ليس استنتاجاً عبقرياً، إن قلنا إن الفيلسوف والأديب جبران خليل جبران نطق قبل أكثر من مئة عام بما نعيشه اليوم، في قصيدته النثرية “ويل لأمة” عندما قال: “ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين، ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر. ويل لأمة تحسب المستبد بطلاً، وترى الفاتح المذل رحيماً، ويل لأمة لا ترفع صوتها إلا إذا مشت بجنازة، ولا تفخر إلا بالخراب”.
ثمة تطابق صادم في تفاصيله مع وقتنا الراهن الذي نعيشه واقعاً، فنحن في أتون حرب مذهبية سافرة ومستترة. وصور جبران الشعرية ليست خيالاً، فما نلبسه دون أن ننسجه، وما نأكله دون أن نزرعه، وما نشربه دون أن نعصره، هو تشخيص لوضع اقتصادي قائم.
ألسنا من نرى الفساد والمفسدين ونصرخ من الفقر والجوع والهجرة والبطالة ونتظاهر ونحتج ونعارض ضد السياسات الخاطئة في المجالين الإقتصادي والإجتماعي، وعندما يأتي يوم الحساب في صناديق الإنتخابات والمفروض منا أن نحاسب الفاسدين ونختار الوطنيين والمؤهلين لتمثيل الشعب في مجلس النواب نهرول إلى صناديق الإقتراع لنعيد الفاسدين إلى عروشهم؟
فمع غياب الزعماء ذوي الرؤى الوطنية، يغيب أيضاً الإقتصاديون من ذوي الرؤى. فأقصى ما يمكن أن يطرح من خطط للنهوض الإقتصادي في أكثر من بلد عربي، هو السعي للإعتماد على المانحين والقروض الخارجية. وقد يكون المخططون الإقتصاديون من ذوي الرؤى موجودين، لكن صوتهم غير مسموع، كما أن هؤلاء لا يمكن أن يعملوا مع زعماء سياسيين عاجزين عن ممارسة دورهم أبعد من حدود الطوائف أو المستثمرين أو تكتلات المصالح أو نخب حاكمة ربطت نفسها بالمنافع المتبادلة مع المستثمرين.
وتبدو نخب المستثمرين في كل بلد، والشعب نفسه دوماً في حالة انتظار، إما انتظار الحل من الحكومة أو من الخارج، فلا أحد مستعد لأن يبذل أي جهد أو مبادرة. لقد حوّلت هذه الذهنية مفاهيم أجيال من الناس إلى حالة من الشكوى المستمرة، مطالبات لا تنتهي في قضايا لا تنتهي، رئيسة وفرعية، عاجلة وآجلة، كبيرة وصغيرة، تمس حياة المواطن في مأكله وعلمه وصحته وإيجاده فرص العمل لتتكلل اليوم بمستقبل مسكنه حيث لم يجد الشباب اللبناني سقفاً يستظل به وبيتاً يخضن به عائلته، بعد أكثر من 4 أشهر على توقف الدعم الحكومي للقروض السكنية المدعومة الذي فاقم مشكلة القطاع العقاري، وقد أثير لغط كبير حول أسباب هذا الإجراء وتداولت الصحف ووسائل الإعلام معلومات حول سوء استخدام المصارف للأموال التي يقدمها مصرف لبنان كدعم للقروض السكنية وإعطائها لغير مستحقيها والحديث أيضاً حول فساد ومضاربات في سوق العقارات.
وبعد تصاعد الأصوات بين الفعل ورد الفعل لحل تلك الأزمة التي قد تؤدي الى إنفجار إجتماعي نحن بغنى عنه في ظل حرائق المنطقة المحدقة بلبنان، فما كان على تلك الأزمة إلا أن تسلك كغيرها من المطالب اتجاهاً سياسيا في استمرار لمبادرات سياسية تدعو الحكومة اللبنانية لإعادة تفعيل الدعم للقروض السكنية، ما يشكل صعوبة كبرى بالنظر إلى الإلتزام اللبناني أمام المجتمع الدولي بتخفيض العجز آخرها التزاماً في مؤتمر “سيدر 1″، علما بأن العجز سجل في العام 2017 ما يقارب 3.7 مليار دولار، وكان 5 مليارات دولار في 2016.
