الجديد – القديم، الدور الروسي والإيراني في منطقة الشرق الأوسط بكل ما فيها من أزمات وحروب. ما حقيقة هذا الدور ومساره وصعوده وصولاً الى لحظة الحقيقة الماثلة على مسرح الأحداث بكل تفرعاتها؟
في المشهد الماثل نلحظ شعاع أمل ونقطة إنعطاف تاريخية بدأت تتشكّل في المنطقة وعلى أنقاض الحرب الكونية التي استهدفت سوريا من خلال أدوات إرهابية تحمل الفكر التكفيري المتخلف تقاطعت مع أفكار السلطنة العثمانية الجديدة التي يمثلها أردوغان تركيا، تلك السلطنة التي لم تقدم للعرب سوى التخلف على كافة الصعد والجهل والخرافات.
والجديد اليوم، بدأت ملامح سقوط المشروع الذي استهدف المنطقة تبدو للعيان في أكثر من محطة ومفصل، ولعبت التناقضات داخل المعسكر “العربي – التركي” الداعم للحرب على سوريا والعراق، دورها في إفشال المخطط الأميركي الأكبر، فالسعودية الوهابية ليست في موقع الترحيب بأنظمة إسلامية على شاكلة السلطنة العثمانية تنافسها في المنطقة.
ولم يتوقف إنهيار المخطط عند حد معين، فقد بدأ يرتد على أدواته من ممولين ومنفذين وداعمين سواء أكان دعماً عسكرياً أو سياسياً أو إعلامياً، والعامل الحاسم هو قوة محور المقاومة وصدق تحالفاته.
تكبّدت تركيا خسائر جسيمة بسبب دورها الهدام في المنطقة، عندما رضيت بدور الأداة في المشروع الأميركي في المنطقة وعلى أمل إعادة بعث “السلطنة العثمانية” من جديد، لكنها خسرت تجارتها وسياحتها وأمنها الداخلي، وازدادت خلافاتها مع أوروبا بعد أن تبخرت أحلام الإنضمام الى الإتحاد الأوروبي.
إن أحد أهم مؤشرات فشل الحرب الكونية ضد سوريا، هو النظر الى أوضاع تركيا الداخلية وحالة الإستياء من تورطها في الأزمة السورية ومساهمتها في الحرب، وهناك حالة غضب عارمة في المناطق ذات الأغلبية الكردية في تركيا، وجميع التأثيرات أصبحت تهدد وحدة تركيا وأمنها واستقرارها.
وكشف إنقلاب 15 – 16 تموز 2016 في تركيا مدى هشاشة الأوضاع هناك، ودور الحلفاء في الإنقلاب “المفترض”، بينما حذّرت روسيا أردوغان من الإنقلاب وهي تعي ما يدبّر للمنطقة من مشاريع جديدة، وتولى أردوغان حملة هجوم على أوروبا بقوله: “إن مدّعي الديمقراطية لم يقلقوا أبداً على محاولة تهديمها على أيادي عصابة إرهابية، لم يتصل أحد بنا ليشجب الإنقلاب”، وبهذا تكون العلاقة بين أوروبا وتركيا قد أسقطت كل أقنعتها التجميلية.
وأيضاً، يبدو أن علاقة تركيا مع إيران قد دخلت مرحلة تقييم شامل من الجانب الإيراني، وهناك مصالح اقتصادية ودولية، رغم أن الخلاف على أشده في ما يخص السياسات الإقليمية، وخاصة في سوريا والعراق، لذلك عبّرت طهران عن دعمها للحكومة التركية بعد محاولة “الإنقلاب” ومن خلال إتصال الرئيس الإيراني حسن روحاني بأردوغان: “إن محاولة الإنقلاب إختبار لتحديد أصدقائكم وأعدائكم في الداخل والخارج”.
ولم يكن أمام نظام أردوغان سوى المناورة، لغايات استهلاكية في الشأن الداخلي والعربي، وهو أراد من خلال هذه اللعبة تحقيق مكاسب شعبية يعتقد بأنها ستأخذ من شعبية سوريا وإيران والمقاومة اللبنانية وفي محاولة منه لتخفيف خسائره السياسية، واستخدام تلك المناورة من خلال الإعتذار لروسيا التي إتّخذت إجراءات في مواجهة دعمه الإرهاب وتسويقه النفط المسروق من سوريا والعراق.
ويعي أردوغان حقيقة إمتلاك روسيا الأوراق الهامة والضاغطة في المنطقة والملفات المعلقة مثل ملفي سوريا وشبه جزيرة القرم أو أوكرانيا، وروسيا لن تفرط بكل ما تعتبره استراتيجياً، ودور روسيا قوي وصاعد لا يمكن تجاوزه ولا إلغاؤه بعقوبات اقتصادية أو بأحلاف واهمة.
وكانت تركيا قد أرسلت إشارات طمأنة الى موسكو في قمة الناتو (8 – 9) تموز في وارسو عندما أحبطت رغبة الولايات المتحدة للدفع بوجود دائم لقوات الحلف الأطلسي في البحر الأسود وهي خطط واشنطن لتحدي الوجود الروسي في تلك المنطقة وتطويق الأسطول البحري لروسيا في سيفاستوبول وتهديد شبه جزيرة القرم، وهذا على حساب علاقات تركيا بروسيا إرضاءً لبعض دول الناتو على حساب المصالح التركية.
وبالعودة الى إتفاقية المضائق “مونترو 1936” التي تمنع وجود بحري دائم في المنطقة لغير دول البحر الأسود وتعطي السيطرة لتركيا على مضائق البوسفور والدردنيل، من هنا لعبت تركيا بورقة هامة وهي رسالة مزدوجة لكل من واشنطن وموسكو، تمّ صرفها من قبل الأخيرة من خلال زيارة أردوغان واللقاء بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وتؤكّد الزيارة، بأن جسور تركيا الشمالية مع روسيا لم تحرق، وأردوغان في لعبته الجديدة، هذه “الإستدارة”، لم يراهن على حليف غير موثوق (الأميركي) بعد أن فشل مخططه الكبير في المنطقة.
وبنفس اللحظة تلقى الرئيس بوتين أهمية اللحظة الراهنة وأثبت بأنه قادر على قلب المعادلات وجعلها وازنة لمصلحته ودور روسيا في المنطقة.
وتجلى صعود الدور الروسي والإيراني في المنطقة بشكل عام من خلال سماح طهران للقاذفات الروسية باستخدام قاعدة “همدان” العسكرية لضرب مواقع الإرهاب في سوريا وخاصة “داعش والنصرة”، وهي رسائل هامة تتعدى مسألة الأزمة السورية وتطال الوضع الإقليمي والدور الإيراني والروسي.
هذا التحالف الميداني له بعده الإستراتيجي، وهو يعني بأن العلاقات بين البلدين بلغت وضعاً متقدماً، وهذه الخطوة تمنح روسيا تفوقاً عسكرياً مهماً للغاية، وهي رسالة إيران القوية بأن دورها يزداد قوة ويتعزز يوماً بعد يوم وهو مؤشر هام لقوة محور المقاومة، والمؤشر الأهم، بأن هذا التوافق “الروسي – الإيراني” قد أصبح مهيئاً لحسم الصراع في المنطقة، وفرض الحل السياسي الذي ينهي الحرب على سوريا ويؤكّد هزيمة الأعداء ومشاريعهم.