وراء التواجد العسكري الروسي في منطقة الشرق الأوسط أسباب متعددة، بعضها يتعلق بالأوضاع الإقليمية وبعضها الآخر يتعلق بمصالح روسيا الاستراتيجية المتعلقة بالإستثمارات النفطية وأنابيب النفط والغاز، وهذا التواجد يمكنها من الحد من هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها الدوليين والإقليميين، وتأمين مظلة حماية لحلفاء روسيا في المنطقة بما يتكامل مع الإستراتيجية الروسية والإمساك بمفاصل التحولات الراهنة والمحتملة.
شعرت روسيا أنها في سباق مع الزمن ولحظتها الراهنة قد لا تتكرّر مرة أخرى، إذا حصلت مفاجآت غير متوقعة في منطقة تغلي منذ سنوات على وقع الأحداث والأزمات الجارية، والخطوة الروسية قطعت الطريق على تركيا الساعية لإنشاء “منطقة عازلة” في الشمال السوري بهدف تدريب الفصائل المسلحة، وطلبت ذلك من دول الإتحاد الأوروبي التي أبدت استعدادها لبحث تلك الفكرة.
وتدور تساؤلات في هذا الصدد، هل ستكون سوريا مدخلاً الى إعادة إنتاج نظام دولي متعدد الأقطاب، يستعيد في سياقه الروس مكانتهم الدولية مقابل تراجع الهيمنة الأميركية؟
يرى الخبراء في الشأن الدولي، أن أي تعاون سياسي وعسكري في الشرق الأوسط ولو كان محدوداً، قد يؤدي الى تطورات جغرافية سياسية – إيجابية، واشتراك الصين في احتواء مخاطر توسع إنفجار الشرق الأوسط، وتقتضي مصالح بكين الإقتصادية الحؤول دون توسع النزاع وانتشار الفوضى، ولا يسع بريطانيا وفرنسا أداء دور حاسم في الشرق الأوسط، وعسير على الولايات المتحدة أن تؤدي مثل هذا الدور لأن المنطقة منقسمة سياسياً وإثنياً ومناطقياً وهي تنزلق الى قاع العنف، وهذه الحالة تقتضي مساعدة خارجية وليس هيمنة جديدة، ومن هنا تأتي أهمية الإستقرار الإقليمي.
ولا شك في أن الصين تفضّل البقاء بعيداً عن أداء أي دور بارز، وقد تحسب أن الدور الثانوي يخدم مصالحها، ولكن الفوضى الإقليمية قد تنتشر الى الشمال الشرقي، وتتفشى عدواها في آسيا الوسطى وشمال شرق آسيا، ولن تنجو كل من الصين وروسيا من ارتداد تفشي العنف والضرر، وقد يلحق الضرر بمصالح أميركا وأصدقائها، ويقوّض الإستقرار الإقليمي، لذا آن أوان التحلي بجرأة استراتيجية.
لذلك وحدها روسيا كانت تعد العدة، وبعد أزمة أوكرانيا مباشرة، تقدّمت روسيا عام 2014 وأحكمت سيطرتها على شبه جزيرة القرم، وأعلنت عن مواصلة تطوير أسطولها في البحر الأسود، وجاء هذا التطور ليغيّر الكثير من التوازنات، وأكّدت روسيا على قدرتها على تقديم الغاز الطبيعي للجميع بما فيها تركيا بشكل خاص، وفي وقت تحرّكت روسيا عسكرياً في أوكرانيا، كانت ردود القوى الغربية التي تحقق التوازن ضعيفة أمام روسيا ومنقسمة، وكذلك أظهرت الحرب بالوكالة التي استهدفت سوريا، أن مقدرة الولايات المتحدة على إبراز قوتها بالقرب من منطقة التأثير الروسي بدت محدودة.
بوتين يضع الولايات المتحدة أمام أمر واقع
ومما لا شك فيه أن نشر القوات الروسية وفي سوريا مؤخراً والمساهمة الفاعلة في محاربة الإرهاب من خلال إعادة رسم مسار الأحداث هو خطوة لتثبيت موقع روسيا في الساحة الدولية بعد العقوبات التي فرضت عليها نتيجة لقارارها ضم القرم، وأيضاً أرسل الرئيس بوتين رسالة بأنه لن يكون هناك حل للأزمة السورية من دون موسكو.
وبذلك وضع الرئيس فلاديمير بوتين الولايات المتحدة والدول الأوروبية والعربية أمام أمر واقع، بأن لا خيار أمامهم سوى ما اختاره، في المقابل بدا أن الرئيس الأميركي باراك أوباما، لن ينجر الى سوريا ولا حلول في جعبته لما آلت إليه الأمور، ورأى إذا كان بوتين يعتقد بأنه يملك الحل، ليأتي، وإذا نجح تكون واشنطن قادرة على القول أنها ساهمت في الإنجاح، وإذا فشل سيكون هناك مستنقع سوريا.
