في سوريا المجد والرفعة وعنوان الحضارة، يختلف سلم أولويات الحياة عنه في البلدان الأخرى، وهذا يعود الى طبيعة سوريا ودورها التاريخي وما تمثله في ضمير أبناء أمتها.
ظلّت سوريا عبر الأزل مهد الحضارات والمدافعة وبكل بسالة واقتدار عن كرامة أمتها، واجهت الغزوات على أنواعها وانتصرت وثبت بأنها صانعة المعادلات وبوابة الإنتصارات، والثابت الذي يعول عليه في المبادئ والأهداف وهي الملتزمة بقضايا أمتها ومهما غلت التضحيات.
وفي العصر الحديث، ومنذ عصر النهضة وتداعيات حروب القرن الماضي، مازال هدف قوى الهيمنة الإستعمارية هو العمل على إخضاع المنطقة وسلب ثرواتها ومواردها والسيطرة على نقطة تقاطع القارات الثلاث، لذلك كانت سوريا عبر تاريخها رأس حربة في مواجهة القوى الباغية والطامعة، صمدت عبر تاريخها وحملت وزر الدفاع عن قيم أمتها وعلى أبوابها إندحر الغزاة.
ومنذ عقدين من الزمن، وفي أوج صعود الهيمنة الأميركية على العالم من خلال آحادية مفرطة، أخلّت بالمعادلات الإقليمية والتوازنات الدولية، ظلّت سوريا وفية لتاريخها، صمدت في وجه الخطط والمشاريع الأميركية والغربية، المتصهينة منها والمرتبطة بحسابات النفط والغاز في معاقل الرجعية التابعة والمحمية بالقواعد الإستعمارية، ودفعت سوريا ضريبة الإلتزام بقضايا أمتها، وظلّت فلسطين قضيتها المركزية، وبوصلة نضالها، من هنا كانت سوريا مستهدفة عندما هبّت غيوم “الربيع” المزيّف الذي تمّ اختراعه على عجل، وتمّ تزوير الحقائق وحانت فرصة قوى الهيمنة الإستعمارية التي عملت على دعم قوى الإرهاب الذي صنعوه في أفغانستان وغذّوه بالفكر الوهابي التكفيري وأموال بترول العرب، والهدف دعم المشروع الذي يستهدف المنطقة وإدارة حروب طويلة واستثمارها وإبقاء التوازن الدولي في مصلحة الآحادية الأميركية المتصهينة، وتكملة المشروع الأميركي المسمى “الشرق الأوسط الجديد” حيث حاولوا تنفيذه منذ غزو العراق عام 2003 والحرب الإسرائيلية التي شُنّت على لبنان بدعم وإيعاز أميركي، لكن تلك الغزوات فشلت في تحقيق هدفها إذ توحّدت إرادة الصمود والممانعة والمقاومة، مثل هذه المعادلة كانت بمثابة تحدٍّ بالغ لإرادة القوى الإستعمارية.
رأى العالم حجم الإستهداف والهجمة ضد سوريا والمقاومة، استهداف الدولة السورية واستهداف المقاومة التي يمثلها “حزب الله”، وأستُخدم الإرهاب من قبل المثلث “الأميركي – الصهيوني – الرجعي” وهدفه ضرب قلعة صمود الأمة من داخلها، عبر تفكيك وحدتها الداخلية وأتباع “سياسة فرّق تسد” وإشاعة الحروب وإثارة الضغائن والأحقاد والذهاب بعيداً في استخدام كل وسائل التفرقة والإنقسام، واختراع أساليب شيطانية وفكر تدميري تديره الدول التابعة للعجلة الأميركية في المنطقة.
وأمام صمود سوريا ومعها قوى المقاومة والقوى الرديفة والحليفة، تمّ إفشال المشروع الأميركي الغربي ومنعه من تحقيق أهدافه العدوانية، وبالرغم من إرتفاع منسوب اللهب في المنطقة والتكاليف الباهظة، عمل المشروع وأدواته لتحقيق أهدافه من خلال عملية استنزاف طويلة والرهان على عامل الوقت، وأخطأت تلك الحسابات مرة أخرى عندما ظنّت بأنها قادرة على الهيمنة على المنطقة.
دخل العامل الروسي على خط الصراع في المنطقة وبشكل فاعل عبر ساحة الصراع وهدفه محاربة الإرهاب وتقديم الدعم لسوريا لتبقى صمام الأمان في استقرار المنطقة وتغيير الموازين الدولية بغير ما يشتهي أصحاب المشروع الأميركي.
