بعد مفاوضات شاقة إستمرت 12 عاماً، ظهرت إلى النور خطة العمل المشتركة الشاملة بين إيران والسداسية، تلتزم طهران بموجبها بوضع قيود على برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات عنها.
ووُقّع الإتفاق في 14 تموز 2015 بعد 21 شهراً من المفاوضات وجولة أخيرة استمرت 17 يوماً، حيث كان واضحاً منذ بداية المفاوضات أن الإتفاق منجز، وأن ما يجري يتعلق بـ “تهيئة الأجواء” في كل من أميركا وإيران لقبوله، بعد أن باتت أميركا معنية بـ”التحالف” مع إيران، لأنها تعتبر أن الخطر الأكبر هو ذاك القادم من الصين، ولهذا اعتبرت أن أولويتها هي منطقة الباسيفيك (آسيا والمحيط الهادي)، وانطلقت من ضرورة كسب الدول المحيطة بالصين في سياق ضمان حصارها في حال أرادت تطوير الصراع.
كما أنها وهي تتراجع عالمياً تريد ضمان استقرار الخليج، وكسب إيران يساعد على ذلك، وإيران كانت تدرك جيداً هذه الحاجة الأميركية لها، لهذا ظلت تناور حتى حصلت على ربط رفع العقوبات بالتوقيع على الإتفاق النووي، ما أثار الخوف لدى الكثير من المتابعين، لأنه يعني أن إيران باتت قادرة على دعم وجودها في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن، ما أثار تخوفات حلفاء أميركا العرب والغربيين، وأطلق التكهنات بشأن أن أميركا قد أطلقت يد إيران في المنطقة.
لا شك أن أميركا ضمنت توقيع الإتفاق، ولهذا إنتقلت إلى البحث في الوضع الإقليمي. وقد أشار الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى أن إدارته عاكفة على صياغة رؤية للسياسة الأميركية في كل من سوريا والعراق واليمن للحفاظ على مصالحها عبر ترتيب وضع المنطقة ما سيعطي إمتيازات كبيرة لإيران في العراق واليمن وسوريا.
وبعد أن أصبح إتفاق الغرب مع إيران حول ملفها النووي أمراً واقعاً، أثيرت التساؤلات عن تداعيات هذا الإتفاق على الملفات الساخنة في المنطقة، فقد فشلت الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة في إقناع أوباما بالتخلي عن “طموحه” بإنهاء تاريخه الرئاسي باتفاق غير مسبوق، ينهي أو يخفف حالة العداء المستمرة بين واشنطن وطهران منذ الثورة الإسلامية في العام 1979، وبات عليها الآن (أي الدول العربية) أن تفكر في إستراتيجيات الرد السياسي على الواقع الجديد من منطلق ضمان أمن الطاقة، والحفاظ على الإستقرار ومحاربة “الإرهاب”.
إن إلغاء العقوبات من شأنه أن يُحدِث تغييراً في بنية الاقتصاد الإيراني، ويوجهها اتجاهات جديدة تفرض سياسات جدية فيما يتعلق بالإستثمار الخارجي، والمِلكية وشروط التنافسية. ومن المؤكد أن الإتفاق يحقق مكاسب اقتصادية لإيران تتمثل في رفع العقوبات عن الشركات والبنوك الإيرانية واستئناف العلاقات الإقتصادية بين إيران والغرب وبناء علاقات جديدة، وتبدو ألمانيا متحمسة لذلك، ويشاركها الحماس دول غربية أخرى وشركات في قطاعي النفط والغاز. وستتمكن إيران من تحرير أرصدتها المجمدة فضلًا عن عودة صادرات النفط الإيرانية.
وقد لا يطوي “الاتفاق الجيد”، كما وصفه الرئيس الإيراني حسن روحاني، صفحة الملف النووي الإيراني إلى الأبد بقدر ما سيفتح ملفات جيوسياسية جديدة، ويُذكي نار ملفات أخرى على وقع صعود إيران وتعاظم نفوذها ودورها الإقليمي.
وما بعد توقيع الإتفاق النووي الإيراني مع دول 5+1، تبدأ مرحلة جديدة مختلفة على مستوى المجتمع الدولي والإقليمي، حيث إيران بدت في أوج قوتها على المستويين الإقليمي والدولي وهي بذلك تحصد ثمرة تضحيات استمرت عقوداً من الزمن، قاومت خلالها جميع أشكال الحصار والمقاطعة، وحافظت على ثوابتها ورؤيتها وتحالفاتها وأسست لإرساء معادلة جديدة في المنطقة وسارعت الدول الغربية التي ناصبتها العداء لعقود طويلة الى خطب ودّها، وهذا مؤشر هام لأهمية إيران ومكانتها الإقتصادية وحضورها القوي كلاعب إقليمي يمكن الإعتماد عليه لإرساء الإستقرار في المنطقة وحل المشكلات العالقة.
