قيل الكثير عن الإستفتاء الإنفصالي في شمال العراق (إقليم كردستان العراق) الذي جرى في 25 أيلول 2017، في أبعاده الإقليمية وتوقيته حيث الصراع على أشده في المنطقة، وقبل الدخول في الأسباب والوقائع والتداعيات نستحضر التاريخ القريب من خلال الوصف الذي أطلقه الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين حينما ردّ على الرئيس الأميركي نيكسون في عام 1974 بعد أن لاحظ مدى حماسه لإقامة دولة كردية في شمال العراق وقال له: “يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية لم تكتفِ بـ “إسرائيل” واحدة، فهي تعمل على تأسيس “إسرائيل” ثانية في شمال العراق”.
وحدها “دولة” الكيان الصهيوني أعلنت تأييدها للإستفتاء المذكور، وهدفها تقسيم الدول العربية والإسلامية عرقياً وطائفياً حتى تبقى “الدولة” الأكبر والأقوى في المنطقة، ورأينا بنيامين نتنياهو “الداعم الأكبر لكردستان الصغرى، وعلى أنها الخطوة الأولى نحو كردستان الكبرى، التوأم الإستراتيجي لـ “إسرائيل الكبرى”.
وحسب ما هو مخطط لـ “كردستان الكبرى” فأصغر حلم (ستضم مليون كلم2. وهم طالبوا في السابق بحكم ذاتي في العراق، ثم تطور الى فيدرالية ثم “ثورة”، ثم محاولة الإنفصال”، وإذا ما سارت الأمور حسب الهوى الأميركي، وربما يطالبون بنفس الأمر في سوريا وإيران، وهذا يعني أن الكرد في هذه الحالة مجرد أداة يتم استغلالهم بالحجم الجغرافي والبشري والوعود الأميركية “لتكون دولتهم الموعودة مجرد قاعدة أميركية كبرى تمتد حتى الصين وروسيا”.
وفي التساؤلات، ماذا عن دور تركيا أردوغان؟ وما هي حقيقة الموقف التركي من هذا الكيان الوليد والمستنسخ؟
تفيد الوقائع أن علاقات تركيا مع مسعود البارزاني في شمال العراق، وصلت الى مستويات قياسية خلال العقدين الماضيين وتحوّلت تركيا الى منصة لتصدير النفط العراقي المسروق “عبر مرفأ جيحان” من كركوك وغيرها الى الكيان الصهيوني، وأرقام الصادرات التركية الى الإقليم وصلت الى 8 مليارات دولار عام 2013 وبلغت الإستثمارات التركية أكثر من 40 مليار دولار.
لذلك من المستحيل أن تلجأ تركيا لمحاصرة شمال العراق “كردستان”، وفي هذه المفردات وغيرها تُختصر أهم العوامل التي دفعت البارزاني وجماعته للمخاطرة بإجراء الإستفتاء، فهناك مصالح كبرى لتركيا في شمال العراق ويرتبط أمن الطاقة التركي بالواردات النفطية من شمال العراق وتلك المنهوبة من الأراضي السورية.
وعلى ضوء فشل مشروع تفكيك سوريا ومد أنبوب الغاز القطري عبرها، هذا يجعل من تركيا أكثر ارتباطاً بإقليم شمال العراق، وهناك إتفاق مد أنبوب غاز الى شرناق الكردية جنوب شرق تركيا.
وفي المفاضلة بين الحسابات القومية والليبرالية، يرى البعض أن الكثير من التصريحات التركية ذات النبرة العالية هدفها الشكلي التعبير عن رفض الإستفتاء الإنفصالي في الإقليم، بينما هدفها الحقيقي إمتصاص غضب القوميين الأتراك.
وعلى صعيد الأمن القومي قدّم البارزاني تعاوناً أمنياً مع تركيا التي أشرفت على تدريب “البشمركة” لمحاربة حزب العمال الكردستاني، وفي جميع الأحوال من الصعب أن تخسر تركيا تواجدها العسكري والأمني في الإقليم، إضافة للمصالح الإقتصادية وارتباط الجانبان بالمشروع الأميركي الأوسع في المنطقة، وستعمل تركيا من أجل تحسين شروط العلاقة والإستفادة القصوى من “إقليم كردستان”.
أقدم البارزاني على مشروعه الإنفصالي وهو يشعر بالطمأنينة والثقة، من ناحية الأميركي الداعم الرئيسي وهناك الإختراق الصهيوني الذي يلعب دوراً في تدريب “البشمركة”، وهذا تمّ منذ مدى عقود، ولكنه الآن يظهر من خلال الشركات الأمنية وغيرها.
وصحيفة “فايننشال تايمز” ذكرت في تقرير يوم 23 آب 2015 أن 77 % من مستوردات “إسرائيل” من النفط والغاز جاءت من شمال العراق”.