وثبت مدى قوة سوريا وصلابة مواقفها وحكمة قيادتها، وجاء نجاح سوريا وصمودها كمحصلة لصدق تحالفاتها، وهي على طريق النصر ماضية وتخلق واقعاً جديداً أربك القوى المعتدية وأدواتها وفضح حجم الإستهداف والإزدواجية الأميركية التي تدّعي بمحاربة الإرهاب بينما تستثمره في الواقع من أجل تحقيق أهداف سياسية.
إنهزام المشروع الأميركي في سوريا
وفي تداعيات هزيمة المشروع الأميركي وأدواته، يكفي النظر الى نتائج الإنتخابات الأميركية وفوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالرئاسة، وتبدو الحقائق وهي واضحة والأزمة وهي عميقة والمشهد الذي قلب كل التوقعات، أصابت التناقضات عمق المجتمع الأميركي وحالة من الجدل الساخن في بيئته الداخلية، وأبرز النتائج والتساؤلات تتمحور حول جدوى الحرب التي تُشن على سوريا تحت ذريعة محاربة الإرهاب؟!.
وفي المجتمع الأميركي ظهر جلياً وبكل وضوح مدى حالة الغضب التي تسود قطاعات عريضة هناك ضد المؤسسة الأميركية الحاكمة، فالمواطن الأميركي لم يصوّت على تغيير حزب حاكم وإنما على التصويت على نظام حكم، وأصبح يتّهم نخبة واشنطن وإمبراطوريتها الإعلامية بخداعه وتزييف الحقائق بدءًا من الواقع الإقتصادي وصولاً الى الحروب الأميركية الخاسرة.
وحاولت إدارة الرئيس أوباما في آخر عهدها استمالة الناخب الأميركي وبنفس الوقت وبالتوازي عملت على استدارة ما، عندما فشل مشروعها في المنطقة وسقط الرهان على الإرهاب وانتهى الإستثمار فيه، لذلك أقرّت “قانون جاستا” ودعمه الرئيس المنتخب دونالد ترامب “ومضمونه الحماية بثمن وحصة من ريع دخل النفط في الخليج والسعودية”، ومن ثمّ إثارة قضايا دعم الإرهاب والمجموعات الإرهابية على تلك الدول وابتزازها اللاحق، وبنفس الوقت عملت الإدارة الأميركية الجديدة على ترك هامش، ولكي يشعر بعض أولئك “العرب” بشيء من الإرتياح تعهّد ترامب “بعدم تصدير الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان الى بلدانهم ولن يتّخذها معياراً لتغيير الأنظمة” وما يهمه نهب الموارد وارتباط أولئك بالعجلة الأميركية.
وهناك تساؤلات حول الدور الأميركي الجديد في عهد الرئيس ترامب ومدى تأثيراته في الأزمة السورية وماهية هذا الدور؟ وخاصة بعد أن أعاقت الولايات المتحدة برئاسة أوباما خطط روسيا من التمكّن من القضاء على الإرهابيين في وقت قصير، وذهبت إدارة الرئيس أوباما في دعم الإرهاب بكل الوسائل، وما هو المأمول في ظل المتغيّر الجديد؟.
كل المؤشرات تفيد كما تعبّر عنها تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب ترامب، بأنه سيكون أكثر ملاءمة في السعي لمحاولة فك الإرتباط جزئياً والتخلص من تورط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وأكّد “أن روسيا وسوريا وإيران هم اللاعبون الوحيدون الذين خاضوا المعركة ضد الإرهابيين في منطقة الشرق الأوسط، وأوضح أنه يريد التنسيق مع موسكو، وانتقد إدارة أوباما بشدة بسبب تورطها العميق في أزمة الشرق الأوسط، وسيعمل على إبعاد الولايات المتحدة من بعض هذه التدخلات.
أثبتت الأحداث أن الميدان صاحب الكلمة الفصل والعامل الحاسم، والحرب على الإرهاب ستتخذ منحى أكثر قوة وإطلاق يد روسيا بصورة أكثر حرية تسمح في حسم الحرب ضد الإرهاب، وستسمح الظروف برؤية أكثر وضوحاً لحقيقة ما يجري في المنطقة ومَن يقف وراء الحروب والأزمات التي تدور في المنطقة والعالم.
