طويت الانتخابات البلدية والاختيارية في كلّ محطاتها والتي أثبتت بإجماع المراقبين والمحللين واللبنانيين قدرة لبنان على تأكيد نفسه في قلب المساحة الديمقراطيّة المنتجة على صعيد القرى والبلدات، وفي الوقت عينه عرّت الطبقة السياسية القابضة على السلطة في لبنان بسعيها للتمديد لأنفسها بحجج واهية وواهمة، بدءًا من الحجّة الأمنيّة، وورّطت معها مجلسًا دستوريًّا أثبت بدوره أنّه لا يحترم الدستور ولا هو حارس عليه وعلى سيرورته، بل هو جزء من حالة سياسيّة عفنة لا تقيم وزنا للاستحقاقات الدستورية، ومستثمرة لاقتصاد البلد ومؤسساته بشهوانية السلطة وغياب آليات المحاسبة الدقيقة والفاعلية المتلاشية امام الشخصانيّة الواهية المتحكمة بلقمة عيش اللبنانيين.
واذا كانت الانتخابات البلدية والاختيارية أعقد بكثير من الانتخابات النيابية وغالبًا ما تشهد شحنًا فائقًا ونفورًا بالغًا يقود إلى صدام هائل ضمن القرية الواحدة والبيئة الواحدة وربما “الجب” الواحد أو بين العائلات، بسبب العداوات الضيقة والمشاكل وصراع العائلات المتراكم في داخل القرية الواحدة، إلاّ أنّ هذا الاستحقاق البلدي قد مرّ غلى خير دون تسجيل اي حدث كبير يعكّر صفوة العملية الانتخابية، ولقد شكلت منطقة عرسال في البقاع الشمالي مثلاً واضحًا، وهي المحاطة بمجموعة ألغام تكفيرية وفيها اشخاص مطلوبون للعدالة وعلى أرضها سال دم طاهر من خيرة ضباط الجيش اللبناني وشبابه، لتظهر وكأنها حالة نموذجيّة في الانقلاب على نفسها بل المطهِّر لأرضها من الجماعات الارهابية المسلحة ، فأثبت العرساليون وبلا “ضربة كفّ”، أنهم مستحقون للبنان التكامل الوطني بانبلاجه من صناديق الاقتراع، مع انقلاب سلميّ للغاية سيكون مدى طيّبًا وتأكيدا لتواصل بين عرسال ومحيطها، ولتعبد بدورها الطريق امام المؤسسة العسكرية والاجهزة الأمنية للقضاء على الرابضين في جرودها وتحريرها وبالتالي استعادتها الى حضن الدولة.
عرسال كانت علامة مضيئة في هذه الانتخابات، وربما عجلت في مواقف بعض السياسيين وفي طليعتهم الرئيس بري الذي دعا الى ضرورة
تقصير عمر ولاية المجلس النيابيّ، من بعد إقرار قانون للانتخابات.
اذاً لا حجّة لأحد للتهرّب من إجراء الانتخابات النيابية كما لا حجّة لأحد بمناقشة مشروع من شأنه تأمين العدالة لمعظم المكونات اللبنانية وفقًا لقانون النسبيّة الشاملة وأوسع دائرة تمثيليّة تحوي في عمقها المناصفة الفعليّة-الميثاقيّة وليس اللفظيّة بين المسيحيين والمسلمين.
وبالعودة الى تقييم عام للانتخابات البلديّة بمراحلها المختلفة، تكشّفت بعض العلامات الهامّة بحسب عدد من المراقبين، توطّد ثقافة النسبيّة كأساس وعماد للانتخابات النيابيّة المقبلة، من هذه العلامات اللافتة، اقتحام نخب جديدة ضمن مسميات عديدة سواء المجتمع المدنيّ أو الأهليّ أو الثقافيّ او الشبابي في كل من بيروت والجنوب وجبل لبنان والبقاع، من خلال ترشّح عدد كبير من الشباب والشابات فمنهم من ربح ومنهم من خسر، ولكنهم شكلوا محطة لافتة في عدد من القرى والبلدات واستطاعوا ان يواجهوا المحادل التقليدية والتحالفات المحكمة الاقفال وأثبتوا وجودهم بانتصارهم في بلديات متعددة ، ومن رسب منهم فقد نال عددًا محترمًا من الأصوات بوجه تلك المحادل.