ولا يقتصر الأمر على التزامات الحكومة اللبنانية، بالنظر إلى أن أي إجراء حكومي، يحتاج إلى موافقة البرلمان، ما يعني أن كل الحلول المقترحة، تنتظر تشكيل حكومة، واجتماع مجلس النواب المنتخب مرة أخرى.
لا شيء تغيّر بانتظار صدور قانون عن المجلس النيابي لدعم الفوائد من قبل وزارة المالية، لأن خروج هذا القانون إلى الضوء مرتبط بمباشرة عمل المجلس النيابي المنتخب حديثاً وبتحويل هذا القانون إلى المجلس من قبل الحكومة التي لم تتشكل بعد.
وتصاعدت الدعوات من قبل الكتل السياسية خلال الأسبوع الحالي لحل أزمة الإسكان التي تفاقمت على خلفية توقيف الحكومة للقروض المدعومة للإسكان، ما فاقم الأزمة العقارية في البلاد، وانعكست على ثلاث شركات عقارية تعاني أزمة مع زبائنها، كما طالت العقار بأكمله الذي تقدر الإستثمارات فيه بنحو 20 مليار دولار.
وتحرك نواب لبنانيون يمثلون “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” و”تيار المستقبل” و”المردة” للتوقيع على اقتراح قانون معجل مكرر قبل أيام يرمي إلى إضافة مادة وحيدة إلى قانون الموازنة العامة لسنة 2018. ويقضي بـ “تخصيص مبلغ مائة مليار ليرة لبنانية لدعم الفوائد على القروض السكنية، المندرجة ضمن المؤسسة العامة للإسكان ومصرف الإسكان، وجهاز الإسكان العسكري وضمن شروط كل من المؤسسات المذكورة”، على أن يعمل به فور نشره في الجريدة الرسمية.
وبالرغم من أن مصرف لبنان يسعى إلى إيجاد حلّ لطلبات القروض المجمّدة ملفاتها في المصارف والتي حصل أصحابها على موافقة مسبقة، بفعل التعميم الرقم 485 الصادرعن البنك المركزي، ويعمل على إحصاء حجم القروض السكنية المدعومة التي جُمّدت ملفات أصحابها بسبب الأزمة الأخيرة، من أجل تأمين السيولة اللازمة لها، على أن تكون تلك الملفات قد حصلت على موافقة المصرف المعنيّ، إلا أن الاموال الجديدة التي قد يرصدها مصرف لبنان للقروض السكنية المدعومة المُجمّدة، لن تكون رزمة تحفيز جديدة، إنما في إطار معالجة مشكلة يواجهها مَن اشترى مسكناً ودفع جزءاً من قيمته وكان ينتظر إجراءات المصرف لاستكمال قيمة المسكن، في حين أكد مصرف لبنان عدم إطلاق أي رزم أخرى للقروض المدعومة في العام 2018.
وكان مصرف لبنان قد طلب من المصارف في منتصف شهر كانون الثاني 2018، التوقف عن إرسال طلبات للقروض المدعومة لأنه سيصدر تعميماً جديداً. وفي 1 شباط 2018، أصدر مصرف لبنان التعميم الوسيط 485 خصّص بموجبه مبلغ 750 مليار ليرة لبنانية للقروض السكنية المدعومة لكنه وضع “كوتا” لكلّ مصرف أي حدّ أقصى يتم تحديده لكل مصرف على أساس مجموع القروض المستفيدة من حوافز مصرف لبنان والممنوحة من المصرف المعنيّ في الفترات السابقة، وعدّل شروط استدانة المصارف لتلك الأموال.
والجدير ذكره هنا، أنه وفق النظام الجديد الذي فرضه التعميم 485، فإن الفائدة على أصحاب القروض لن تتغيرّ بشكل ملحوظ، حيث أنها أصبحت بالنسبة لقروض مؤسسة الاسكان 3,78 % بدلا من 3,735% .