دور سوريا الإقليمي
تبدو شهامة التاريخ في سوريا واضحة عبر صفحات المجد والعطاء، وهي في موقع الصدارة والحاضرة والمدافعة عن قضايا أمتها، ويحلو لها أن تظل عرين العروبة الحقيقية، أما أولئك الذين باعوا وهانوا سيذكرهم التاريخ على هوامشه للذكرى الأليمة ولتوثيق لعنته وستلاحقهم الأجيال وسيحصدون الذل والخسران.
نجحت سوريا المعبرة عن تطلعات جماهير أمتنا لحياة حرة كريمة وشموخ يعانق السماء، وظلّت مركز الثقل والوازنة في المعادلات الإقليمية والمرجحة للموازين الدولية، في الحق وفي الإستحقاق بكل جدارة، وهي تواجه الإرهاب والقوى المتصهينة وأدواتها، وبقيت على مدى التاريخ وفية صادقة مع ذاتها وثوابتها الوطنية والقومية.
وسيسجل التاريخ بصفحات من المجد، على أبواب سوريا ومدنها وقراها أن مشاريع الأعداء سقطت ونال الغزاة الهزيمة، وثبت أن أبطال المقاومة يمتلكون السلاح الأمضى وهو قوة الإرادة ونظافة القضايا، لذلك كان النصر حليفهم أينما حلوا، وفي سوريا تعانقت بنادق أبطال محور المقاومة، وهبوا معاً يدافعون عن الأرض وكرامة الأمة، أخذوا دورهم وترجموا الوفاء بالوفاء، وفي إنتصار سوريا إنتصار لقضايا الأمة في فلسطين ولكل التواقين للخلاص من آحادية القطب الأميركي الذي يتحكم بمصير العالم، والإنتقال الى واقع جديد عنوانه العدل وانعتاق البشرية.
ومنذ بداية الأحداث والحرب الكونية التي شُنّت ضد سوريا، قالها السيد الرئيس بشار الأسد وبكل وضوح: “أن ما يحدث في سوريا لن يتوقف عندها بل سيسبب زلزالاً مدمراً سيضرب المنطقة كلها وسيصل الى أبعد من منطقة الشرق الأوسط وأوروبا”.
إختارت سوريا التعاطي بإيجابية مع “قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254″، وهي عملية سياسية بقيادة سوريا وتتمّ خلال فترة زمنية محددة وآلية لها أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية.
وراهن الأعداء على عامل الوقت واستنزاف القدرات السورية وهدف إضعاف سوريا وتقسيمها ومصادرة قرارها، وعند استئناف المفاوضات السورية في جنيف وتحديد المسار اللاحق على المستوى السياسي، ظهر الموقف السوري واضحاً وقوياً ومحذراً من اللعب بالمفردات ويتلخص بمنع الأعداء من تحقيق أي مكسب جزئي، ويومها قالها وزير الخارجية السورية والمغتربين وليد المعلّم: “إن السيد الرئيس بشار الأسد خط أحمر، وإن دمشق واضحة وهي لن تقبل ما يفرض عليها ولديها قناعة تامة بأن مسار التفاوض هو في النهاية قرار سوري سيادي وبقيادة سورية”.
وظلّت مواقف القيادة السورية واضحة وقوية في محاربة الإرهاب دون هوادة، رأت: “أن الإرهاب لا يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق المصالح الإقتصادية والسياسية”، لكن أميركا ومَن يتبعها من الدول الأوروبية عملت على دعم ما سمته “معارضة معتدلة” وهم في حقيقة الأمر مجرد أدوات مسلحة تدار من تلك الدول وتخدم مصالحها ومن بين صفوف تلك المعارضة قوى إرهابية تتسلح بالفكر التكفيري المضلل وبالسلاح الأميركي وبأموال النفط والغاز في الخليج والسعودية.
سوريا في مواجهة الإرهاب
تصدت سوريا للإرهاب التكفيري من خلال قرار واضح مفاده: “أن القتال لن يتوقف حتى القضاء على الإرهابيين في مناطق الحدود وقرار الحسم تمّ إتّخاذه وسيترجم في الميدان”، وهذا هو الرد المناسب على كل الطامعين في الإستثمار في الإرهاب وإتّخاذه وسيلة لإضعاف الدول ونهب مواردها وجعلها رهينة الفوضى والضعف مما يسهل السيطرة عليها والهيمنة على قرارها ومصادرته خدمة للأجندات الإستعمارية.
