إذا أراد تيار المستقبل إقناع نفسه والآخرين بأنه ممثل السنة على امتداد لبنان من بيروت إلى الشمال، عليه النظر إلى طرابلس كي يدرك أنه على خطأ. “سقط ” سعد الحريري بين القوى الأخرى في عاصمة الشمال . لم يكُن الأضعف على المستوى الشعبي فحسب بل ان ماكينته الانتخابية كانت الأكثر تواضعاً وهزالة بين الماكينات الأخرى .في الأحد الرابع والأخير من الانتخابات البلدية، كانت الوجهة إلى الشمال. جرت رحى المعارك الانتخابية في أكثر من من قضاء ومنطقة.
لكن العين كانت على طرابلس. هناك، كل الاقطاب الذين ألفوا لوائحهم كانوا يريدون شيئاً ما. إما إثبات زغاماتهم التقليدية أو تكريس واقع جديد… وحده سعد الحريري أرادها رحلة للعودة من الاخفاقات الاستراتيجية والهفوات الداخلية ،لكن لم يكن في جعبته ما يكفي من المؤيدين لتكرس له مثل هذه العودة.
في ارض الفيحاء ، بدءاً من ساحة النور حتى أضيق زاروب فيها واكبت لسنوات سطوع نجم هذا الشاب ومحضته ثقتها،وذلك وفاء لوالده الشهيد الذي سرق قلوب الطرابلسيين وغيرهم من اللبنانيين. اما اليوم فتبدو المهمّة صعبة اذا ما اردت التفتيش عن عن صورة لسعد الحريري وأبيه ،أو حتى علم لحزب المستقبل.
ليست شوارع طرابلس بالنسبة إلى سعد الحريري أفضل من شوارع الرياض وباريس التي لا يعرفه فيها أحد من «العامة».فقد الحريري القدرة على كسب تأييد أناس «خبزوه وعجنوه» فلم يستحصلوا منه
إلا على فتات ووعود كاذبة ، لذلك كان من الطبيعي ان تعيش الحريرية السياسية حالة من انخفاض الأسهم بين الناس.
تبخرت ماكينة المستقبل الانتخابية بين ماكينات الحلفاء التابعة للرئيس ميقاتي والوزير محمد الصفدي والوزير السابق فيصل كرامي. فماكينة المستقبل لم تجِد ما تقدمه للناس ، مكتفية بتوزيع الرشاوى على الناخبين ولكن من جيبة الرئيس ميقاتي والاتكال على زعامة آل كرامي لاستقطاب الاصوات .
انها مشهدية اختصرت موقع سعد الحريري وتياره بين القوى السياسية والأحزاب والتيارات داخل المدينة. فشل الحريري باكراً في عاصمة الشمال مقابل خروج الاخصام والحلفاء بعناوين وشعارات ساندتها في تجميع قواها. بدا الحريري في مأزق حقيقي لم تكشفه سوى الانتخابات البلدية سواء في بيروت او طرابلس و التي حملت في طياتها عقاباً لسياسته التي بناها على اطلاق الوعود الكاذبة على الناس وتعبئتهم مذهبيا ضد الآخر بهدف الحفاظ على زعامته المتهاوية واحتكار تمثيل السنة على امتداد الوطن ولكن النتيجة لم تكُن الا يقظة متأخرة، وهي ببساطة محاولة لنفخ الروح في جسد زعامة يبدو كأنها تتهاوى.
اجتمع الاضداد والحلفاء ، الحريري وميقاتي والنائب الصفدي والوزير كرامي والجماعة الإسلامية وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية والحزب العربي الديمقراطي ونواب المدينة الآخرين.كلهم في قالب واحد ،
لم يصدّق أحد هذا التحالف الذي كان من المتوقع ان يحصد غالبية اصوات الطرابلسيين في صناديق الاقتراع
إلى درجة أن بعض وسائل الإعلام كانت تتعامل مع النتائج الاولية وفق منطق يقول إن الوزير اشرف ريفي هو الطرف الأضعف في المعادلة الطرابلسية . وهذا المنطق كان «يقينياً» إلى حد نشر أخبار تقول: «لائحة ريفي تخرق لائحة التوافق بـ19 مقعداً»! بدا كما لو أن الحريري لا يريد أن يصدق ما تردد على مسامعه.