أما بالنسبة إلى القرض المدعوم (مليار و200 مليون ليرة) ارتفعت الفائدة من 4,24 % الى 4,75%، وبالنسبة إلى القروض السكنية الممنوحة لجهاز إسكان العسكريين من 2,128% إلى 2,268 ، وبالنسبة إلى قرض المغتربين بالدولار ارتفعت من 2% إلى 3%.
كما أن في التعميم 23، كانت المصارف تقترض من مصرف لبنان نسبة 90 في المئة من قيمة القرض السكني المدعوم، على سبيل المثال، بفائدة 1 في المئة. أما في التعميم 485، لم يعد مصرف لبنان يُقرض المصارف أي نسبة من قيمة القرض المدعوم بفائدة 1 في المئة، بل استبدل ذلك بدعم الفائدة فقط، أي أن المصرف سيستعمل أمواله الخاصة للقروض المدعومة وسيحصل من مصرف لبنان على دعم للفائدة فقط.
وبالتالي، كانت المصارف قبل صدور التعميم 485 أعطت موافقة على عدد كبير من ملفات القروض السكنية المدعومة تفوق قيمتها “الكوتا” التي حدّدها لها مصرف لبنان في تعميمه الصادر أوائل شباط 2018. ما وضع المصارف وأصحاب الملفات في مأزق يصعب الخروج منه من دون دعم مصرف لبنان. وفي تلك الحال، ليس أمام المصرف سوى أن يطلب من أصحاب الملفات إما استرجاع ملفها، أو انتظار ما سيقوم به مصرف لبنان تجاه هذه الأزمة، أو التقدم للحصول على قرض سكني غير مدعوم بالدولار وبفوائد مرتفعة.
ولإيجاد حل لتلك المشكلة العالقة تكاثفت جهود البنك المركزي، وعقد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في قصر بعبدا، بهدف البحث في تأمين صرف القروض السكنية التي التزمت المصارف دفعها إلى أصحاب الطلبات، على أن يتم لاحقاً وضع خطة تؤمّن استمرارية القروض وفقاً للقواعد المعتمدة، في خطوة يفترض، بحسب مصادر مراقبة، أن تحلحل أزمة القروض التي نشأت في الآونة الأخيرة، فتم العمل على تسوية تطاول مجموعة فئات حصلت على موافقة مسبقة للحصول على قروض سكنية وأموالها لا تزال محجوزة. وقضت كمرحلة أولى، برفد تلك الفئات بأموال يضخّها مصرف لبنان، كون هذه الفئات ارتبطت بعقود، واليوم توّج رئيس الجمهورية هذه التسوية بموقف واضح في هذا الاتجاه، وتتوزّع هذه الفئات على النحو الآتي:
– فئة أنجزت عمليتيّ التسجيل والرهن، إنما لا تزال تنتظر الأموال من المصرف.
– فئة تقدّمت بطلبات وسدّدت الدفعة الأولى للمالك وحصلت على موافقة مؤسسة الإسكان في المرحلة الأولى.
– فئة حصلت على موافقة مؤسسة الإسكان لكن تم تجميد عقودها القانونية.
– فئة أنجزت العقود القانونية، لكن قبل التسجيل والرهن لصالح المصرف والمؤسسة، تبلّغ بتعليق القرض.
– فئة أنجزت مرحلة التسجيل، لكن المصرف يتأخر في تحويل الأموال رغم التعهّد.
مما تقدم يبدو أن المواطن اللبناني يعاقب دائماً على صبره واختبار مدى قدرته على التحمل. فالى متى سيستطيع التحمل؟
والسؤال، هل من حلّ جذري لأزمة الإسكان بكل جوانبها؟
نعم المسؤولية تقع على عاتق الحكومة القادمة ومجلس النواب المنتخب ورئيس الجمهورية، نحن أمام تحديات جديدة تطال الوضع الإجتماعي والإقتصادي، والخطورة تكمن في إنتظار الحل، والوقت كالسيف لا يرحم.