وأثبتت الأحداث مدى زيف دعوات “الديمقراطية” و”الحرية” التي نادى بها أعداء سوريا والتي رافقت الهجمة المسلحة بأدوات تكفيرية تمّ استيرادها من كهوف التاريخ بعيداً عن الحضارة واحترام إنسانية بني البشر، وثبت بأن ديمقراطيتهم هي ديمقراطية استباحة الحياة، ونهب موارد الشعوب واستباحة الأرض وتعزيز القواعد الإستعمارية في بلادنا، ومثالها الكيان الصهيوني، القاعدة الإستعمارية الأولى في المنطقة.
وأرسى صمود سوريا ومقاومتها نتائج هامة في الميدان، وثبت مدى صوابية الرؤية السورية وأولوياتها في محاربة الإرهاب، وجاءت موجة التفجيرات في الولايات المتحدة كما في أوروبا وتركيا، لتؤكّد بأن الإرهاب يرتد على داعميه في النهاية، وهذا ما دفع الرئيس الأميركي أوباما يومها ليؤكّد تلك الحقائق، حيث أشار وبكل وضوح لصحيفة “أتلانتيك”: “الى السعودية وهي تعمل على نشر التطرف والإرهاب”، وهذه أولى المؤشرات التي صبّت في مصلحة سوريا، وهي تعني هروب أميركي وتجنّب من دفع الأثمان، وتبع ذلك مسيرة مفاوضات “مجموعة فيينا” للتوصل الى حل سياسي في سوريا، وهو أولى التراجعات التدريجية عن كل ما جرى الحديث حول ما سمي “المرحلة الإنتقالية”، وصبّ هذا في مصلحة سوريا والتسليم بمعظم شروطها وما تمسّكت به من ثوابت وطنية.
الموقف الروسي… قوة ووضوح الرؤية
وقفت روسيا الإتحادية الى جانب سوريا وقفة مشرفة جاءت في أوج الصراع الدائر في المنطقة، وتميّز الموقف الروسي بالقوة ووضوح الرؤية والإستعداد لمواجهة كل الإحتمالات والتداعيات، وفي غمرة الأحداث هذه، سقط التحالف “التركي – السعودي” مبكراً عندما تدخلت روسيا بكل ثقلها في معادلة الصراع وأفشلت ما كان مدبّراً ومخططاً.
وفي أهمية دخول روسيا الى المنطقة، تمّ دعم الجيش العربي السوري بأسلحة نوعية وازنة ومختلفة تلبي إحتياجات المواجهة الصاعدة، وبذلك استطاعت سوريا أن تفرض شروط التسوية المنظورة في “جنيف”، واستطاعت روسيا من البوابة السورية العمل على تحقيق إنجاز هام في سياق استراتيجية تعتمد على المسارين العسكري والسياسي وتتقاطع شروطها مع شروط التسوية السورية، وعملت روسيا من خلال خطة للسلام في سوريا وإتّفقت من واشنطن على مسار الحل ورؤيته اللاحقة، وبدأ المسار الجديد بـ “هدنة” أعقبها إنعقاد مؤتمر جنيف في شباط 2016، ورافق ذلك تأكيدات سورية حازمة عبّرت عنها المواقف الرسمية للدولة السورية، وأعلن السيد الرئيس بشار الأسد بأنه يريد استعادة سوريا كلها، وجاء ردّه في سياق بعض الطروحات التي تحدثت عن “الفيدرالية”.
إن استخدام “الفيتو” الروسي – الصيني المزدوج لإجهاض مشروع قرار مجلس الأمن الدولي الذي ينص على هدنة حلب لمدة أسبوع دون خروج المسلحين، هو مؤشر هام يؤكّد مدى صلابة الموقف الروسي والإصرار على خروج المسلحين من حلب، واستخدام الصين لـ “الفيتو” هو رسالة بالغة للمسلحين ومَن يدعمهم من العرب والأتراك ورسالة سياسية وعسكرية مهمة تقول إن الصين تقف بقوة الى جانب الحكومة السورية والى جانب روسيا وإيران.
وبدأت بشائر النصر وهزيمة الإرهاب في معركة تحرير تدمر ومن ثم التوجه الى حلب واستعادتها من براثن الإرهاب، وأصبح الموقف السوري المعلن، بأن الحسم في الميدان قد بدأ والمبادرة أصبحت بأيدي الأمناء والأوفياء، حماة الديار ومعهم حلفاء سوريا شركاء الدم والمصير في “حزب الله”.