واضح أن موسكو تراهن على خضوع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا للأمر الواقع الذي تمليه الإستراتيجية الروسية في سوريا ولأن واشنطن غير راغبة في تولي هذا الملف الصعب ولأن أوروبا تريد إيقاف الهجرة إليها، وواشنطن لا تمانع القيادة الروسية في سوريا ضد “داعش”، لكنها لا تريد مباركة ضرب المعارضة العسكرية، ولا تريد أن تبدو لأصدقائها العرب أو لتركيا بأنها أكملت “الطبخة”.
وروسيا التي انتقلت الى مرحلة جديدة وأخذت زمام المبادرة في المنطقة، أصبحت أكثر وضوحاً في مواقفها وهي ترفض وبقوة أي حديث عن مرحلة إنتقالية في سوريا حسب الرؤية الأميركية، وترفض أي نص يشير الى إبعاد الرئيس بشار الأسد وهي لن تتخلى عنه لا في بداية المرحلة ولا في نهايتها، وخلاصة الموقف الأميركي نحو الطرح الروسي هو أن القرار في يديكم.
وبذلك قلبت روسيا الموازين السورية والإقليمية بوجودها العسكري المعلن والمتزايد على الساحل السوري، بعدما جعلت التوازنات الإقليمية السائدة في الشهور الأخيرة هباءً منثوراً، وأغلق الوجود العسكري الروسي في سوريا فصلاً مهماً امتد في المنطقة خلال العقد المنصرم، مفاده استثمار القوى الإقليمية بالصراعات وإدارتها بعدما فتح الباب أمام عودة البعد الدولي لهذه الصراعات من الآن فصاعداً.
وفي الاستراتيجية الروسية الأوسع ومنذ تولي بوتين مقاليد الحكم تميّزت سياسته بالتركيز على مسألتين أساسيتين، الأولى داخلية ومفادها تأمين السيادة الكاملة لروسيا على أمورها الداخلية، عبر تحييد التأثير الخارجي على سياسة روسيا الداخلية، وحشد الشعب الروسي وراء الفكرة الوطنية، والمسألة الثانية هي الحفاظ على حرية الحركة على المسرح الدولي تسمح لروسيا بالحفاظ على مصالحها وراء البحار وفي جوارها الجغرافي، ويعني ذلك، أن تتحدى روسيا النظام الدولي آحادي القطبية عبر خلق مواقع جيو – سياسية في مناطق جغرافية مختلفة لموازنة الضغوط الأميركية عليها.
كثيرة هي المؤشرات التي تدل على براغماتية روسية فجة في التعاطي مع الصراع الدائر في المنطقة وفي الأزمة في سوريا، وهاجس روسيا هو ضمان استقرار مصالحها ونفوذها، ويأتي مبرر تصعيدها العسكري، مرة للدفاع عن أمنها الذاتي بمنازلة الإرهابيين “الجهاديين” على الأرض السورية ومنع قيام قاعدة إرتكاز تحرّض على التطرف بين مسلمي روسيا والدول المجاورة لها، ومرة ثانية لفرض حضور وازن يمكنها من موقع القوة من دخول أية مفاوضات مرتقبة لمعالجة الملف السوري، وبالتالي دفع تنافسها مع الغرب على الأدوار والنفوذ الى مستوى أعلى.
بدأت روسيا عملياتها العسكرية في سوريا تحت عنوان الحرب على الإرهاب، وأبلغت مَن يعنيهم الأمر، أن أحد ركائز تدخلها هو دعم الدول السورية من خلال تأمين غطاء جوي للجيش السوري ليكون لاعباً أساسياً على مسرح الأحداث، والقضاء على التنظيمات الإرهابية، وطالبت موسكو قوى “التحالف الدولي” ضد “داعش” الذي تقوده الولايات المتحدة، أن تقرّ بأن روسيا هي القيادة الشرعية فوق الأجواء السورية وأن روسيا هي التي تملي قواعد الإشتباك وهذا تحول أساسي في العلاقات العسكرية الجيو – سياسية في الشرق الأوسط بدءًا بسوريا، وموسكو لن تكتفي بسوريا، لذلك تنوي توسيع قيادتها وسلطتها لتشمل العراق تحت غطاء الحرب على “داعش”.
