يحتاج العرب الآن، وفي ذروة التحديات الهائلة للأمن القومي والوطني وللهوية العربية، إلى فهم الشأن السعودي وتحولاته الداخلية والخارجية. وإن هذا الفهم، لا يقل أهمية عن حاجتنا إلى التفكير في سيناريوهات مستقبل العلاقات السعودية – الإيرانية، تفاهماً أو تنافساً أو صداماً.
لنعترف بأن غالبية العرب عموما والخليجيين خصوصا سواء صادقوا أو عادوا إيران طوال أكثر من ثلاثة عقود ونصف، ولكن من دون أن يملكوا خريطة معرفية للمجتمع الإيراني، وللنظام السياسي والحكم والعسكرة والاقتصاد والمزاج الشعبي، والعقل والتفكير، والمرأة والشباب، ونقاط القوة والضعف فيه. كما انهم لا يفقهون نسق التحولات، ولا الفوارق بين مؤسسات الحكم الدينية و الحرس الثوري. لقد مرت تحولات جذرية تمت شرعنتها ودسترتها وتوَّحد الديني مع المدني، في مؤسسة “القائد” وتبلورت هوية جماعية وطنية ، امتزجت فيها الدولة القومية والدين، وتشكلت هيكلية لنظام محكوم بتراتبية قيادية وسياسية، وضابط إيقاع، هو المرشد، يضبط الخلافات والرؤى السياسية، ولديه هامش كبير لتقريب وجهات النظر بين الافرقاء السياسيين وضبط ايقاع كل المؤسسات الفاعلة.
بالمقابل جرت تحولات فارقة لم يدرك العرب جوهرها ومآلاتها، وظلت ثقافتهم ومعلوماتهم لا تتعدى قراءات صحفية،ومشاهد تلفزيونية وتقارير ودراسات تنشرها مراكز غربية.ومما يثير الدهشة أن في طهران وحدها عشرات المراكز البحثية المختصة بالدراسات العربية، في حين ليس لدى العرب بما فيها الدول الخليجية مركز بحثي متخصص في الشؤون الإيرانية.
وتنطبق الحال على غياب مراكز بحثية خليجية متخصصة بالشأن الأمريكي، رغم كل هذه الصداقات والتحالفات، وحتى العداوات مع أمريكا.
ولا أحد يجرؤ للسؤال عن مراكز بحثية عربية او خليجية في الشؤون الصينية أو اليابانية أو الهندية أو الروسية، فهي غائبة تماماً.
وهنا نتساءل: كيف يستطيع صناع القرارات العربية والخليجية بلورة سياساتهم الاستراتيجية تجاه هذه القوى العظمى والكبرى من غير دراسات علمية صارمة ومتماسكة وخيارات وأوراق موقف، وخبراء عرب مختصون وعارفون في هذه الشؤون؟ هل بالتبصير او التخمين وقراءة الفناجين او من خلال الاوامر الخارجية؟
في مؤتمر «المائدة المستديرة» التي نظمها مركز الإمارات للسياسات قبل أيام في أبوظبي، حول تحولات المشهد السياسي في إيران، على ضوء الاتفاق النووي والانتخابات التشريعية كان هناك دهشة عربية حيال الاستحقاق النيابي الايراني الذي شهد استقطاباً هائلاً ظهر ما بين المحافظين والإصلاحيين والمعتدلين والمستقلين في الانتخابات التشريعية، التي شهدت مشاركة شعبية واسعة. لقد خاض الايرانيون الانتخابات على اساس التحالفات والكتل البرلمانية، اختلط فيها الإصلاحي والمحافظ والمعتدل، في حين لم تشهد الانتخابات ونتائجها أغلبية مطلقة، لأي من التيارين الرئيسيين، ولم يكسب تيار روحاني وتكتله الوسطي أو المعتدل برلماناً معتدلاً، مثلما نجح خاتمي في أن يكسب برلماناً إصلاحياً، أو مثلما نجح أحمدي نجاد في أن يكسب برلماناً محافظاً.
تنافس الايرانيون حول الملفات الاقتصادية والخدماتية والمعيشية وتداخلت الأسماء والتوجهات، وظل الجوهر على حاله في ظل “القائد” الخامنئي لكل المؤسسات الدستورية الفاعلة، من برلمان ومجلس خبراء ومجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وحرس ثوري… إلخ.
ليس من المتوقع أن تحدث تغييرات جوهرية في سياسة إيران الخارجية، والتي للبرلمان فيها دور ثانوي، في حين أن من يقرر الحسابات والسياسات الإيرانية، هي مكونات ثلاثة رئيسية، هي المرشد والحرس الثوري ومجلس الأمن القومي، حتى
إن الإصلاحيين أو المحافظين أو المعتدلين، لا يعارضون عملياً العلاقات الإيرانية مع الولايات المتحدة الاميركية ودول الغرب ،في حين بدت صورة الرئيس روحاني من الناحية الشعبية ، مقبولة، بعد أن قدم نفسه معتدلاً، ورئيساً، نجح في رفع العقوبات وإبعاد خطر الحرب عن بلاده، وطرح برنامجاً لإصلاحات اقتصادية، وانفتاحاً وحواراً مع الغرب، وأصبحت إيران مقبولة كلاعب كامل الصلاحية إقليمياً ودولياً، ومعترفاً بها كقوة ذات قدرات نووية، وصارت تحركها اكثر سهولة تجاه ملفات في منطقة الشرق الأوسط ، وباتجاه باكستان وأفغانستان، وحتى غرب آسيا ومنظمة شنغهاي، وفي اتجاه بناء تحالفات ومصالح مع روسيا، وربما تركيا أيضاً، رغم اختلافهما السياسي والعسكري في الساحة السورية.
