بدأت المطالب بغلاء المعيشة فكان طمس سلسلة الرتب والرواتب مما أجّج الحراك النقابي، ولكن النقابات تحكمها القوانين، والقوانين تقول بإجراء انتخابات نقابية، فكانت الانتخابات وكان التحالف السلطوي وسقطت المطالب النقابية بسقوط أحد أهم رموزها، حنى غريب. علماً، أن الحراك بدأ من أحد رموز النخب السياسية المثقفة المتمثل باستقالة وزير العمل شربل نحّاس… لكن، كل ذلك حرّك بعضاً من شارع أو بعضاً من شرائح المجتمع!
إرتفع سعر المحروقات وانخفضت زنة ربطة الخبز التي أصبحت لا تشبع فرد من أفراد العائلة في وقعة واحدة، ولم يتحرك أحد! مدّد مجلس النوّاب لنفسه فاعترض بضعة عشرات في الشارع وكانت حملة البندورة الشهيرة التي انحصرت كذلك ببضعة عشرات من المتظاهرين والمئات من “النقاقين” على صفحات التواصل الاجتماعي. وشغر مركز رئاسة الجمهورية فانتفض البعض ولكن، من خلفية طائفية، فلم يستمروا، حيث ما أوقفهم هو الانشقاق داخل الطائفة الواحدة والتنازع على الكرسي.
ثم عاد ومدّد مجلس النواب… لا شيء! تم رفض مطالب النقابات المتعلّقة بسلسلة الرتب والرواتب… لا شيء! وانحصرت كل مجموعة من المجموعات بالتحرك أمام مؤسساتها الحكومية، أما على الصعيد الوطني العام… لا شيء! وزاد التقنين في تزويد الكهرباء، وكثر “النق” ولكن… لا شيء! إنقطعت المياه في أكثر الأيام حراً… لا شيء! توقّف العمل الفعلي للحكومة… لا شيء! وما زال مركز رئاسة الجمهورية شاغراً… لا شيء! قامت المدارس الخاصة بزيادة الأقساط رغم عدم زيادة الرواتب في حركة دعتها هذه المدارس “إستباقية”، وكالعادة كثر “النق” ولكن… لا شيء!
وأتى موعد إيقاف مطمر، ورغم أنف معاليه، مكب، نعم مكب الناعمة، وكان هذا الموعد ممدّداً لمرّات عدّة، فظن أهل السلطة أنه كسابقاته من المواعيد، قابل للتمديد. ولكن، حساب حقل أهل السلطة لم يطابق حساب بيدر الأهالي، فكان الرفض والغضب، وتراكمت النفايات في شوارع وأزقّة العاصمة كما في طرقات وأحياء بلدات وقرى جبل لبنان… فكان الانفجار!
وتجمع بضعة مئات وتظاهروا يريدون الخلاص من النفايات ومسببيبها من الفاسدين، وكانت سلمية وحضارية، والبعض تجرأ على اعتبارها “مثقفة”. وأتى القمع من قبل السلطة مفاجأً وعنيفاً وغاضباً، علّ هؤلاء “المثقفين” يعودون إلى كمبيوتراتهم وهواتفهم الذكية وشواطيء البحر وعلبهم الليلية. ولكن النتيجة، أن رؤية المواطنين اليائسين من أي تغيير، لمواطنيهم من الشباب والشابات يتعرضون لهذا الكم من الضرب والرصاص والغضب و”الفوقية”، فجّرت لديهم الغضب والرفض والتحدي من مبدأ: سرقتونا ونهبتونا وقتلتونا وجوّعتونا… وكمان جايين تضربونا؟! وأتى اليوم التالي كالسيل، ولم يكن من بضعة مئات من “المثقفين”، بل تحوّل إلى آلاف من الغاضبين والناقمين والرافضين واليائسين… فكانت بداية الثورة!