والإتفاق النووي الذي أبرم في فيينا يعني أن تحصل إيران على كامل حقوقها النووية، وبمصادقة مجلس الأمن الدولي على الإتفاق بالإجماع بموجب القرار 2231 يعني أن الإتفاق نقل ساحة الصراع الى ساحة الدول الغربية والولايات المتحدة، وهو إقرار واضح بقوة إيران ودورها، وتنازل أميركي فاضح لكل السياسات التي تمّ الترويج لها عقوداً طويلة، وبالمقابل هو إنتصار دبلوماسي وسياسي لإيران، لم تتأخر المنطقة في قطف ثماره على صعيد محاربة الإرهاب، وتجلى ذلك بالدور الروسي الرائد الذي أرسى خريطة طريق واضحة لمكافحة إرهاب “داعش” وأمثالها، وتوّج بذلك إنتصاراً عظيماً لمحور المقاومة بكافة أركانه، وذلك بعد أن واجهت إيران منذ 35 سنة أميركا ودول الغرب مجتمعة، وهذه المدة كافية للإقرار بدور إيران في المنطقة.
فشل الحصار الإقتصادي على إيران ومحاولات عزلها وإخضاعها، فصمدت وقاومت وانتصرت، وهي اليوم تتمسك برفع كامل العقوبات الدولية التي فرضها مجلس الأمن وترفض كل أساليب الخداع والمماطلة الأميركية.
وفي مضامين الإتفاق النووي جوانب تقنية تمّ التركيز عليها، لكن حل المشاكل العالقة لا ينسحب على حل المشاكل الخلافية بين إيران والولايات المتحدة، وسيمر وقت طويل قبل الوصول الى التعاون الطبيعي الإيجابي بين الجانبين، ومازال هناك عوائق ذات طبيعة استراتيجية وفق الرؤية الإيرانية وتحمل بعداً إيديولوجياً لما تجسده من استكبار عالمي.
إن قوة إيران الحقيقية لا يمكن حصرها في قدراتها النووية والإتفاق الذي تمّ توقيعه وإنما يتعدى ذلك الى ملفات عديدة مترابطة ومتكاملة، تتعلق بأمن المنطقة ودور إيران الإقليمي وإلتزامها بقضايا الأمة جمعاء وهي التي قدّمت الكثير على صعيد دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية إيماناً منها أن أي إنتصار يتحقق في أي مكان سينعكس إيجاباً على المستوى العالم لمصالح الأمة ونصرة لقضاياها، وبالتأكيد لا يمكن فصل منطق القضية لدى الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن منطق الدولة – الأمة، وهذا هو عامل القوة الذي ساهم في إنتزاع إيران لحقوقها النووية ومكّنها من مواجهة التحديات وتحقيق الإنتصارات.
وتقف إيران بكل قوة الى جانب قضايا أمتها، في سوريا والعراق واليمن والبحرين وفلسطين ولبنان وغيرها، وهذا الموقف ليس لحظياً وتكتيكياً وإنما موقف ثابت وراسخ أسست له الثورة الإيرانية المباركة منذ فجر إنطلاقها عام 1979، وقدّمت التضحيات الكبيرة على طريق ترسيخ استراتيجيتها في مقارعة قوى الإستكبار العالمي والوقوف الى جانب القضايا العادلة في العالم.
وما بعد الإتفاق النووي، لمّا ينتهِ الصراع في المنطقة بل هو في أوج المواجهة وتعمل القوى الإستكبارية على تحريك توابعها في المنطقة لإثارة حالة من عدم الإستقرار، علّها بذلك تُفلح في خلط الأوراق من جديد، لكن إيران أصبحت ذات خبرة طويلة بكل تلك الأساليب وتعرف مكر الأعداء وما يخططون، كما سيمنحها الإتفاق فرصًا أكبر لزيادة قوة تحالفاتها في عدد من الساحات التي لها موالون فاعلون فيها، مثل: سوريا، ولبنان، والعراق، واليمن، والخليج العربي، وأن هذا النفوذ سيأتي على حساب نفوذ عدد من الدول المؤثِّرة في المنطقة وفي مقدمتها السعودية وتركيا.
