقاومة، دون إغفال حرق وكلاء الكيان في المنطقة الذين إختاروا الخروج الى إدلب ليبقوا تحت أوامر مشغليهم.
وبذلك يمكن القول إن الجولان السوري عاد الى الطاولة الدولية، لكن في ظل واقع جديد، والمشهد السياسي والعسكري معاً يشير بوضوح بأن سوريا عادت بقوة كلاعب أساسي على الصعيدين الإقليمي والدولي، وعادت بعد أن تمّ تطهيرها من أعدائها، وثبات تحالفاتها، وصمود سوريا قيادة وشعباً وجيشاً أفشل ما يحاك وهم يلفظون الإرهاب خارج سوريا.
بهذه الأجواء طلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب اللقاء بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبهذا التوقيت كان ترامب في أسوأ حالاته، فقد حاصرته المغامرات الصاخبة في كل بقعة زارها، في بريطانيا احتجاجاً على سياسته العنصرية التي ستقود العالم الى حافة الهاوية، وهو الذي خسر ثقة معظم حلفائه الأوروبيين أثناء مشاركتهم قمة حلف الناتو في بروكسل، حيث تطاول عليهم، وتعاطى معهم كتلاميذ، وذكّرهم بالتّنعّم بالحماية الأميركية مجاناً.
وعليه هذا شأن ترامب مع حلفائه الأوروبيين، لكن لقاء ترامب مع الرئيس بوتين وبالتأكيد هو أكثر صعوبة لأن الأخير يعرف كيف ينتزع أكبر قدر من المكاسب في اللقاء وعلى أرضية واقع جديد مفاده هزيمة المشروع الأميركي في سوريا وفي منطقة الشرق الأوسط، وبذلك ملأت روسيا الفراغ وأصبح الرئيس بوتين يملك اليد العليا، وغاية المفاوضات بين الجانبين وعنصرها الأساسي إنسحاب القوات الأميركية مقابل تفاهمات مع روسيا بما يحقق الإستقرار في المنطقة والإستمرار في محاربة الإرهاب، وحفظ ماء وجه الأميركي بعد فشل مشروعه.
إن نتائج الحرب ضد سوريا لخّصها مدير مكتب وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول، واعتبر لورنس ويلكرسون في تصريح لافت أن الرئيس السوري بشار الأسد قد إنتصر، والولايات المتحدة إعترفت بذلك، وعن اللقاء بين الرئيسين بوتين وترامب قال ويلكرسون: “الحديث يدور حول الإستقرار في سوريا، وأنا أراهن على الرئيس بوتين بأي مفاوضات تحصل، وبالتأكيد ليس على ترامب”.
واعتبر ويلكرسون: “أن مَن أراد إسقاط سوريا، هم أرادوا ذلك لأنه يمكّنهم بشكل أفضل من التعامل مع إيران، لكنهم لم يحصلوا على سوريا، وبالتالي سيركزون على إيران”.
يحاول الأميركي طمأنة الكيان الصهيوني ثكنته المتقدمة في المنطقة، من خلال مطالبات بخروج إيران من سوريا، وبالتأكيد هذا الكيان رأس حربة الأميركي في أي حرب قادمة ضد إيران، وما يقلق الكيان هو وجود سوريا قوية بمحورها المنتصر.
إن أهم نتائج قمة هلسنكي هو الإعتراف الضمني الأميركي بروسيا قطب آخر بشرط بقائها ضمن أسس القطبية الدولية الحالية وعدم إبتداع أسس جديدة، وهو ما وافق عليه الرئيس الروسي بوتين من خلال قبوله إنشاء مجموعات عمل مشتركة بين الجانبين في مختلف المجالات.
وفي الملف السوري، أصبحت الكرة في الملعب الأميركي، من خلال الإتفاق بين الجانبين الأميركي والروسي على إنهاء دور القوى الإقليمية فيما يخص هذا الملف وحصره بين موسكو وواشنطن، وتفعيل العمل بإتفاق فك الإشتباك المتعلق بهضبة الجولان الذي جرى توقيعه عام 1974، واستمرار التنسيق بين القوات الروسية والأميركية في الأراضي السورية.
ولكن ما قاله وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو من “أن الكرة في الملعب الروسي فيما يتعلق بسوريا”، هذا يوحي بالكثير من المساومات الجارية والتسويات! والإجابة على ذلك سنراها في القمة الثلاثية التي ستعقد في طهران أواخر شهر تموز الجاري بحضور الرئيس الروسي بوتين والتركي أردوغان والرئيس الإيراني المضيف حسن روحاني.
وبالتأكيد الموقف الروسي ثابت وقوي، ومن الصعب أن يفرط الرئيس الروسي بوتين بحلفائه وشركائه الإيرانيين ويقف في الخندق الأميركي، إرضاء لترامب أو التضحية بإنجازاته الكبيرة ليس في سوريا فقط وإنما في منطقة الشرق الأوسط.
والرئيس بوتين أكّد على ضرورة مساعدة الدول المجاورة لسوريا في ما يتعلق بأزمة اللاجئين، مما يؤدي الى تخفيف الضغوط على الدول الأوروبية وخاصة تركيا حيث يتواجد فيها 3,5 مليون لاجئ سوري.
وفي أعقاب اللقاء الذي عقده الرئيسان الروسي والأميركي في هلسنكي، عُقد مؤتمر صحافي مشترك وأبرز ما جاء فيه، ما قاله الرئيس بوتين: “إن الحرب الباردة إنتهت منذ فترة طويلة، وأصبح عهد المواجهة الإيديولوجية الحادة في خبر كان، والوضع في العالم تغيّر جذرياً: اليوم تواجه روسيا والولايات المتحدة تحديات أخرى، ومنها الإخلال بتوازن آليات الأمن والإستقرار الدولي والأزمات الإقليمية وانتشار مخاطر الإرهاب والجريمة وتنامي المشاكل في الإقتصاد العالمي”.
أما الرئيس الأميركي ترامب، وصف اللقاء بالرئيس بوتين “بأنه نقطة إنعطاف، وأن علاقاتنا مع روسيا لم تكن أسوأ مما هي عليه الآن، لكن ذلك سيتغيّر بعد لقائنا الذي إستمر أربع ساعات وهذا لن يكون سهلاً، لكن هذا أفضل من رفض فرصة اللقاء”.
وقال الرئيس بوتين “بخصوص سوريا، إحلال السلام والتوافق في هذا البلد قد يصبح نموذجاً على العمل المشترك الناجح، وتستطيع روسيا والولايات المتحدة بلا شك أن تتوليا الدور الرائد في هذه المسألة وتنظيم التعاون لتجاوز الأزمة الإنسانية والمساعدة على عودة اللاجئين الى ديارهم”.
تحدث الرئيس بوتين عن إعادة إطلاق طريق العمل المشترك لمحاربة الإرهاب، فيما تحدث ترامب عن تواصل الإتصالات في مجال محاربة الإرهاب.
ودعا بوتين الى كسر الجمود في الإتصالات بين المنظمات الإجتماعية في المجال الثقافي والإنساني، ورأى ترامب أن ما جرى بداية لعملية طويلة ونرغب بالسلام مع روسيا…