في التساؤلات عن حقيقة الدور التخريبي الذي تقوم به قطر في عالمنا العربي، كثرت التأويلات والتفسيرات، لكنها تلتقي جميعها عند هدف واحد لا يقبل التأويل ألا وهو “التخريب” وهو يؤكد الحقائق على أرض الواقع ومن خلال جملة من الممارسات العملية وشواهدها مازالت ماثلة وموثقة.
هذا الدور القطري لم يأتِ من فراغ، ولنبدأ من كتاب يحمل عنوان “قطر وإسرائيل”، الصادر عن دار نشر “جزيرة الورد” في القاهرة لمؤلفه سامي ريفيل وهو أحد أبرز مهندسي التطبيع بين “إسرائيل” والعديد من الدول العربية، وقد عمل مديراً لمكتب وزارة الخارجية الإسرائيلية، وكانت مهمته دفع علاقات التطبيع الرسمية الأولى بين “إسرائيل” ودول الخليج وتنمية التعاون الإقتصادي بين الكيان الغاصب والعالم العربي. وفي السنوات الأخيرة ترأس ريفيل قسم العلاقات الإسرائيلية مع حلف الناتو، هذا الناتو الذي تقود قطر مسرح عملياته الليبي.
قطر هذه، تُعد عاصمة القواعد العسكرية الأميركية ليس على مستوى الشرق الأوسط فقط وإنما في العالم، وفهم العلاقة بين بعض “العرب” مثل قطر و”إسرائيل” غير ممكن إلا من البوابة الأميركية، وهذا ما يؤكده ريفيل.
ويكشف ريفيل أن التوترات التي شهدتها العلاقات المصرية – القطرية ترجع الى الضغوط التي مارستها مصر على قطر لكبح جماح علاقاتها المتسارعة بإتجاه “إسرائيل”، وبسبب قلق القاهرة على مكانتها الإقليمية من الناحية السياسية، ولاحقاً من الموقف القطري الذي احتضن “جماعة الإخوان المسلمين” تجاوباً مع الخطط الأميركية الهادفة للقضاء على النظم القومية العربية واستبدالها بتركيبة وواجهة جديدة تحت مسمى “الإسلام السياسي” المعتدل، وهي وصفة لتسويق منظومة إقليمية جديدة تحت هذا العنوان ومتلازمة مع المشروع الأميركي المسمى الشرق الأوسط الجديد.
ومن هنا جاء الإنتفاخ القطري والدور الذي تلعبه رغم صغر المساحة وقلة العدد السكاني الذي لا يتجاوز عدد سكان مدينة مصرية صغيرة أو حي من أحياء مدينة القاهرة، وتدرك دوائر السياسة تماماً الأسباب الكامنة وراء هذا الحجم المنتفخ ومَن تغذيه من نزعات عدوانية، ويتم رد ذلك إلى أسباب إقتصادية لها علاقة بالغاز والنفط، وتارة أخرى إلى حالة التبعية للولايات المتحدة الأميركية وقواعدها العسكرية المنتشرة في الدوحة، وبهذا نالت قطر صفة “القاعدة الإستعمارية” و”الدور التخريبي في الإقليم”.
وهناك مَن يتحدث عن شياطين الشر الكامنة داخل وحول الصراع الليبي الذي تغذيه أفكار هدامة وتدميرية، والوضع هناك مرشح لأن يصبح أسوأ مع الوقت وتداعياته بدأت بالتأثير وهي تستهدف مصر وموقعها ودورها القومي العربي، لصالح أجندات تتوافق مع الرؤى الأميركية التي يتم التعبير عنها من خلال أدوار تقوم بها قطر بالوكالة من خلال دعم جماعة “الإخوان المسلمين” في ليبيا وتأمين جسر عبور إلى مصر عندما تحين الفرصة المناسبة.
إن حالة الإنقسام والتشرذم السائدة في ليبيا بين ما يسمى “حكومة الإنقاذ الوطني” في طرابلس وهؤلاء يعرفون أنه مختلف عليهم وليسوا محل إجماع ومعظمهم محسوب على الحركة الإسلامية، ولا يعترف بهم العالم ولا العرب باستثناء قطر وتركيا، ورغم ذلك يمثلان “حكومة” تأمر وتنهي في ليبيا الممزقة على مساحة أكبر مما تتمتع به حكومة طبرق والتي تعيش في ظل الجنرال خليفة حفتر الذي يريد أن يكون الزعيم المنقذ لليبيا، وتتعامل معهم الدول المعنية بالأزمة الليبية وخاصة مصر والإمارات وكذلك الأمم المتحدة ومبعوثها.