وهنا “ضاعت الطاسة” وكثرت المطالب وتحوّرت المواقف و”فلت الملق”… أي حراك شعبي بامتياز بما فيه من فوضى وتخبط واتهامات واتهامات مضادة: لا نريد حزبيين… لا نريد طوائف… لا نريد مسيّسين… كل الناس فاسدين إلاّ نحن… إستقيل وإلاّ “حبسناك”… إلخ! وغاب عن بال هؤلاء “الغاضبين” أن اللبنانيين بحمضهم النووي مسيّسين؛ وأنه رغم وجود وطن ودستور ولكن قوانين هذا الوطن منذ إنشائه تحدّد اللبنانيين كرعايا لطوائفهم؛ وأن ادعائهم بالعفة أمام فساد الآخرين هو مطابق لادعاء كل فريق “سياسي” من اللبنانيين بذلك بوجه الفريق الآخر؛ وأن مطالبهم قد تطوّرت من موضوع النفايات إلى موضوع المطالبة باستقالة بعض الوزراء و/أو بسقوط الحكومة و/أو بذهاب الزعماء إلى بيوتهم ومحاسبتهم وإلقائهم بالسجون، إلخ… أي مطالب سياسية بامتياز، حيث لا يطالب بها عادة إلاّ الجماهير الحزبية التي لا بديل عنها في الأنظمة الديموقراطية، إلا في حال استبدالها برؤساء العيل و/أو شيوخ العشائر و/أو زعماء الطوائف و/أو رجال الدين و/أو العسكر!
وهنا، انبثقت من الحراك، حراكات عدة حدّدت المطالب وتوجّهت نحو المسبّبات لمعالجتها بدل التركيز على النتائج التي إن تم حل معضلتها اليوم، ستتكرّر غداً لأن المسبّب ما زال موجوداً وبقوّة؛ وكان الشعار الذي أجفل أهل السلطة: الشعب يريد إسقاط النظام! ولكن هذه الصرخة التي أجفلتهم، أخافتهم في الصميم عندما تم التفريق بين النظام والدولة، وتم تحديد الهدف الأول من إسقاط النظام، وهو ليس بقلب الطاولة كما فسّرها البعض مشيراً إلى “نيّة في نفس يعقوب” وغامزاً من قناة “المؤتمر التأسيسي”، بل من خلال إجراء انتخابات نيابية فورية على مبدأ النسبية وخارج القيد الطائفي حيث لبنان دائرة إنتخابية واحدة… نعم، قد أصاب هذا المطلب الواحد والبسيط والمباشر الهدف وكاد أن يسبّب “سكتتان” دماغية وقلبية في نفوس الطقم السياسي الحاكم!
ولكن، لهذه الطغمة عرّابيها المحنّكين، فكانت الدعوة إلى طاولة الحوار و… كذا!!!
طاولة حوار بين الحكّام، ليتحاور الحكّام، ويقوم الحكّام بإيجاد حلول للازمات التي أنتجها الحكّام خدمة للمتظاهرين بوجه الحكّام!!!! صدق من قال: فقط في لبنان!
حسب معلوماتنا المتواضعة، تم إنشاء طاولة الحوار “الفاشلة أصلاً” لحل المشاكل بين الزعماء السياسيين وجماهيرهم ولبناء جسر من التفاهم عند الانقسام العامودي الذي طغى على المشهد السياسي اللبناني بين قوى الثامن وقوى الرابع عشر من آذار، وذلك لتفادي حرب أهلية عامة، وحرب سنيّة-شيعية على وجه الخصوص. والمضحك المبكي أن الذين تظاهروا ومن أجلهم تمت الدعوة لهذة الطاولة، كانوا يصرخون بملء حناجرهم: لا 8 ولا 14… تنيناتكن على الزبالة! رأينا لأول مرة إبن الخندق الغميق مع إبن طريق الجديدة مع إبن الأشرفية مع إبن الضاحية مع إبن قصقص مع إبن الجبل مع إبن التبانة مع إبن جبل محسن مع إبن عكّار مع إبن الجنوب مع إبن طرابلس مع إبن بعلبك مع إبن زحلة، يعني سنّة وشيعة ودروز وعلويين وموارنة وروم وأرمن، إلخ، جميعهم يصرخون: فلّوا فلّوا فلّوا… كلكن يعني كلكن… طلعت ريحتكم… بدنا نحاسب… فليسقط النظام… و و و!
وبعد أسبوع من انطلاق الحراك، بدأ الحزبيين، لا الأحزاب، بل الحزبيين، برؤية بصيص أمل قد يؤدّي إلى التغيير الذي انخرطوا هم أصلاً بهذه الأحزاب لتحقيقه، والذي من أجله انخرط آباءهم وأجدادهم في هذه الأحزاب؛ “وعيوا الشباب… وعيوا!!!”