إن رفع العقوبات الاقتصادية الناجم عن الإتفاق النووي الإيراني يَعِدُ بتذليل العقبات الكبيرة التي تواجه قطاع التجارة بين مصر وإيران، وظاهريًا يبقى القيد الرئيسي الثاني الذي يكبّل العلاقات المصرية – الإيرانية، متمثلًا بالدور السعودي الفعّال في السياسة المصرية، ولكن يمكننا ملاحظة أنه في الوقت الذي تتقارب فيه الأهداف السياسية المصرية – الإيرانية حيث تشاطر إيران مصر قلقها حول القضاء على الإرهاب الأصولي، تبدو الأهداف السياسية المشتركة المصرية – السعودية وكأنها تتلاشى وتتضاءل؛ ففي القمة العربية التي عُقدت في شرم الشيخ لمناقشة التدخل باليمن بقيادة سعودية في مارس 2015، قدم السيسي رسالة تشجع قادة الشرق الأوسط على “حل جميع التحديات الناشئة سلمياً ودون تدخل أجنبي”، ما جعل مصر وإيران تتمتعان اليوم بقواسم مشتركة أكثر من أي وقت مضى، وضمن هذه الظروف، فإن فرصة انفتاح التعامل التجاري ما بين القوتين الإقليميتين العظيمتين في الشرق الأوسط، هي فرصة من المحتمل أن تكون مغرية للغاية ومربحة.
ومن الواضح أن الإتفاق النووي مع إيران، لن يجسر الفجوة بينها وبين جيرانها العرب وإن كان لا أحد يجادل في أن الاتفاق النووي، سيكون بمثابة صفقة يحقق فيها كل من طهران وواشنطن مكاسب كثيرة، وفي مقدمة ذلك أنها قلَّلت من احتمال نشوب حرب ضد إيران ويمكن أن تشكل ضمانة لإعادة تطوير إيران لسلاح نووي، فضلًا عن إعادة بناء الثقة وتطوير العلاقات بين البلدين. وتعتقد إيران أنها قدمت تنازلات في برنامجها النووي تمكِّنها من الحصول على مكاسب في المقابل، ويظهر أن إزالة العقوبات هي المقابل الذي تريده إيران بصورة أساسية، وإذا ما حصلت على مطلبها هذا فسينتعش اقتصادها، وتصبح سُوقها مقصدًا للمستثمرين.
وإن كان الإتفاق يخفِّف من حدَّة التهديد الأميركي بالنسبة لإيران، إلا أن الأمر لا ينطبق بالنسبة للتهديدات على المستوى الإقليمي؛ فالإتفاق من وجهة نظر جيران إيران في الخليج العربي سيعزِّز من قدرة إيران على فرض سيطرتها على الملفات الإقليمية.
وفي المقابل، لم تقدِّم إيران ما من شأنه أن يخفِّف من مخاوف جيرانها العرب، وفيما كانت تخوض مفاوضات صعبة مع الغرب بشأن ملفها النووي، كانت تواصل بناء شبكة مصالحها في الشرق الأوسط في سوريا والعراق واليمن. ولا يبدو أن الإتفاق النووي سيُحدِث تغييرًا في السياسة الإقليمية لإيران، ولن يثنيها عن مواصلة حضورها في ساحات تصنِّفها بالمهمة لها مثل سوريا والعراق واليمن.
للإتفاق النووي بين إيران والغرب، أكثر من محطة، ومنها العلاقات الدولية، وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي باراك أوباما اعتبره “إنجازاً تاريخياً”، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رأى فيه “خطأً تاريخياً”، إلا أن مراقبين وجدوا فيه “تحقيقاً للمطالب الأساسية لكل الأطراف”. واعتبروا أن الإتفاق سيُتيح لإيران رفع الحصار المالي والإقتصادي، وسيفتح الأبواب على مكاسب أخرى على مستوى دورها الإقليمي وعلاقاتها الدولية.
وإذا اختار الغرب عدم الإنخراط مع إيران في مشاريع اقتصادية بعد الإتفاق النووي، فستكون هذه فرصة كبيرة لروسيا التي ستستفيد من نفوذها السياسي والإقتصادي، في بناء مزيد من الشراكة مع إيران، وبدأت ملامح هذه الشراكة بالظهور ولعل أبرزها قرار روسيا تسليم إيران المنظومة الدفاعية (إس 300) التي كانت تُحجم عن تسليمها بفعل العقوبات الدولية المفروضة على إيران، وسيكون ذلك فاتحة للكثير من صفقات السلاح بمجرد رفع العقوبات خاصة مع حاجة إيران الكبيرة لأسلحة حديثة. وتنوي روسيا بناء علاقات عسكرية طويلة المدى مع إيران، ووصل حجم المشتريات الإيرانية من السلاح الروسي في الفترة (1991-2015) إلى 304 مليارات دولار. وعلى صعيد التبادل التجاري، تقول التصريحات بنيَّة الجانبين زيادة حجم التبادل التجاري بينهما من 5 مليارات إلى 70 مليار دولار سنويًّا. وفي العام 2014 وقَّعت روسيا وإيران اتفاقًا لبناء مرحلة جديدة في مفاعل بوشهر، وسيستمر التعاون في مجال التقنية النووية بين إيران وروسيا.
