محمود صالح – خاص الموقع
إنه ليوم تاريخي بامتياز 18آذار2018، فاز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بولاية رئاسية جديدة وتوّج فوزه بنسبة تقارب 76,7% من اأصوات، هذا يعني الكثير لكل مناوئيه، وبذلك تستمر روسيا بوتين بالتقدم في خطوات جديدة ثابتة وراسخة وحاسمة وهي تملك أوراق هامة وأبرزها تحقيق إنجاز مؤثر في المشهد الدولي وهو عودة التعددية القطبية التي كانت سائدة منذ عقود.
هذه النتيجة لم تأت من فراغ وهي حصاد التواجد الروسي في منطقة الشرق الأوسط، وبعضه متعلق بالأوضاع الإقليمية ومصالح روسيا الإستراتيجية، التي كانت تعد العدة بعد أزمة أوكرانيا مباشرة عندما تقدمت وأحكمت سيطرتها واستعادت شبه جزيرة القرم عام 2014، وبعدها عند نشر القوات الروسية في سوريا والمساهمة الفاعلة في محاربة الإرهاب من خلال إعادة رسم مسار الأحداث وكانت خطوة لتثبيت موقع روسيا في الساحة الدولية بعد العقوبات التي فُرضت عليها بعد قرارها ضم القرم ويومها أعلن الرئيس بوتين بأنه لن يكون هناك حل للأزمة السورية من دون موسكو، وهو بذلك وضع الولايات المتحدة والدول الأوروبية أمام أمر واقع، بأن لا خيار أمامهم سوى ما اختاره، وانتقلت روسيا الى مرحلة جديدة وأخذت زمام المبادرة في المنطقة ورفضت الرؤية الأميركية، وقلبت الموازين الإقليمية بوجودها العسكري المعلن والشرعي وأنهت استثمار القوى الإقليمية بالصراعات وإدارتها وفتح الباب أمام عودة البعد الدولي.
ومنذ تولي الرئيس بوتين مقاليد الحكم تميّزت سياسته بالتركيز على مسألة مفادها تأمين السيادة الكاملة لروسيا على أمورها الداخلية، عبر تحييد التأثير الخارجي على سياسة روسيا الداخلية، وحشد الشعب الروسي وراء الفكرة الوطنية، ومن ثمّ الحفاظ على حرية الحركة على المسرح الدولي التي تسمح لروسيا بالحفاظ على مصالحها وراء البحار وفي جوارها الجغرافي، ويعني ذلك أن تتحدى روسيا النظام الدولي الآحادي القطبية عبرخلق مواقع جيو- سياسية في مناطق جغرافية مختلفة لموازنة الضغوط الأميركية عليها.
وكان التصعيد العسكري الروسي واضح في أهدافه ويتمثل في الدفاع عن الأمن الذاتي بمنازلة الإرهابيين على الأرض السورية ومنع قيام قاعدة إرتكاز تحرّض على التطرف، وهدف ضمان استقرار مصالحها وفرض حضور وازن من موقع القوة في أية مفاوضات لمعالجة الملف السوري، ومن هنا بدأت الحرب على الإرهاب ودعم الدولة السورية من خلال تأمين غطاء جوي للجيش العربي السوري ليكون لاعباً على مسرح الأحداث والقضاء على الإرهاب، وبذللك عادت روسيا الى الشرق الأوسط من البوابة السورية لأن سوريا بالنسبة الى روسيا هي واحدة من أهم الدول في منطقة الشرق الأوسط وحجر الزاوية للأمن في المنطقة.
وسعت روسيا الى استعادة مكانتها ووجودها على الساحة الدولية كقوة كبرى في موازنة أميركا، من خلال بناء تحالفات مكنت القيادة الروسية من إعادة رسم خريطة العالم من جديد عبر تحالفات تمثلت في منظمة شنغهاي للدفاع والتعاون المشترك ومجموعة دول البريكس التي تضم في صفوفها غالبية سكان العالم والتحكم باقتصادياته، وهاتان المجموعتان تقفان في وجه التوسع الأميركي والتفرّد في حكم العالم.
اليوم أصبح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاعباً أساسياً في دوره المتعاظم، ويتزايد نفوذ روسيا على وقع الإنجازات التي يحققها الجيش العربي السوري والحلفاء في محور المقاومة وبالتكامل مع الجهد الروسي، وفوز بوتين بولاية رئاسية جديدة يشكل صفعة قوية لأميركا وأدواتها، ويعني إيقاف العجلة الأميركية التي تحاول التحرك في المنطقة، واستطاع الرئيس بوتين خلق علاقات جديدة في الشرق الأوسط وأدخل بعضها ضمن علاقات تخدم رؤيته، ووقّع عقوداً بعشرات المليارات بعدما ثبت مدى فاعلية السلاح الروسي وتفوّقه، ويتعزّز الحضور الروسي في المنطقة وخاصة في سوريا من خلال نجاحها في وضع آلية عمل دبلوماسية إقليمية لحل الأزمة دون إدخال الولايات المتحدة، وموسكو تعمل على توسيع التعاون الإقتصادي مع إيران من خلال عمل شركات نفطية روسية في الحقول الإيرانية، وهناك التوسع الروسي الهادئ في شمال أفريقيا، وهذا يساهم في تقوية الدور والمكانة من خلال استراتيجيات تعتمد على عناصر متكاملة (صفقات السلاح، إتفاقيات الطاقة، والقوة الدبلوماسية الناعمة)، والأهم ورقة القضاء على التنظيمات الإرهابية التي توظف بالشكل الأمثل كعامل تقارب مع عدة دول بالمنطقة.