طبعًا ليس هذا محصورًا في بقعة جغرافية واحدة بل متشعّب في بلدات واقضية كثيرة ومحافظات عديدة، أظهر فيه الناخبون تمرّدهم على ثقافة التقليد والرجعية والمحاصصة والسمسرة والسرقات والتبعية العمياء وتوقهم إلى مشاريع إنمائيّة جديدة تكتبها تلك النخب الجديدة لوطن أفضل ومجتمع مزدهر.
هذا عينًا يفسّر في واقع الحال مواقف رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب ، وإصراره على قانون النسبية مع رفضه الواضح لقانون الستين، فوهاب انطلق من تلك الأرضيّة الجديدة وقد أمست بفعل اندراجها السياسيّ في عناوين عديدة معطى بدأ يترسّخ في لبنان ويملك، بالتالي، قدرة الاختراق، وقد جسّد قدرته تلك في الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة، بفوز عدد لا بأس به من المرشحين وإن لم يفوزوا فقد نالوا نسبة اصوات احتسبت في جوهر هذا المعطى بحيث لم يعد يقرأ بصورة عابرة بل يحسب له حساب كبير. لذلك لم يعد مقبولاً بكل المعايير عدم انتخاب مجلس نيابي جديد وتمديد ولاية المجلس الحالي مجدداً خصوصاً بعدما سفهت الانتخابات البلدية والاختيارية كل الذرائع التي سيقت لإجراء هذا التمديد عامي 2013 و2014.
ان الصراع الواضح في شكله الحالي والظاهر، يدور بين معسكرين : الاول يصر على النسبية المتبناة من قبل أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، ورئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون ، وثمّة معلومات تقول بأن الدكتور سمير جعجع قابل للنقاش فيها وحولها، مقابل المعسكر الثاني الذي يتمسك بقانون مختلط وقد تبنّاه وحاول إطلاقه رئيس مجلس النواب نبيه برّي ويسانده فيه الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط. ويقول البعض إنّ القانون المختلط الذي توافق عليه تيار “المستقبل” وحزب “القوات اللبنانية”والحزب التقدمي الاشتراكي والذي يقضي بإنتخاب 66 نائباً على اساس النظام الاكثري و62 نائباً على اساس النظام النسبي إنما يُفضي الى فوز اصحاب هذا المشروع و»14 آذار» عموماً بالاكثرية النيابية، وقد تبين هذا الامر من خلال “بوانتاج” أجرته جهات احصائية مختصة ونواب في فريق “8 آذار”.
يدرك السياسيون في لبنان ولكنهم يتغافلون عنه باستهتار كبير، إنّ قانون الانتخابات المتنازع على مواصفاته وكينونته وجوهره أو محتواه هو جوهر النظام السياسيّ في لبنان، وهو الإطار القانونيّ والدستوريّ-الميثاقيّ للحكم فيه. وفي عودة إلى القرن التاسع عشر وصولاً إلى المراحل الحاليّة لا بدّ أن يستوقف الناس بأن ّحرب 1840 لم تنته إلاّ بنظام القائمقاميتين ومن بعدها نظام المتصرفية وذلك حفاظًا على التوازن بين المسيحيين والدروز، وترسيخًا للتقارب الداخليّ، ودولة لبنان الكبير بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى تأسّست على أنقاض لبنان الصغير وعكف ميشال شيحا على كتابة الدستور سنة 1926، وكلّها جاءت من صناعات ورعايات دوليّة وإقليمية. وسارت الأحداث نحو ترسيخ صيغة ما سمي ب “العيش المشترك ” بين المسلمين والمسيحيين تمزقت بعد مدة قصيرة خلال مرحلة الاستقلال وترسيخ مفهوم الميثاق الوطني وبتنا ننطلق من محطة الى محطة ضمن صيغ مذهبية وطوائفيّة حتى وصلنا وبعد حروب اهلية قاسية وعبثيّة إلى اتفاق الطائف الذي جاء بتسوية بين الاميركيين و السوريين والسعوديين.