روسيا تصنع الإنتصار وتحالفاتها راسخة
وتنجح موسكو في صنع المحور الذي تحدّثت عنه والذي يضم العراق وسوريا وإيران وروسيا و”حزب الله”، ورسالتها هي: أنا الأقدر، وأنا الأقوى، وأميركا لا تمانع، أنها لا تريد أن تكون الأقوى والأقدر في الشرق الأوسط، والسؤال هنا: هل كل هذا بسبب قرار إدارة أوباما العازمة على اللاإنخراط أم أنه وفق استراتيجية أميركية بعيدة المدى؟!
والسؤال الملّح، كيف تتموضع المنطقة العربية في ضوء التحالفات الإقليمية الدولية الجديدة، وأين مكانها في المشهد الدولي في ظل التحديات الأمنية الضخمة وفي مقدمها “الداعشية”، وبعد التدخل العسكري الروسي في سوريا، تصبح المسألة السورية محورية، لكنها في واقع الأمر، ليست البوصلة الوحيدة لإعادة تموضع المنطقة العربية في الساحة الدولية.
وبالتأكيد، إن إمتناع إدارة أوباما عن الإنخراط في سوريا ساهم في قرار موسكو ملء الفراغ بما يؤدي الى إعادة تموضع روسيا في منطقة الشرق الأوسط وربما لا تمانع واشنطن أن تأخذ موسكو موقعاً استراتيجياً عبر البوابة السورية لأن إدارة أوباما إرتأت، أن مصلحة الولايات المتحدة تقتضي التحوّل نحو الشرق الأقصى بعيداً عن الشرق الأوسط.
روسيا دخلت الساحة السورية عسكرياً بدعوة من الحكومة الشرعية في دمشق، والولايات المتحدة لم تشك بشرعية الحكومة السورية عندما عقدت معها الإتفاقات المعنية بالترسانة النووية السورية.
الرئيس الأميركي باراك أوباما لن يخوض وروسيا “حرباً بالوكالة” ولم يتفق ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في لقائهما الأخير على عنواني التسوية السياسية في سوريا، لذلك لم يتأخر سيد الكرملين في بدء الحرب التي استعدّ لها طوال الأشهر الأخيرة، وأوباما لا يملك في هذه المرحلة سوى الإنتظار لجلاء نتائج المعركة الروسية، ويفضل التعاون ولكنه لن يتدخل أكثر مما فعل حتى الآن، وإن بدا أن تحالفه الدولي – الإقليمي لإحتواء “داعش” لم يفلح رغم مرور سنة كاملة على بدء عمليات في الحرب على “داعش”.
عادت روسيا بقوة الى الشرق الأوسط من البوابة السورية، فالرئيس الروسي بوتين هو اليوم الشريك الأساسي في رسم المشهد السياسي والعسكري في المنطقة، وهذا ما جعل الأحادية التي تمتعت بها الولايات المتحدة الأمريكية منذ انتهاء الحرب الباردة تتراجع.
لا شك بأنه أصبح هناك مؤشراً مهماً للتحولات التي قد تؤسس لواقع جديد للعلاقات الدولية والنظام العالمي المعاصر يتجسد في الكيفية التي نجح بها الرئيس الروسي بوتين مؤخراً من سحب البساط من الولايات المتحدة الأمريكية ، اللاعب الأهم والأكثر تأثير على المسرح الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبدا هذا واضحاً من خلال مواقف روسيا وبوتين الذي يقودها للعودة الى المسرح الدولي بقوة مناوئة مقلقة للغرب، بأجندتها ومصالحها، وساعية لإنهاك الولايات المتحدة الامريكية أكثر في مسارح عمليات خارج مناطق نفوذ روسيا الاتحادية في القوقاز وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.
فسوريا بالنسبة الى روسيا هي واحدة من أهم الدول في منطقة الشرق الأوسط، كما ترى أن سورية هي حجر الزاوية للأمن في الشرق الأوسط وعدم الاستقرار أو الحرب سيؤدي الى زعزعة الاستقرار حتماً في الدول المجاورة، مما قد يؤدي الى فوضى حتمية في المنطقة بأسرها، ويشكل ذلك تهديداً حقيقياً للأمن الإقليمي ككل، لذلك من الواضح أن الروس يعملون بقوة على ضمان استمرار النظام السياسي الذي يقوده الرئيس بشار الأسد لضمان احتفاظهم المحصن المتبقي لهم قرب مياه البحر الأبيض المتوسط.