والنسبة الكبيرة من الأصوات التي حصل عليها الرئيس بوتين في الإنتخابات الرئاسية، ستعطيه زخماً قوياً للمضي قدماً في مشاريعه، وبذلك أكّد المجتمع الروسي على إرادته في أن يكون لبلاده دور هام على الصعيد الدولي عبر إختيار الشخص الذي ساهم في نهوض روسيا، والإنجازات التي تحققت خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً.
لقد حاولت الولايات المتحدة التأثير على مجرى الإنتخابات الروسية من خلال رد متعدد الوجوه وأبرزه طرد لندن، حليفة واشنطن لـ 23 دبلوماسي روسي، وهذه لم تحقق هدفها في التأثير، غير أن الرد الروسي ورؤية بوتين هي التي انتصرت من خلال زيادة الثقة في الرئيس بوتين، وأثر ذلك بشكل إيجابي على مجرى الإنتخابات، وأيضاً دخلت واشنطن على خط الملف السوري مع قرب إنتهاء العملية العسكرية في الغوطة الشرقية لدمشق، من خلال تركيا التي أعلنت الإستيلاء على عفرين وحاولت بذلك أن تفقد سوريا وروسيا نشوة الإنتصار.
والممارسات العدائية الأميركية ضد روسيا استمرت من خلال الطوق الجيواستراتيجي لتطويق روسيا إنطلاقاً من دول البلطيق، وإلى دول البلقان في أوروبا الشرقية، وصولاً إلى تعزيز التواجد الأميركي في أفغانستان بدلاً من الإنسحاب، ومشروع ضم البشمركة في إقليم كردستان الى “الناتو” كجيش احتياط، وبناء القواعد العسكرية في الشرق السوري، ونشر الدرع الصاروخية في رومانيا، واتهام موسكو بعدم الإلتزام بمعاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية متوسطة وقصيرة المدى “ستارت3” والتي تحولها واشنطن إلى فزاعة لتحريك مخاوف دول الإتحاد الأوروبي،
هذه الإجراءات الأميركية المتلاحقة تزامنت مع إجراءات المواجهة بالقوة الناعمة لإستهداف روسيا وحتى في الفضاء الأوراسي، وتحريك الملفات الساخنة ضد روسيا كملف كوريا الشمالية، والنووي في الشرق الأوسط وملف البرنامج البالستي الايراني ودعم الحوثيين، وملف سوريا والسلاح الكيميائي، وملف إقليم الدونباس في أوكرانيا، وإتهام موسكو بمخالفة إتفاقيات “منسيك 1 و 2” لتشكل كل هذة الملفات أدوات ضاغطة.
وجميع تلك الممارسات توّجت بإعلان الرئيس الأميركي ترامب للاستراتيجية الأميركية الجديدة والتي وصفت روسيا بالمنافس والمزعزع للإستقرار، ووصفتها بمحض قوة إقليمية لا ترقى لتكون قوة كبرى.
إن هذة الممارسات الأميركية نابعة من الإستراتيجية الأميركية القديمة في مواجهة الإتحاد السوفياتي، وبالتالي تسعى واشنطن الى تطويق روسيا بأدوات المواجهة القديمة المشتقة من فلسفة قديمة “أن روسيا تسعى لتكون الدولة العظمى بدلاً من أميركا”.
لكن الرئيس الروسي بوتين، تبنّى رؤية جديدة لروسيا ودورها في العالم، حيث شرع بتطويق الطوق الإستراتيجي الذي تبنيه أميركا على الحدود الروسية من خلال القواعد البحرية والجوية في سوريا وشرق المتوسط.
وعمل الرئيس بوتين على تفعيل الطوق الخارجي الذي يحاصر طوق “الناتو” ويفقده أهميته وتفوقه الإستراتيجي، وخطاب الرئيس بوتين السنوي في كالينينغراد وهي المقاطعة التي لا تتصل جغرافياً بالأراضي الروسية وإنما تقع بين كل من ليتوانيا وبولندا وتطل على بحر البلطيق، هي إشارة واضحة على كيفية الرد الروسي، وتزامن ذلك مع الإعلان عن أسلحة روسية جديدة تمّ تطويرها بسرعة كبيرة غير متوقعة، هذا الإعلان الكبير للرئيس بوتين يمثل ضربة لعقلية المواجهة الأميركية.
والفلسفة الإستراتيجية الروسية تقوم على ركيزة تعديل بنية النظام الدولي نحو نظام دولي متعدد الأقطاب ومتوازن وليس آحادي أو ثنائي القطبية، وهو ما لا تستوعبه العقلية الأميركية التي لا تزال تعتقد أن موسكو تسعى لتزعّم العالم بدلاً من واشنطن، وتعمل روسيا على تحقيق التفوق التكنولوجي بما يحمي روسيا من مخاطر التطويق ويمنحها تفوقاً استراتيجياً على المشاريع الأميركية المضادة قرب الحدود الروسية في كل من آسيا وأوروبا.
إن خطاب الرئيس بوتين السنوي هو بمثابة إدخال النظام الدولي والعلاقات الدولية الى مرحلة جديدة لم تشهدها محطات الصراع والمواجهة سابقاً، هو “خطاب برتبة إعلان مئوي لطبيعة المواجهات والصراعات في القرن القادم، وجاءت نتائج الإنتخابات لتؤكد وتعزز التوجه الروسي الجديد الذي أرساه الرئيس بوتين”.