وفي كلّ تلك المراحل كان قانون الانتخاب المنطلق لكلّ نقاش وصراع. ولم يدرك زعماء الطوائف بأنّ قانون الستين وقد أقرّ خلال عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب قال عنه صانعه بأنه أسوا قانون على الإطلاق وجد في كلّ ذلك المسار، فما الدافع للتمسك به اوالدفاع عنه؟ كما أن القانون المختلط هو بدوره هجين ومسخ ويؤكّد تاليًا استمرار الصراع على أرض لبنان، ومصدر الصراع نظريًّا وفعليًّا أنّه يأتي “بناس بسمنة وناس بزيت” على حد قول الرئيس حسين الحسيني.
كل المؤشرات السائدة تدل الى أنّ امكانية التوافق على قانون انتخاب جديد ليست متاحة حتى الآن، لأنّ بعض القوى السياسية الاساسية لا تُبدي حماسة فعلية وكأنها تريد اضاعة الوقت وتمديد مرحلة الشغور الرئاسي وإعاقة التوصل الى قانون عادل للانتخابات طالما أنه لا يضمن لها الفوز بالاكثرية النيابية حتى إذا حلّ موعد الانتخابات ولم يكن قد أُقرّ قانون جديد تجرى على اساس القانون النافذ أي قانون الستين.
والواقع أنّ حتى بعض الذين يؤيدون قانون النسبية علناً يرفضونها ضمناً ، ولا يرون غضاضة في خوض الانتخابات النيابية المقبلة على أساس قانون الستين، ولكنّهم يُشدّدون علناً على إقرار قانون جديد ويريدونه أن يُحقّق لهم ما حقّقه قانون الستين من فوز بالاكثرية النيابية عام 2009، وهذا الوضع ينطبق على بعض الفرقاء السياسيين في 8 و14 آذار.
لذلك ينتظر أن تشهد المرحلة المقبلة سباقاً بين أولويتي سد الشغور الرئاسي والانتخابات النيابية والقانون الذي ستجرى على اساسه، في وقت يبدو الافق الاقليمي والدولي مقفلاً أمام حلول قريبة لأزمات المنطقة، وفي مقدمها الازمة السورية، لكن ذلك لا يعفي اللبنانيين من الدعوة إلى مؤتمر حوار وطنيّ تتمثّل فيه مختلف القوى والأحزاب اللبنانية بالتعاون مع النخب الفكريّة والسياسية والاقتصادية ، وفيه يتمّ الشروع بقراءة النظام السياسيّ الطائفي الحاليّ بصورة نقدية عاقلة وعادلة بتقييم دقيق لمعظم العناوين التي تشكل نقاط خلاف بين اللبنانيين ،من داخليّة وخارجيّة، والأسباب الموجبة التي ادّت إلى اضعاف رئاسة الجمهورية وتجريدها من الصلاحيات منذ مرحلة ما بعد الطائف إلى الآن، فتأخذ الجردة الحسابية بحدّ ذاتها عنوانًا اساسيًّا وضروريًّا على الرغم من كلّ التحديات والازمات التي تهدد اللبنانيين التواقين لتطوير نظامهم ودستورهم وحرصهم على وطنهم وحياتهم وحياة اولادهم.
الطامة هي هنا، وهي جوهر كلّ الأزمات المتفجرة على أرض الوطن ، ولن يستقيم حلّها إلاّ باعتماد قانون النسبية في الانتخابات، فلبنان بحاجة إلى النسبية المطلقة فهي التي تحميه وتوطّد نظامه وتسمح بأوسع مشاركة باندراج النسبية في داخل كلّ مذهب أو طائفة، وقد اكد على هذه المسألة بالذات الوزير وهاب مرارا وتكرارا ، فالنسبية تسمح بوجود ثنائيّات أو ثلاثيّات ضمن كلّ طائفة، وتمنع الاستيلاء على مقدرات الطائفة من باب الآحادية الممسكة بكل طائفة.
قانون النسبية هو المفصل في تكوين سلطة قادرة وعادلة ولا بدّ منها الآن وليس غدًا قبل أن يبتلعنا مجهول غامض في لجّة العبث التكفيري القاتل.