سعت روسيا إلى استعادة مكانتها ووجودها على الساحة الدولية كقوة كبرى في موازنة أميركا حيث تمكن قادة الكرملين من استعادة مكانة روسيا وبناء تحالفات مكنت القيادة الروسية من إعادة رسم خريطة العالم من جديد عبر تحالفات تمثلت في منظمة شنغهاي للدفاع والتعاون المشترك ومجموعة دول البريكس التي تضم في صفوفها غالبية سكان العالم والتحكم بإقتصادياته ، هاتان المجموعتان تقفان اليوم في وجه التوسع الأمريكي والتحكم والتفرد الأمريكي في حكم العالم ، أمريكا تعاني من وضع اقتصادي متردي ومن بطالة مستشرية بين صفوف مواطنيها كما أن اقتصادها لم يتعافى من الهزات التي تعرض لها، بالإضافة الى خسارتها في حروبها في افغانستان والعراق فضلاً أن هناك أصوات أمريكية تتعالى احتجاجا على السياسة الأمريكية الخارجية وهناك أصوات تعتبر إسرائيل عبئا أمنياً على الاقتصاد الأمريكي خاصة وان دافع الضرائب الأمريكي يدفع جزء من الضرائب المستحقة عليه لأجل تحقيق امن إسرائيل وان ما تقدمه الحكومة الأمريكية من دعم لا محدود لإسرائيل يكلف الخزينة الأمريكية مليارات الدولارات.
هناك تغيير كبير حاصل الآن على المسرح الدولي بما فيه من تراجع ثقل وتأثير واشنطن وتقدم موسكو وعودتها بكل زخم وقوة لمقارعة واشنطن، وقضية سورية أحد تلك المؤشرات، وبالتالي فإن الصراع الروسي الأمريكي على سورية سوف يرسم طبيعة العلاقات في الشرق الأوسط.
من هنا خطة موسكو لا تقتصر على منطقة الشرق الأوسط فقط، إنما في أفريقيا وآسيا أيضا، وهدفها النهائي هو التأثير على الوضع الجديد للنظام العالمي.
فروسيا تحوّلت في النزاع الحالي من لاعب ثانوي، الذي تعاون مع الغرب خلال الثورة في تونس وليبيا، إلى لاعب مركزي، وأكبر مثال على ذلك، ما يجري في سورية، حيث سجلت روسيا إنجازات هامة جدًا، بفضل التكتيك الذي اتبعته، عن طريق عزل ساحة المعركة، أيْ استخدام مجلس الأمن الدولي لمنع أي تدخل غربي عسكري في سوريا.
ولوحظت في الفترة الأخيرة تغييرات في السياسة الروسية بالشرق الأوسط، وهي سياسة ترتكز على عدم التنازل عن مواقفها، وأبعد بكثير من المواجهة في سورية فقط وتقوم بالتوسع في مناطق أخرى: ففي إيران تواصل روسيا تقديم المساعدات لإيران وتوثق العلاقات الثنائية، والتي أكدت عليها روسيا عن طريق دعهما لإيران في الملف النووي الخاص فيها، أما في العراق، فإن الجهود المكثفة التي بذلتها موسكو للعودة إلى بلاد الرافدين بدأت تجني الثمار.
أضف الى دول الخليج، التي عملت على إبعاد روسيا من المنطقة، وجدت نفسها مطلوبة من قبل موسكو، التي لا تتوقف عن إجراء الاتصالات، وتقديم العروض المغرية مثل العتاد والأسلحة العسكرية، كما أن وزير الخارجية، سيرغي لافروف، قام بزيارة إلى السعودية وإلى عدد من الدول الخليجية ومصر، وكان في جعبته العديد من الاقتراحات للدفاع عن دول مجلس التعاون الخليجي من الجهات والفئات المتطرفة عبر تشكيل جبهة واسعة لمحاربة الإرهاب بمشاركة اللاعبين الدوليين الأساسيين ودول المنطقة وبما فيها سوريا، كما أن الأردن وارد في حسابات الروس، ولكن الصورة ما زالت غير واضحة.
أما في ما يتعلق بالفلسطينيين، فإن روسيا معنية جدًا بتجديد العملية التفاوضية بين إسرائيل والفلسطينيين، وذلك بهدف التأكيد على عودتها إلى المنطقة وصرف الأنظار عن مناطق نزاع أخرى بالشرق الأوسط، الأمر الذي سيفتح أمامها الطريق إلى المشاركة الفعلية في ترتيب النظام العالمي الجديد، بما يتماشى مع مواقفها، وتغيير الوضع الجيوسياسي في العديد من الدول في الشرق الأوسط وخارجه.
لم تعد الأزمة السورية مجرد أزمة عادية، بل أصبحت بداية تنافس دولي على تحقيق مكاسب وكسب مواقع، وتغيّرت الظروف الإقليمية والدولية بعدما خطت روسيا مساراً يعجز الآخرون عن السير في خطاه.
إنها الخطوة الأولى نحو إعادة بناء عالم متوازن يبعد الهيمنة الأميركية ويجعل المستقبل أكثر أملاً للأجيال القادمة.