ما جرى في عاصمة الشمال من نتائج على صعيد الانتخابات البلدية هو الحدث الأبرز الذي تشهده «الساحة السنية» في طرابلس خصوصا ولبنان عموما منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري. الحريرية السياسية، بنسختها التي يقودها الرئيس سعد الحريري تُحتضر. الجمهور الحريري قال كلمته امس: الزعيم الجديد اشرف ريفي هو الرجل الذي تمرّد علىالزعيم السابق سعد الحريري. النتيجة تصبح اكثر إيلاماً للحريرية السياسية إذا ما أضيفت إلى نتائج الانتخابات البلدية في بيروت وعرسال، وإلى «فرار» تيار المستقبل من المواجهة الانتخابية في غالبية مناطق نفوذه.
خاض سعد الحريري حتى الآن ثلاث معارك سياسية على الساحات السنية وكانت واضحة المعالم : بيروت وصيدا وطرابلس. خرج بانتصاؤ هزيل من جولة بيروت، ولم يستطع القضاء على خصمه أسامة سعد في صيدا، ثم تلقى ما يشبه الضربة القاضية في الجولة الاخيرة من مباراة ملاكمة مع حليف الامس على الساحة الطرابلسية .
ما يعمّق أزمة الحريري انه لم يكن وحيداً. هو وكلّ من ميقاتي والحريري وكرامي والصفدي بالتعاون مع النائب روبير فاضل والجماعة الإسلامية و«الأحباش» اجتمعوا كلهم لإعادة رسم خريطة طرابلس السياسية، وهؤلاء يملكون بالطبع ثروات هائلة تقدر بمليارات الدولارات، فيما وزير العدل ريفي يواجه وحيداً. والاخير وزير بحكم المستقيل ، وموظف سابق برتبة مدير عام في قوى الامن الداخلي ، في مقابل ماكينات خدماتية هائلة تعمل في المدينة منذ أكثر من عقدين، ويرعاها وزراء ونواب ورئيسا حكومة سابقان ومجالس وجمعيات ومؤسسات خيرية واجتماعية. لا شك أن بعض جهابذة اللائحة التوافقية دفعوا ثمن سياساتهم التجويعية منذ سنوات ، منذ أن قرروا تجاهل مطالب الطرابلسيين الإنمائية والمعيشية ، والسماح للتطرف ان يصول ويجول في الشوارع والاسواق والزواريب الطارابلسية.
ولا شك، ايضا أن الرياض ، راعية التوافق الطرابلسي، كانت تراقب ما يجري عن كثب. شوارع المدينة طوال يوم امس،. فطرابلس التي كانت منازلها مطليّة بالأبيض والأزرق، شلحت عنها رداء تيار المستقبل. معظم المحال تحولت إلى مراكز إنتخابية. صور المرشحين «دُرزت» على الحيطان حتى كادت تُنافس عدد شظايا ايام خرب المحاور. هتافات المؤيدين ومكبرات الصوت والأناشيد والهتافات تملأ المكان.
صور عملاقة وأناشيد تُمجد اسماء الزعماء في مدينة الفيحاء التي تعتبر المدينة الثانية في لبنان التي غصت قاعات التصويت بالناس والمرشحين والتي بلغت نسبتها 26,9٪. .توزعت اصواتهم بين لائحة ضمت كلّ من ميقاتي والحريري وكرامي والصفدي بالتعاون مع النائب روبير فاضل والجماعة الإسلامية و«الأحباش». مقابل لائحة مدعومة من الوزير ريفي دون ان ننسى ايضا النائب السابق مصباح الأحدب خارج الملعب الطرابلسي والوطني بعد أن أصر على الترشح إلى الانتخابات البلدية رغم إدراكه لصعوبة الخرق. أما بالنسبة لريفي فشبّهه بعض سياسيي المدينة أمس بالزعيم السني الجديد الذي اتخذ من الاستحقاق البلدي منطلقا لضرب الزعامة الحريرية في القلعة الطرابلسية ، وهذا ما عمدت على تثبيته صناديق الاقتراع.
ال “زي ما هي” سقطت في طرابلس وقبلها في بيروت وصيدا، فقد «سقطت هذه القاعدة»، وتبيّن أن «شريحة واسعة من جمهور المستقبل بات في عداد التيار الريفي المستجد على الساحة الطرابلسية الذي يصارع على الارض للحفاظ على وجوده ضد الحريرية السياسية الدخيلة على حد قول احدهم على عاصمة الشمال.
عبّر الطرابلسيون، بالامس في صناديق الاقتراع وقالوا “نعم” لريقي ، ولكن هل صوّتوا ضد “المحاصصة والإقطاع”. وهل سقطت قاعدة “زي ما هي” ؟ وماذا عن مصير “الاعتدال” بعد انتشار الخطاب المذهبي واخذه مطيّة للمقارعة الانتخابية؟
اسئلة بالجملة ولكن الايام كفيلة بالرد عليها.