وفي الوقائع، عملت قوات “البشمركة” على إخلاء الطريق أمام “داعش” في نينوى وقطاعات أخرى وسهّلت وصول الدعم اللوجستي للإرهابيين في عدة أماكن، وكل المؤشرات أثبتت أن صعود القوى الإنفصالية في شمال العراق وسوريا، جاء بدعم أميركي مباشر وغامر ومازال مستمراً، ومن الصعب التصديق أن الولايات المتحدة تعارض الإنفصال وهي التي خططت له من خلال مشروع جو بايدن عند خروجها من العراق، وماذا تعني إنتخابات الإدارة المحلية في شمال سوريا التي تتم بدعم أميركي واضح من خلال تأمين غطاءً جوياً وسياسياً للقوى الساعية نحو الإنفصال.
وماذا يعني مشاركة قوات “كردية” مدعومة أميركياً في معارك دير الزور في أوائل أيلول من العام الجاري 2017، وفي هذا يقول الباحث “بوريس دولغوف”: “في البداية لم يكونوا في وارد السيطرة على مدينة دير الزور، في البداية خططوا للبقاء في شمال البلاد من أجل ما يشبه كردستان العراق، لكن رغبتهم بالسيطرة على موارد طبيعية وحيث الثروة النفطية في سوريا تتركّز في دير الزور من أجل تعزيز أحلامهم “بالدولة الجديدة”، لكن الولايات المتحدة والأكراد يبحثون عن مصالحهم لإنشاء جيب في شمال سوريا”، أي “تقسيم سوريا وإنشاء دول مصغرة على أراضيها خارج السيطرة وهذا يتناسب مع خطط واشنطن”، ويمثل تهديداً للدولة السورية، ويزيد من فرص الولايات المتحدة في تعزيز نفوذها هناك، ومن الواضح أنهم بدأوا يلعبون للحصول على الغنائم، وهذا يؤدي الى توسيع رقعة الإشتباك وإطالة أمد الحرب ومنع تدمير “داعش”.
وفي التساؤلات، كيف بدأت الأزمة السورية وما هو الدور الأميركي؟ وكيف رفضت الحكومة السورية مد أنابيب الغاز القطري الى تركيا عبر الأراضي السورية وموقف روسيا الداعم لهذا التوجه وأبعاده، ووصولاً الى اللحظة الراهنة، ويُطرح السؤال بصيغة أخرى، هل الحرب على الإرهاب التي أعلنتها أميركا مجرد “مسرحية”، بالتأكيد هذا ما أثبتته الوقائع، وماذا عن التنسيق بين أميركا و”تنظيم القاعدة” شمالاً في إدلب، و”داعش” في دير الزور شرقاً؟ والأمر لا يحتاج أدلة والداعم الأميركي هو ذاته يدعم “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية الطابع التي تقاتل من أجل السيطرة على الرقة وحقول نفط دير الزور.
إن استهداف اللواء “فاليري أسابوف” رئيس المستشارين الروس في سوريا، وجّه أصابع الإتهام للولايات المتحدة الأميركية، طبيعة المكان قرية مراط شرق الفرات وتصعيد التوتر “وهذه القرية تسيطر عليها القوات السورية والروسية وتمّ إتّخاذها قاعدة للإنطلاق نحو السيطرة على آبار النفط والغاز”، هذا الحادث له أبعاده وتداعياته اللاحقة”.
وهذا يؤكّد بأن الأزمة الحقيقية ربما لا تكون إستفتاء كردستان فقط وإنما التوتر الروسي – الأميركي على الأرض السورية.
وفي سوريا لا أحد ينكر حق الكرد، وهم أشقاء العرب في أن يكون لهم الشخصية الثقافية والسياسية، لكن ماذا يعني أن تكون هناك “دولة كردية إنفصالية” وتدار من تل أبيب لا من أربيل وغيرها، وعليهم أن يدركوا حقيقة المخطط الذي يُدبّر للمنطقة بأسرها، والمؤسسة الصهيونية لا تريد أن يبقى حجر على حجر في المنطقة، وبعض “العرب” ضالعون في المخطط، ولكن أيضاً نقول لهؤلاء: حين تتحطم سوريا والعراق، لا بدّ أن تتحطم تركيا وإيران، ولكن الإستهداف واحد، بينما رجال “القبيلة” عاجزون بسبب ضعفهم وإرتهانهم، والأميركي يعبث بثروات الأمة ويحاول سد الطريق أمام أي نظام إقليمي لا يكون بإدارة البنتاغون.
وللأسف أراد بعض “العرب” أن تكون سوريا ضعيفة في أي تسوية قادمة ومن دون العراق وأن تبقى عالقة في استنزاف قدراتها من أجل تكريس “ستاتيكو” ظلامي تدميري تكفيري، لكن الوقائع في ميدان المواجهة خيّبت كل ظنونهم وأحلامهم الإجرامية.
سوريا باقية وتزداد قوة ودورها يتعاظم بفضل التضحيات التي قُدّمت، أما الآخرون سيكتشفون بأنهم جزء من لعبة “ذهب مع الريح”، وبعدها لن ينفع الندم.