وقد واجه “برنارد نيوليون”، رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، خيارات معقدة لدى تعاطيه مع الأزمة المستفحلة بين طرابلس وبنغازي وطبرق وسرت، وخصوصاً أن الشكوك حول شرعية المجلس النيابي المنتخب السنة الماضية، أصبحت هي العائق الأول في طريق الحل وعليه، ويرى أنه من المحتمل إعادة إنتخاب برلمان جديد ينسجم مع الواقع الذي أفرزته الأحداث الأخيرة، وفي بلد ممزق لا يزيد سكانه على 6 ملايين نسمة، وهناك أكثر من مليوني مهاجر ليبي لا يستطعون المشاركة في الإنتخابات، وهذا يعني وصفة مؤكدة لإستمرار الأزمة الراهنة.
ويتحدث عدد من الخبراء في مجلس السياسات الخارجية في الإتحاد الأوروبي حول الأزمة الناجمة عن الصراع في الشرق الأوسط وتنامي الأعمال الإرهابية وتصاعدها واستمرارها خلال فترة زمنية طويلة وتأثير ذلك على دول الجوار مثل مصر الدولة العربية الأكبر، وهي مخاطر حقيقية تستدعي التعامل معها بمجهود محلي وإقليمي ودولي لأنها تشكل تحديات مركبة وعابرة للحدود، وهي تحديات في طريقها إلى مزيد من التصعيد وليس الإنحسار والتضاؤل رغم الحرب على الإرهاب التي يشنها “التحالف” يقيادة الولايات المتحدة في العراق، وهي لعبة مزدوجة تستثمر في الإرهاب وتدعي محاربته ولكن على طريقتها وبما يخدم أهدافها ومصالحها في المنطقة وعلى حساب الأمن القومي العربي..
وكل الدلائل والمؤشرات تؤكد، بأن إطالة أمد الحرب دون حسم ضد “داعش” سيؤدي إلى تصعيد في ساحات أخرى في شمال أفريقيا مثل ليبيا التي اختمرت عوامل الصراع فيها بسبب الدور الذي لعبته قطر في دعمها لجماعة “الإخوان المسلمين” هناك وأمثالها “قوات فجر ليبيا” وحركات أنصار الشريعة في ليبيا وتونس، وحركات التوحيد والجهاد وجماعة بوكو حرام وولايات تنظيم الدولة الإسلامية وفروعه في المغرب العربي التي أعلنت ولاءها ومبايعتها لتنظيم “داعش”.
والرابط القوي بين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا مع هذه الحركات هو التجانس الإيديولوجي والإتصال والتواصل العملياتي، وساحة شمال أفريقيا بدأت تستقبل مقاتلين من أوروبا ودول شرق أوسطية ومن الشيشان وداغستان وباكستان والصومال وغيرها.
إن الخلل في التعاطي مع التحدي الإرهابي في شمال أفريقيا والساحل والصحراء ومن قبل المجتمع الدولي والدول الغربية الكبرى المعرضة للتهديد، فاقم من التحدي الإرهابي في المنطقة، وكذلك فإن مصر بما تمثله من مكانة عربية معرضة هي الأخرى وبشكل مباشر لإستهدافها بعمليات تخريبية مبرمجة لأكثر من سبب، لأن مصر هي رافعة لعملية النهوض العربي من ناحية تعداد سكانها وإمكانياتها الإقتصادية والعسكرية والحضارية.
ومصر تخوض مواجهة صعبة وقوية في مواجهة الجماعات الإرهابية المسلحة التي تقودها جماعة “الإخوان المسلمين” المدعومة من قطر وبمساندة العمليات الإرهابية التي تجري في مصر، ومثالها ما جرى من استهداف لمقرات أمنية وعسكرية في مدينة العريش (شمال سيناء) بالإضافة الى الأعمال الإرهابية المتنقلة في أنحاء مصر، وقالت مصادر رسمية مصرية، إن الرئيس عبد الفتاح السيسي، كشف عن لقاء جمعه في آخر أيام الرئيس المعزول (محمد مرسي) حين كان السيسي وزيراً للدفاع بأحد قيادات جماعة “الإخوان”، أن هذا الأخير ظل يتوعد كما قال السيسي، إنكم “ستجدون أشخاصاً يأتون من كل الدنيا (العراق وأفغانستان) لقتالكم”، وهناك دول تقاد من هذا التنظيم وهي بذلك تتحمل المسؤولية في مساندة الإرهاب.