أما الموجة الجديدة التي ستواجهونها يا طغمة الحكم المستمر منذ أيام العثملّي، فهي الموجة الهادفة لا الغاضبة. هادفة بإصرار وغضب، لا يحركها الغضب، بل يحركها الهدف، ولكن بنقمة وغضب! إنتخابات نسبية من خارج القيد الطائفي ولبنان دائرة إنتخابية واحدة، أما النتائج والتساؤلات، فها هي:
أولاً: حتى لو استمرّ نفوذ هذا الطقم السياسي المهتري للدورة الأولى، ولكن النسبية وإذا سلبته 30% فقط من الأصوات، فهي بداية والخطوة الأولى الصحيحة في طريق التغيير.
ثانياً: من سيشترط قيام مجلس شيوخ للمحافظة على حقوق الطوائف، نسأله: الحفاظ على حقوق الطوائف بوجه من؟ بوجه لبنان؟ لبنان واللبنانيين من يجب أن يطالبوا بمجلس للمحافظة على حقوقهم من الطوائف التي خربت لبنان منذ قيامه.
ولا تنسوا، من ينتخب رئيس الجمهورية هو مجلس النواب، من ينتخب رئيس مجلس النواب هو مجلس النواب، من يسمّي رئيس مجلس الوزراء هو مجلس النواب، من يعطي الثقة للحكومة هو مجلس النواب، من يشرّع القوانين و/أو يمرّرها هو مجلس النواب، من يراقب ويحاسب السلطة التنفيذية والإدارية وحتى القضائية هم مجلس النواب؛ الّلهم إلاّ السلطات الروحية للطوائف، فهي الوحيدة فوق سلطة مجلس النواب. وكل هذه السلطات معطاة لمجلس النواب لأنه المجلس الوحيد المنتخب مباشرة من الشعب، أي أنتم ونحن. وعليه، حجّة من تثورون عليهم هي: نحن نتكلم بإسمكم أنتم الذين اخترتمونا! حتى لو لم يتم التمديد لهذا المجلس النيابي، ولو تحركتم في العام 2011 مثلاً، هل كان هؤلاء “أهل عفّة” وأصيبوا بالفساد بعد سنة 2013 عند انتهاء مدّة تفويضهم الشعبي؟ إنه قانون الانتخابات الذي يجتر نفس الطبقة السياسية منذ عهد العثمانيين ويجب، بل هو واجب وطني مقدّس علينا أن نجتثه من قاموس لبنان.
في الأمور السياسية والإقليمية، لا بأس من التعاطف مع الحوثي أو مع الخليجي، لا بأس من التعاطف مع المعارضة أو مع النظام السوري، لا بأس من التعاطف مع المقاومة الفلسطينية أو مع السلطة، لا بأس من التعاطف مع محور الجامعة العربية أو مع محور المقاومة، لا بأس من التعاطف مع السعودية أو مع إيران، لا بأس من التعاطف مع السيسي أو مع مرسي؛ هذه سياسة… أما الآن، وقبل التعاطف مع الآخرين، آن الأوان للتعاطف مع أنفسنا ومع لبنان!
طاولة حوار كانت من أجل اتفاقهم هم على إنهاء تحركنا نحن… طاولة حوار بين الفاسدين للدفاع عن مصالحهم التي من أجلها تنتفضون… طاولة حوار بين الأسياد عن كيفية إعادة انتفاضة الأحرار إلى عبودية الزعماء… طاولة حوار الطوائف لمواجهة المواطنين العابرين للطوائف إلى لبنان!
وراقبوا الآن ماذا سيحصل، بعد مقترحات التخدير لأزمة النفايات أمس، ستأتيكم تحركات ومهرجانات تهدف إلى شدّ العصب الطائفي. يريدون انتزاعنا من مواطنيتنا ليعودوا بنا إلى طوائفنا، فاحذروا من الوقوع في حبائلهم وركّزوا على المطلب الذي يخيفهم ويؤدي إلى اقتلاعهم التدريجي عن عروشهم… إنتخابات نيابية على مبدأ النسبية خارج القيد الطائفي ولبنان دائرة انتخابية واحدة!
يجب أن لا نستكين ولا نتراجع ولا نهادن ولا نحاور ولا نساوم، يجب أن نقولها اليوم وغداً وبعد غد، وأيدينا متشابكة، ومواقفنا متّحدة، بجسد واحد… والأرزة تكلّلنا: إرحلوا!
#1