صمدت سوريا وقاومت الهجمة الإرهابية وداعميها ومموليها، وعلى امتداد سنوات الحرب التي شُنّت ضدها، بقي العالم بأسره مشدوداً الى هذه المنطقة الهامة وكيف ستؤول الأمور، أهمية سوريا تفوق مساحتها وقدراتها وهي ملتقى القارات الثلاث، وسوريا هي بوابة التغيير والمعادلة الناظمة وعلى وقعها تتغير الموازين الدولية، وبقيت سوريا خلال تاريخها العريق محل اهتمام الدول الكبرى، وفي التاريخ الحديث أصبحت للمجد عنوان وهي الملتزمة بقضايا أمتها ولها مواقع معهودة الى جانب أحرار العالم، وليس صدفة أن تستهدف سوريا بكل ما تمثّله من قيم الأصالة.
لم تكن معركة حلب فاصلة محلية وإقليمية بل حدث تاريخي هام نقل الرؤى بإتجاه آخر صوب الحق والحقيقة والى واقع الأمور، وانتصار سوريا ومعها أركان محور المقاومة والحليف الروسي، هيأ الفرصة الى مزيد من الإنجازات الهامة وخاصة تلك المتعلقة بتغيّر المواقف الإقليمية والدولية بشأن الأزمة السورية ومن ثمّ توحيد المواقف لضرب “داعش” وأمثالها بعد إنكشاف اللعبة وحدودها وحيث وصل الإستثمار في الإرهاب حدوده القصوى، ظهرت الحقائق وبدأ الإنقسام يضرب صفوف الأعداء، سقط المشروع برمته، وأخذت مواقف الدول الضالعة في الحرب على سوريا بالتغيّر والخروج من الورطة بأقل الخسائر.
وإذا نظرنا لواقع الميدان بعين فاحصة لأدركنا ماهية الأسباب التي تدفع بدول إقليمية مثل تركيا الى الإذعان لحل سياسي للأزمة في المنطقة وعلى الساحة السورية، ومَن يتابع تصريحات الرئيس التركي أردوغان منذ بداية الأزمة السورية، سيدرك مقدار التراجع والإنكسار الذي أصاب السياسة التركية التي بدأت بالتحالف مع واشنطن ودول الغرب ضمن مشروع واحد.
اليوم غاب التهديد والوعيد ودخلت تركيا مرحلة الحفاظ على الذات والهروب من تداعيات حروب الإرهاب والقبول بواقع الحال والتفاهم مع الجانب الروسي للخروج من الورطة، ليحل محلها الحديث “عن تطورات تبعث الأمل في الجهود التي تبذلها روسيا لوقف دائم لإطلاق النار في سوريا وإيجاد حل سياسي ينهي الأزمة في أقرب وقت ممكن”.
نحن اليوم أمام إنعطافة هامة في مسار الحرب على سوريا، وهي تعني أن الواقع الجديد تصنعه التضحيات التي بُذلت وإصرار القيادة السورية وحلفائها على تحقيق النصر، وفي التحول الجديد، إرتد الإرهاب على الدول التي دعمته، وثبت أن صمود سوريا وحلفائها طوال ست سنوات هي السبب في التحولات الحاصلة في المواقف الدولية تجاه سوريا، واليوم تعترف واشنطن بأهمية الدور الروسي في المنطقة وتصفه بالدور الإيجابي، وتغير الخطاب الأميركي وأصبح يرحب بمشاركة روسيا وتركيا في الجهود الهادفة لحل الأزمة السورية.
ومعسكر العدوان على سوريا بدأ يشعر بالقلق ويعاني من الإضطرابات الأمنية، وفي تركيا بشكل خاص بدأ الإرهاب يرتد عليها، وهناك مخاوف من تحوّل تركيا الى بؤرة كبيرة للإرهاب.
هذه العوامل والتداعيات تدفع للبحث عن مسار آخر والتراجع عن الدور السابق خوفاً من التبعات الخطيرة وهي متعددة الجوانب على الصعد الإقتصادية والإجتماعية والأمنية.
وأيضاً تمر المنطقة بحالة من التحولات والتطورات فرضها واقع الميدان، وهناك دول غربية بدأت بإعادة حساباتها وتغير مواقفها تجاه الأزمة السورية، ويخرج المتآمرون بالهزائم وقد فشلوا أمام إرادة صمود سوريا وجيشها وشعبها، والإنتصارات تلوح في الأفق، والعد العكسي لهزيمة نهائية تصيب الإرهاب قد بدأت، واليوم يتعاظم الأمل وسوريا تحمل البشائر ومتغيرات إقليمية ودولية لصالح استعادة سوريا والمنطقة بأكملها للأمن والإستقرار.