الصراع الذي بدأ في ليبيا لم ينته بعد، لكن أبعاده أصبحت معروفة تماماً، ولم يبدأ مع عمليات الأطلسي التي كانت بمثابة مقدمات أوصلت إلى تقاسم حصص النفط وفواتير إعادة الإعمار، بعد أن دمرت البلاد، واللافت هو السرعة القصوى التي تداعت بها تلك الدول الإستعمارية وحملت على عاتقها القيام بعمليات التغيير وهذا يشير الى المخطط المرسوم، ويؤكد أن المسرح قد أعِدّ سلفاً وساهمت للأسف أيادٍ تدعي العروبة بتأمين الغطاء اللازم من دول خرقاء مشبوهة، وهي التي تعمل على زعزعة استقرار ليبيا وتستخدم الأوضاع فيها بما يخدم أهدافها.
وليبيا اليوم تعيش صراعاً أشرس من الصراع العسكري بعد أن أصبحت مستباحة للإرهاب بكافة صنوفه وألوانه، والحرب التي شُنّت على ليبيا مستهدفة إحتلالها ونهب ثرواتها تحت ذرائع شتى، هي حرب النفط والهيمنة الغربية وعودة الإستعمار بطرق جديدة، وأين شعارات حماية المدنيين وبناء ليبيا جديدة على أسس من الحرية والديمقراطية.
ما حصل هو غزو استعماري وجد فرصته المناسبة، لم يتوقف عند أوضاعه الإقتصادية وأزماته المالية الصعبة، التي وفرت له الأحداث ما يلزم من الظروف والدوافع وهي مركبة بعدة عوامل، ومن بينها لعبة التنافس واقتسام ثروات الشعوب، ومَن لم ينل حصته من غنائم غزو العراق، سارع لإنتزاع نصيبه من تركة وفّرها له بعض “العرب” مثل قطر.
ويسألونك عن حقيقة الدور القطري، ولماذا كل هذا التفاني في خدمة أعداء أمتنا؟ والذي حقق أرقاماً قياسية في تفانيه في خدمة المشروع الأميركي – المتصهين وتنفيذ إملاءاته، وهو أول مَن فتح أبواب قطر للصهيوني تحت عنوان التطبيع، وبدأ في مخطط لتهديم كل ما أنجز في بلادنا خلال عقود طويلة من الزمن، وساهم “الحَمَدان” في تدمير ليبيا وتسخير أموال النفط وطائراته في قتل الليبيين وتسهيل مهمة حلف “الناتو” الطامع بثروات ليبيا وباقي العرب، وجعل من قطر أداة طيعة بيد الأميركي والغربي ومخططاتهم في المنطقة.
والسؤال الصعب هنا، هل إن بقاء الأنظمة الموالية للولايات المتحدة في المنطقة العربية، صار مطلوباً منها التخلص من الأنظمة التي تؤمن بالقومية العربية وتملك مشروعاً نهضوياً مقاوماً يعيد بعث أمجاد العرب ويحمل وزر قضاياهم الوطنية والقومية؟ بالتأكيد هذا ما تقوله الوقائع.
تستهدف ليبيا لأنها تملك إحتياطاً نفطياً كبيراً هو الرابع بين الدول العربية، يبلغ أكثر من 40 مليار برميل من النفط الخفيف الذي يتلاءم مع الطلب الأوروبي وقدرات معامل التكرير فيها وحجم الإحتياط يقارب إحتياط بحر قزوين ويتميز بقربه من السوق الأوروبية وسهولة حماية خطوط نقله نسبياً.
واستهداف ليبيا هو مقدمة لإستهداف مصر، بنفس الأدوات مع بعض التعديلات، وليبيا هي عمق مصر وسندها المفترض وكذلك مصر هي ركيزة أساسية لإستعادة ليبيا الى دورها القومي، لذلك فإن استهداف مصر واضح، ويحاولون زجها في صراعات بعيدة عن دورها.
إن حملات التضليل والخداع والتآمر التي برعت أدوات قطر في نسجها من خلال فتاوى القرضاوي الممهورة بحبر بني صهيون وأفكارهم الإجرامية، وضعت ليبيا على فوهة بركان وتستمر في تغذية الحقد والكراهية عبر تشويه صورة الدين وتزويره، خدمة لإستمرار المشاريع الهدامة وجعل المنطقة مقصداً لكل إرهاب.
من هنا فإن مصر مستهدفة اليوم وغداً، طالما بقي فيها فكر عروبي يؤمن بحق أمتنا العربية في العيش بحرية وإستقلال حقيقي يمكنها من الإستفادة من كافة مواردها الطبيعية والبشرية بما يحقق تطلعات جماهيرنا العربية في التحرر من الهيمنة الإستعمارية وأدواتها الهدامة في منطقتنا العربية.
لذلك فإن إبقاء ليبيا منصة عائمة في عمق مصر تستولد الحقد والإرهاب المزروع على أيدي حكماء بني صهيون الجدد، سيظل خطراً داهماً يهدد مصر كسيف مسلط على الإستقرار في هذه البقعة التي هي واحة سلام العرب وقوتهم وعنوان إنتصارهم وعزتهم.