وفي المجمل، فإنَّ الكثير من المزايا الأمنية والإقتصادية والعسكرية من الممكن أن تحققها روسيا نتيجة الإتفاق النووي، ولن يكون الإتفاق مانعاً أمام مزيد من التعاون الروسي- الإيراني في الشرق الأوسط، وكذلك الحال في منطقة القوقاز ووسط آسيا رغم التنافس الدولي في تلك المنطقة. وبدون تحول سياسي كبير في العلاقة بين الغرب وإيران، فإن العلاقات الروسية – الإيرانية ستكون الأقوى وسيحدث تنسيق روسي – إيراني كبير في عدد من ملفات الشرق الأوسط.
وتمثِّل إيران أهمية جيواستراتيجية بالنسبة للصين فيما يتعلق بتوجهاتها نحو الغرب، وسيكون الإتفاق النووي عاملًا مهمًّا لتعزيز العلاقات الثنائية بين إيران والصين، وتعاونهما في عدد من المجالات، ما سيكون له نتائج على استراتيجيات الولايات المتحدة الأميركية في آسيا والشرق الأوسط.
وكما أن إيران مهمة بالنسبة إلى الصين وتوجهها غرباً، فالصين بالنسبة لإيران بالغة الأهمية في مواجهة الدور المحوري لواشنطن في آسيا والتفوق البحري الأميركي. وفي الجانب التسليحي قدَّمت الصين لإيران العون في بناء برنامج الصواريخ الإيراني، وكانت مصدراً في بناء المنظومة الدفاعية الإيرانية.
وضمن هذا البُعد الجيواستراتيجي في العلاقة، فإن مشروع إعادة إحياء طريق الحرير، الذي بات “سمة مهمة من سمات السياسة الخارجية الصينية الحالية” يرسم معالم العلاقات المستقبلية بين الصين وإيران، حيث تأتي أهمية إيران الاستراتيجية في هذا المشروع بوصفها جسرًا بين الشرق والغرب، ورغم وجود جسور أخرى إلا أن المسار الإيراني يعد الأهم من بينها.
إن الإتفاق النووي سيطلق يد الصين في بناء الطريق البرّي الذي تريده بالتعاون مع إيران، وفي المقابل ستدخل إيران كعضو كامل العضوية في منظمة شانغهاي؛ حيث أن العقوبات الدولية وقفت عقبة أمام تحقيق ذلك في السابق. وبدأت هذه المنظمة تعطي مؤشرات عدَّة على أنها ستكون منافسًا كبيرًا للولايات المتحدة الأميركية في تلك المنطقة.
وماذا عن الهند؟
يبدو أن الإقتصاد والطاقة يتصدران ملف العلاقات الإيرانية – الهندية، وتبدو أولويات الهند لتعزيز علاقاتها مع إيران مرتكزة على القطاعات الإقتصادية بما فيها التجارة والطاقة والنقل، وإن كانت العلاقات السياسية تأخذ أبعادًا أخرى حيث سهَّلت إيران للهند الدخول إلى أفغانستان وهو ما ترى فيه باكستان تهديدًا أمنيًّا لها. ومن المتوقع أن يعزِّز الإتفاق النووي من العلاقات البحرية بين إيران والهند خاصة مع وجود بعض المشاريع التي أعاقتها العقوبات، وفي شهر أيار الماضي وقَّعت الهند وإيران اتفاقًا لتطوير ميناء شاه بهار في جنوب شرق إيران، وهو الميناء المطل على خليج عُمان، قرب الحدود الإيرانية مع باكستان. ولا تبدو باكستان راضية عن المشروع حيث إن تشغيل الرصيفين يتيح لأفغانستان الإنفتاح على منفذ بحري لعدم إطلالتها على أي بحر مما سيقلِّل اعتمادها على باكستان، كما سيتيح للهند الوصول إلى أفغانستان دون الحاجة للمرور بباكستان.
في كل الأحوال، فإن انعكاس الإتفاق على المنطقة منوط بتطبيقه. فإن كان التطبيق سلساً وتجاوبت الأطراف الغربية مع طهران خلال الفترة المقبلة، فهذا يعني مرونة إيرانية في السياسة الخارجية. وفي حال تشدد هذه الأطراف، فهذا يعني عودة طهران إلى التشدد من جديد في ملفات السياسة الأخرى.