والجديد في وقائع الميدان، هناك تقارب روسي – تركي الى حد التنسيق في العمليات العسكرية ضد “داعش” وأمثالها، وهذه نذر تمهد لخطوة تمهيدية لإطلاق مفاوضات سياسية بين الحكومة السورية و”المعارضة” في العاصمة الكازاخستانية (الآستانة) أواخر شهر كانون الثاني 2017 ومشاركة الأمم المتحدة والهدف التوصل الى “خارطة طريق” لتسوية الأزمة السورية، وتبنّى مجلس الأمن الدولي بالإجماع قراراً دولياً يؤيّد الإتفاق.
وساهم الإنتصار الذي حققه الجيش العربي السوري وحلفاؤه المخلصون في حلب، وهو إنتصار تاريخي أدّى الى التوصل لوقف للأعمال القتالية في سوريا وبالتنسيق مع إيران، ومن شأن هذا الوقف تهيئة الظروف لحوار سياسي بين السوريين دون أي تدخل خارجي أو شروط مسبوقة، والمشاركة في اجتماع “الآستانة” لإستثمار الإنتصار في حلب الذي يشكل فرصة للوصول الى حل سياسي للأزمة في سوريا.
ومن الأهمية بمكان أن يستمر تعميق التنسيق السوري – الروسي – الإيراني في مواجهة الدور الخبيث الذي تلعبه بعض الدول الإقليمية التي تستمر في تقديم مختلف أشكال الدعم للمجموعات الإرهابية، وهي تحاول عبثاً إعادة عقارب الساعة الى الوراء، وليس صدفة أن يضرب الإرهاب في تركيا ويختار أهدافه بدقة وهدفه تدمير هيبة الدولة التركية وزعزعة استقرارها وهو يأتي ردًّا على الإستدارة التركية والتحول في الموقف التركي بعد أن كانت تركيا قد لعبت دوراً رئيسياً في دعم ومساندة المعارضة المسلحة المدرجة أميركياً وروسياً على قائمة الإرهاب طوال السنوات الماضية.
إن إنحراف تركيا ودعمها للإرهاب أوقعها في المستنقع الدموي وهي اليوم تحصد ما زرعت بسبب سياساتها ومواقفها المرتبكة وضياع بوصلة قيادتها، خلق لها أكبر قدر من الأعداء في تاريخها.
تركيا تعيش أزمة حقيقية بشقيها الإرهابي والإقتصادي، والمخارج منها تبدو غير جاهزة. إنه استحقاق واجب لا بدّ من دفع أثمانه، وتبدو حالة الإرتباك التركي واضحة، والسؤال لماذا يتهم أردوغان الولايات المتحدة بالتعاون مع “داعش”، ويتحدث “عن أدلة تفيد بأن التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة يدعم “داعش”، وقوله: “إن قوات التحالف الدولي العاملة في سوريا لا توفي بإلتزاماتها في الحرب على “داعش”، وكذلك يدعم التحالف الدولي كافة الجماعات الإرهابية”.
“هذا الإتهام مثير للسخرية على حد قول الخبير العسكري رئيس قسم دراسات الصراعات المسلحة في الشرق الأوسط التابع لمعهد التنمية المبتكرة، أنطوان مارداسوف: هذا الإتهام في هذا الوقت يبدو مضحكاً، وهي تذكرنا بالعلاقة الوثيقة والمثبتة بالبراهين بين الأجهزة الخاصة التركية وتنظيم “داعش”، وهنا نتذكر الدخول المريب من حيث السرعة للقوات التركية الى مدينة جرابلس السورية، وهذا يفسر تعثر القوات التركية ووقفها المدة الطويلة على أبواب مدينة الباب”.
بالتأكيد، “إختار أردوغان الوقت الملائم لإتهام واشنطن مستفيداً من أن إدارة أوباما الراحلة ليست قادرة على التحرك في المرحلة الإنتقالية”، وخطوة أردوغان الإستباقية هذه تعبّر عن تخوف من سياسة واشنطن الخارجية المقبلة إزاء الشرق الأوسط وسوريا.
وأيضاً يبقى هناك شك حول فاعلية المفاوضات المفترضة، لأن استدراج ممولي الإرهاب للتفاوض مع سوريا وإيران لم يبدأ بعد، وهم يرون الإرهاب يضرب في تركيا، لا يبدو أي أفق مشرق بعد، أدوات العدوان لم تتغير، والميدان مازال صاحب الكلمة الفصل، معركة حلب وانتصار سوريا وحلفائها سيكون له ما بعده في معادلات المنطقة والموازين الدولية، والصراع مازال مستمراً والأبواب مشرعة على كافة الإحتمالات.