قبل أسابيع، اتفقت جميع القوى السياسية في لبنان في اجتماعها الموسع الذي عقدته بمدينة بيروت على أن تكون هوية الدولة اللبنانية المستقبلية “علمانية”، تحتوي جميع طوائف ومذاهب لبنان ، تحت مظلة الدولة المدنية الحديثة التي يحكمها دستور وقوانين علمانية.
تلك النتيجة التي توصل إليها المؤتمرون اللبنانيون ، بما فيها القوى الإسلامية في لبنان بعد سنوات طويلة على اقرار اتفاق الطائف في العام 1989 ودعوته الى الغاء الطائفية السياسية ، هي باختصار العلاج الناجع لكل مشكلات لبنان الذي يقع تحت وطأة أخطر أزمة وجودية له منذ اعلان دولة لبنان الكبير تتمثل في تطييفه ومذهبته وإلحاقه بقوى إقليمية تديره وتهيمن عليه.
هذه النتيجة التي توصل إليها اللبنانيون قد تكون من نسج خيال كل مواطن يتوق للتحرر من طبقة سياسية عفنة فشلت على مر السنوات الماضية من اجتراح حلول مناسبة لمشكلات اللبنانيين واغراقهم بالديون والفقر والبطالة والفساد والنفايات ، لكنها تبين أنه لا علاج ولا مواجهة للظروف التي يمر بها العالم العربي ومن ضمنه لبنان من حروب ومواجهات مذهبية وطائفية إلا بتلك الصيغة، التي تؤدي إلى الدولة المدنية – العلمانية، التي تجمع كل من يقيم على الأرض مهما كان معتقده أو عرقه تحت مظلة الهوية الوطنية، وهو الفارق الذي جعل ربيع الشعوب الديمقراطي الحر ينجح في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وأجزاء كبيرة من إفريقيا وآسيا، وتنتج عنه دول ديمقراطية مستقرة، بينما أدى “الربيع العربي” إلى كابوس تكفيري مدمر في منطقتنا العربية من حروب أهلية وعدم استقرار في سوريا ولبنان واليمن وليبيا والعراق و ، وفوضى في مصر على ايدي فصيل ” الاخوان المسلمين” كادت توصلها إلى حالة مشابهة للدول سالفة الذكر.
فاللبنانيون يعيشون اليوم نتيجة ما سمي بـ “الربيع العربي “،حالة من التشرذم والضياع، وها نحن نشهد نتاج تبني بعض الدول العربية للخطاب المذهبي من نشوء منظمات أصولية إرهابية تمتد جرائمها حول العالم لتشوهنا كهوية ومعتقد، وتجعلنا ملاحقين ومنبوذين، وها هم العربان ينحرون مجتمعاتنا بالذبح والسبي والغلو الفكري المقيت، وأيضاً ما أدى إليه ذلك التوجه من استدعاء للدول الكبرى لاستغلال المسلمين في حروبهم الباردة والساخنة، وبعد ذلك تصفيتهم وسجنهم، كما حدث للعرب في أفغانستان.
كما أن تكثيف الخطاب المذهبي و”تكفير” المجتمعات العربية دفعا أصحاب المذاهب والمعتقدات الأخرى إلى التحزب وخلق فضائهم الديني الخاص، وهو ما أوجد أفضل الظروف “لإسرائيل” لاستكمال مشروعها التهويدي في فلسطين والمنطقة، وكذلك للمشروع العثماني التركي من ظروف مواتية لاختراق الدول العربية تحت راية نصرة العرب المنتمين إلى المذهب السني ، فإذا كانت هوية الدولة العربية تتجه لتكون أصولية سنية، فما الذي يجعل الشيعي والمسيحي والدرزي وخلافه من المذاهب والأعراق يلتزم فكرياً ووجدانياً بالمواطنة فيها؟
أما الحديث عن أن وجود الجماعات السنية المعتدلة هو الحل لمواجهة التحدي التكفيري والمخاطر الخارجية، فهو تدليس وليّ لعنق الحقائق، فكل الحركات السياسية السنية بدأت معتدلة ودعوية سلمية، وانتهت بفرق اغتيال وحركات جهادية متطرفة، فلا يوجد اعتدال في ممارسة العمل في الشأن العام دون الفصل بين الدين والسياسة، إذ إن التنافس السياسي بين الحركات الدينية سيؤدي إلى المزايدة التي ستنتهي لا محالة إلى التطرف، بل إن أول من تحالف مع تركيا – اردوغان هي الحركات الأصولية مثل جماعة “الإخوان المسلمين” وغيرها من الحركات الجهادية الاسلامية.
وفي لبنان فإن سقوط المشروع الوطني الجامع بين الطوائف والمذاهب التي تشكل غنى للوطن وعنوان حضارته تم بسبب دكتاتوريات زعماء الطوائف والقبائل وهي التي أسقطت انتماء اللبنانيين لهويتهم الوطنية، وجعلتهم يلجأون إلى الانتماء الأقلوي الطائفي والمذهبي الذي يستغله أعداؤنا اليوم في تفتيت العالم العربي وتكفيره وتدميره.