وتثبت الأحداث بأن سوريا تقدم التضحيات، وهي بذلك تدافع عن قيم الإنسان وحقه وعن أمتها وفي مرحلة هامة من تاريخها، وهي كبيرة في مواجهة الأعداء الذين اجتمعوا من كل حدب وصوب من أصقاع المعمورة، وتثبت سوريا بأنها عصية على الإستسلام، بالرغم من الحرب الشاملة التي شُنّت عليها، تلك الحرب التي لا تقتصر على الدعم الخارجي للإرهاب، وإنما هي حرب سياسية على المستوى الدولي، وهي مؤامرة موصوفة وحرب اقتصادية، أوعز فيها للإرهابيين والعملاء والمرتزقة بتدمير البنية التحتية، وفرضوا حصاراً مباشراً على الحدود السورية من كل الجهات ومن خلال الإرهابيين الذين أتوا من أكثر من 80 دولة، وتمّ محاربة سوريا بكل السبل وعبر الأنظمة المصرفية أيضاً، واستخدام ما سمي “معارضة معتدلة” هو من باب التمويه والتعمية على الحقائق، أما المعارضة الحقيقية فهي تلك التي تحافظ على قدرات الوطن وبنيته التحتية وأن يكون لها قواعد شعبية سورية تعمل لمصلحة بلادها، وهي مختلفة عن الإرهاب المدعوم من الخارج الذي هو مجرد أداة قتل وتدمير ويتحالف مع أعداء الوطن.
وسيسجل التاريخ لسوريا، أنها بوابة النصر والعبور لمرحلة جديدة وهامة في الصراع ومواجهة الهيمنة والآحادية الأميركية، ويؤكّد المراقبون، بأن سوريا هي بوابة عبور روسيا الى عالم جديد تفرض فيه أجندتها على قدم المساواة مع الجانب الأميركي بما يؤمّن الإستقرار في المنطقة وتحقيق المصالح المشتركة بما فيه الحرب على الإرهاب الذي يهدّد الإستقرار والسلم في العالم.
حلب عنوان الإنتصار
تمكّنت سوريا بحكمة وشجاعة قيادتها وبسالة جيشها وأصالة شعبها من الصمود في وجه الهجمة الكونية ضدها وانتقلت الى مرحلة الهجوم والحسم في الميدان، وفي نفس الوقت حاولت أميركا بكل ما تملكه من أدوات في المنطقة العمل على وقف الإندفاعة السورية التي إنطلقت في الميدان وبشكل قوي ومميز منذ أواخر العام الماضي 2015، حيث اعتمدت سوريا استراتيجية الحرب الشاملة على الإرهاب في كافة الجهات والأماكن على الساحة السورية، وهذه الإستراتيجية جرى تنفيذها باستخدام كافة القوى الرسمية والشعبية وحلفاء سوريا في محور المقاومة، وقدمت روسيا كل ما يلزم استجابة للطلب السوري وبدأ الهجوم المتعدد الإتجاهات، وحققت سوريا جملة من الإنجازات الهامة، وثبت أن لا أمل للعدوان من تحقيق أهدافه.
وعندما أحسّت أميركا، قائدة الهجمة وصاحبة المشروع بالهزيمة والخسارة المدوية والعجز عن تغيير إتجاه الأحداث، عملت على استدراج القوى المدافعة الى حرب استنزاف وإطالة أمد الصراع، ثم ابتدعت خطة جديدة تقوم على “فكرة تقسيم سوريا” وبها تكتفي بحصولها على جزء من البلاد يكون تعويضاً لها عن العجز عن السيطرة على كل سوريا ومن ثم على المنطقة واستطاعت الحصول على “هدنة” ووقف الأعمال القتالية هناك وأن تجمع قوى محلية وترفدها بالخبرات والسلاح من الحلف الأطلسي وأن توحي للعالم بأن “خطة تقسيم سوريا هي الحل”، وبالتوازي ذهبت الطائرات الأميركية الى مدينة دير الزور وقصفت مراكز الجيش العربي السوري والهدف إخراجه من المنطقة وتسليمها الى “داعش”، ودعمت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ودفعتها للدخول الى مدينة منبج ولوّحت بها لإرسالها الى الرقة لإستلامها من “داعش”، وحرّكت الأتراك ليكون لهم الدور الميداني المؤثر الذي يصب في النهاية في مصلحة أميركا ويمنع سوريا من السيطرة على كامل أراضيها حتى الشمال.