“دبلوماسية القوة” المطعّمة بالبراغماتية والصبر، ومرونة الحركة،كلها عناصر ساهمت الى حد كبير في استكمال مسيرة الجمهورية الاسلامية في ايران ، وقد آن الأوان عند العربان لفهم صحيح لجارٍ دائم ومستقر في الجغرافيا، لن يستطيعوا أن يقيمون حاجزا من نار بينهم وبينه، ولا يستطيعون ترحيله إلى ما وراء الهضبة والجبال، بعيداً عن سهول الرافدين وتضاريس جبلية ومراكز حضارية عربية.
لقد نجح مرشد الثورة من فكّ «عُزلة» إيران، قبل سنوات، حينما خاطب المجتمع الدولي بلغة العصر، حتى بات نجماً في سماء الفلسفة والفكر والعقلانية، فيما طرح الرئيس خاتمي مبادرته «الحوار بين الحضارات»، فاعتمدتها الأمم المتحدة،، ولكن هل فهم العربان هذه الرسالة في حينها؟
وها هو اليوم الرئيس روحاني يطوف أوروبا، يطرح مبادرات تجارية أوروبية في أسواق إيران، لتعويض ما خسرته أوروبا لصالح روسيا والصين، فالسباق الأوروبي قد بدأ. شركتا «إيرباص» و«بوينغ» ومجموعة «إيني» الإيطالية النفطية، وشركات تكنولوجية وأسلحة وعقارات.. إلخ، وبابا روما يستقبله في الفاتيكان.
في علم السياسة فان المصالح هي التي تحكم وترسم خطوط السياسات الخارجية، وقد كانت أمريكا وشركاؤها يتفاوضون مع إيران في مسقط بشأن الاتفاق النووي، في وقت كانت فيه أمريكا تحشد حاملات الطائرات في بحر العرب والخليج.
لقد سمعنا وسنسمع في الايام القادمة بأن هناك محافظين متشددين إيرانيين يشككون في صدقية الغرب وأمريكا، ويقولون «إن الانفتاح أمام الاستثمارات والشركات الأجنبية سيقضي على تقدم إيران»، وسيؤثر في «الاقتصاد المقاوم»، وسمعنا أن المرشد الأعلى يحذر الإيرانيين، ويطالبهم «بتجنب الاختلاط بالأجانب»، ويعبر عن خشيته من أن يؤدي رفع العقوبات والانفتاح إلى «انفلات زمام الأمور».
ولكن من المفيد ايضا معرفة الرؤية الأمريكية والأوروبية تجاه إيران في المرحلة الراهنة، وفي المستقبل المنظور، ويمكن تلخيصها في إعادة إنتاج مفهوم “الانصياع” باعتبار أن الرفع التدريجي للعقوبات، سوف يدفع إيران إلى حجز مقعد لها بين الدول العظمى والتأكيد على دورها الاستراتيجي في أفغانستان وباكستان وأواسط آسيا لمواجهة تهديدات الارهاب التكفيري فضلاً عن دور إيراني مرن، في إقامة «نظام أمن إقليمي»، يسمح لدول عربية خليجية المشاركة فيه.
اليوم… سقط عويل العربان ، أو انتهى نهاية غير سعيدة، مع «استدارة» أمريكية باتجاهات أخرى.
اليوم.. لا أحد في الغرب أو أمريكا، سيقتنع بدعوة العربان للتحالف معهم لمواجهة إيران، ولجم اندفاعتها نحو النفاذ إلى الساحات العربية.. وبالتالي فان هؤلاء العربان مدعوين للتوافق على استراتيجية متماسكة للتعامل مع إيران مع العلم بان الايرانيين داخل دولتهم، وفي جغرافيتهم غير مهددين، في حين أن دول الخليج ، يدفعون اليوم أثمان زلازل تكفيرية ضربت الوطن العربي، وأطاحت بركائز استقراره ونسيجه المجتمعي، وترابه الوطني.
اليوم.. ما يتمزق هو الكيانات العربية الوطنية، القتيل واللاجئ والمهجر والركام.. كله عربي.
إن انخراط مصر في يقظة عربية مطلوبة ضرورة استراتيجية، على صعيد السياسة والإعلام والدبلوماسية وحقوق الانسان والمجتمع المدني، وجميعها مسائل اهملها العربان منذ عقود، فمصر مدعوة اليوم للعب دور قومي على الساحتين العربية والاسلامية وصد محاولات
تشويه الحضارة الفارسية التي يتعدى عمرها أكثر من خمسة آلاف سنة، وممارسة دور اطفائي للجم الصراع المذهبي المكشوف، والمساهمة مع الاطراف الفاعلة وتحديدا ايران في بلورة خطاب سياسي عابر لحدود الطوائف والمذاهب والأعراق، وطرح إصلاحات على صعيد المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، واحترام القوانين الدولية، وحدود الدولة الوطنية، وانتهاج دبلوماسية وقائية استباقية، وقراءة واقعية للمشهد السياسي في الساحتين الاقليمية و الدولية.
لا أحد سيخوض حروبنا سوى المقاومة منذ زمن ونحن نتساءل: هل تعلم العربان الدرس؟