لكن أميركا التي تظاهرت بأنها تحقق المكاسب في الميدان كانت تعرف أن هذه المنجزات الإفتراضية لن تصرف في السياسة بما يوحي بإنقلاب المشهد ما لم تسيطر القوى الإرهابية التي تدعمها على حلب، وحلب في المنظور الأميركي، وبالمنظور الاستراتيجي العام والمجرد هي المحل الذي يحسم وجهة الصراع ومن يمتلك السيطرة عليها يستطيع أن ينظر الى الأفق المستقبلي لمسار الأحداث.
رأت القيادة السورية أن هزيمة الإرهاب ودحره عن حلب أصبحت أولوية وهذا يعني إسقاط مشروع التقسيم الأميركي، وبالنسبة لأميركا لا يمكن نجاح خطة التقسيم من غير حلب، لذلك عملت منذ مطلع العام الجاري 2016، بشتى الطرق والأساليب من أجل امتلاك السيطرة على حلب، لذلك كانت محاولتها الأخيرة التي أطلق عليها “ملحمة حلب الكبرى” والتي اعتبرت بمثابة الرصاصة الأخيرة في مخزن سلاح الإرهاب بعد المحاولات السابقة، وسمحت أميركا للإرهاب باستخدام أقصى الطاقات والقدرات بما في ذلك السلاح الكيماوي.
حاولت إدارة أوباما العمل على تحقيق إنجاز ما في حلب عشية الإنتخابات الرئاسية الأميركية، وهي إنجازات يحتاجها الديمقراطيون في صناديق الإقتراع، وتحدث الإرهابيون عن إنجازات هامة إدّعوا أنها تحققت في الأيام الأولى لـ “ملحمة حلب الكبرى”، وبيّنت الوقائع الميدانية أن تلك الإدعاءات هي مجرد إنجازات واهمة، والفرصة الأميركية لم تكتمل ولم يدم ما تحقق منها، إذ أن سوريا وحلفاءها عرفوا كيف يتعاملون مع الموقف ويجهضون الهجوم ويزيلون أثاره.
وإستطاع الجيش العربي السوري وحلفاؤه ورغم وقف الطيران الروسي لعملياته الحربية منذ 18 تشرين الثاني، وتمّ تنفيذ عملية عسكرية فذة وعلى مراحل، بدأت باستيعاب الهجوم الإرهابي لإحتوائه، ثمّ تضييق الخناق على المجموعات الإرهابية المقتحمة وقطع طرق إمدادها حتى عزلها، وثم إعادة الحال الى ما كان عليه في الأرض، وثم توسيع مناطق سيطرة الجيش والحلفاء.
أثبتت معركة حلب أهمية ومدى الإنجاز العسكري السوري، على الصعيد الميداني والاستراتيجي، حيث ألقت أميركا بكل ثقلها في الميدان من خلال الإرهابيين ودعمهم بالأسلحة الحديثة من أجل حصد مكسب ما وتوظيفه لصالح الديمقراطيين في الإنتخابات الرئاسية، وأمام الفشل الأميركي وأدواته الإرهابية، كانت هناك نتائج وتداعيات لها ما بعدها، وبدأت النظرة الأميركية للحرب على سوريا بعد الإنتخابات الأميركية تتغير وهذا ما أعلنه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، أي إنتقل الإهتمام الأميركي من هدف إسقاط الحكومة السورية، مع الإستثمار في الإرهاب وحمايته، الى هدف محاربة الإرهاب دون اهتمام آخر وعدم التدخل في شأن الرئاسة السورية، وهذا الأمر سيلقي بظلاله في المرحلة اللاحقة، وأعطت دوراً أكبر للعامل التركي بما يحفظ مصالحها.
وفشلت المجموعات الإرهابية في الإحتفاظ بأي إنجاز وبالتالي لن تقوى على إطلاق هجوم جديد مماثل بعد الكم الكبير من الخسائر والإنهيارات المعنوية التي مُنيت بها.
وثبت بأن القوات المدافعة عن حلب، الجيش العربي السوري ومعه الحلفاء، استطاعوا امتلاك زمام المبادرة والإنتقال الى الهجوم واستئناف خطط تحرير ما تبقى من الأحياء الشرقية من حلب، أي أن معركة تحرير حلب أصبحت بحكم المنتهية، بعد إجهاض “ملحمة حلب الكبرى” التي إنقلبت على أصحابها وتحولت الى كارثة أصابت الإرهابيين في الميدان وخسارة معنوية كبيرة وسياسية أصابت مموليهم وداعميهم وأصحاب مشروع العدوان على سوريا.