سوريا العروبة والبعد القومي في أبهى صوره ومعانيه، هذا ليس وصفاً إنشائياً، بل هو حقيقة راسخة في وجدان كل عربي غيور على أمته.
تُستهدف سوريا من الأعداء لأنها نجحت في خلق واقعٍ جديد مختلف في المنطقة وأصبحت محط أنظار الجميع، بعد جملة من التحولات الجذرية على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية وبناء ركائز قوية لمواجهة قوى الشر والعدوان المتربصة والتي تستهدف النيل من أمتنا، ورفعت سوريا راية الوحدة العربية من منطلق قومي ورؤية بعيدة المدى، وهي تعي كافة التهديدات الماثلة والمتوقعة التي تشكّل خطراً على أمنها الوطني والقومي وعلى قضايا الأمة.
رفضت سوريا مشاريع السلام المزيف ولم تقع في المحظور، صمدت في وجه الضغوط الاستعمارية وأدواتها، واعتمدت على الذات سبيلاً من أجل تعزيز نهضتها وبناء قوتها الحقيقية، وسعت الى بناء الإنسان العربي المؤمن بقضايا أمته وهذا يجسّد مدى صوابية الرؤية.
وخلال مسيرة كفاحها الطويل ظلّت القضية الفلسطينية قضيتها المركزية وبوصلتها القومية، وليس مفاجئاً ما حدث منذ مطلع عام 2011 ليس في سوريا وحدها بل في المنطقة العربية بشكل عام، إلا أن التدقيق بأسباب تلك التطورات وتوقيتها وجهات الاستهداف، يجعلنا نرى صورة وحقيقة المشهد الماثل، والتراكمات السابقة كانت قد وصلت الى ذروتها، حالة حادة من الإنقسام العامودي أصابت النظام الرسمي العربي بمعظمه وتركته بين خيارين لا ثالث لهما.
في الأول، إنفتاح وارتهان وخضوع لمشيئة أعداء الأمة وأرصدة دول خليجية تذهب لتسوية الأزمات المالية والاقتصادية للدول الاستعمارية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، وصفقات سلاح أسطورية، واستثمار في الخسارة، والتموضع والاصطفاف في مشروع الشرق الأوسط الكبير، الأميركي المنشأ، وإعادة تدويره من جديد بعد الضربات الموجعة التي تلقاها في العراق وفي هزيمة العدوان الصهيوني عام 2006 على لبنان، عندما حاول استهداف المقاومة كمنطلق لعبوره المنطقة العربية بأسرها، يومها تأكّد بالملموس، أن وجه الشرق الأوسط الحقيقي هو وجه عروبي مقاوم وملتزم بقضايا الأمة وأن إرادة المقاومة هي مَن يصنع الإنتصار، وهي قادرة على التصدي ومقارعة مشاريع الأعداء.
اليوم وفي العام الخامس لإستهداف المنطقة العربية وخاصة سوريا وما تمثله، تتكشّف أوهام الأعداء وهم في ذروة هجومهم البربري، وبدأ الوقت يضيق عليهم، وتدور الدوائر على إرهابهم، بعد أن انكشفوا دولاً وأشباه دول تجمعهم معادلة واحدة “أصحاب المشروع وعملاؤه وحلفاؤه” وثالوث جهنمي يجمع قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية.
قوى الإستعمار … صانعة الإرهاب
وبلا منازع الإستعمار هو القوة الحاسمة والمصدر الأول للعدوان والإرهاب صنيعته، وما تبقى مجرد امتداد وأدوات له، تتفاوت فيما بينها حول دورها، لكن خطابهم واحد في النهاية، وهناك تبادل المصالح بين تلك الأطراف، الدعم الاستعماري للكيان الصهيوني تقابلها الخدمات التي يقدمها الأخير لصالح الإستعمار في محاربته القومية العربية وروادها في المنطقة، وهنا تلاقي في الأدوار بين عملاء الاستعمار وما بين أعوانه، وهذا ما تعبّر عنه “الرجعية العربية”، والتصور العام هناك عدو أساسي يستهدف القومية العربية، واحد في قلب المنطقة العربية، هو الكيان الصهيوني وآخر وسط المجتمعات العربية هو الرجعية.
وأهداف القوى الاستعمارية تتمدد من خلال مطامعه، في “السيطرة” على الأمة العربية والى تحديد مصيرها، كما يطمع الى إدامة انقسامها أو حتى تفتيتها أكثر ما يمكن من أجل شلّها، ويطمع الى “نهب ثرواتها” وإرغامها على البقاء في حالة “التخلف” الإجتماعي – الإقتصادي، أي استعباد للأمة وعائق لوحدتها ومصدر لتأخرها الإقتصادي، أما الأمة فتتكوّن كفاعل تاريخي بفضل حركة مقاومتها بالذات ومواجهتها لمطامع العدو الدائمة.
إن “حركة القومية العربية” هي مقاومة الإستعمار الفعلية، ولكي يحاول الإستعمار إيقاف هذه الحركة، يلجأ الى ضربها وتصفيتها، وضرب “الجنسية العربية” وتصفيتها، من الجزائر الى فلسطين والى حرب عام 1967، والاستعمار بذلك ارتهان لحرية الأمة وخطر على بقائها بالذات.
وفي أدوار ومطامع القوى الاستعمارية – المتصهينة، الدور المنوط بالكيان الصهيوني، هو الحفاظ على عنصرية الكيان وتقويته، أي تأمين الهيمنة على جزء من الأمة العربية والمساهمة بكل الوسائل الممكنة في إدامة إنقسام الأمة العربية.
والكيان الصهيوني بشكل خاص هو خطر على وحدة الأمة العربية وحريتها وتقدمها وحتى بقائها، هذا الكيان بمثابة عائق من النوع الجغرافي أمام تحقيق الوحدة، فهو يفصل بين المشرق العربي والمغرب العربي، ودول الوحدة الأساس هي دول الطوق، ورأينا كيف عملت الدول الإستعمارية لضرب عُرى الوحدة التي تجسّدت بعد حرب تشرين عام 1973 من خلال مشاريع السلام المزيّف بهدف ضرب المشروع التوحيدي، وقبلها كيف لعبت قوى الرجعية عام 1961 في “الإنفصال” بين شطري الوحدة (سوريا ومصر).
والرجعيون هم عقبة أمام وحدة الأمة وتقدمها، نهبوا ثروات الأمة وهم في خدمة أعداء الأمة وقوى الهيمنة الإستعمارية تنسق معهم، وثبت بعد التراجع الإستراتيجي الذي أوجبته نكسة حزيران عام 1967، أن العدو الداخلي ظهر من خلال “قلة ضئيلة” من العملاء للخارج، لكن فيما بعد وجدنا أن عداء “الرجعية العربية” لأهداف النضال العربي أقوى من عدائها للإستعمار، وهذا يؤكّد أنها عدو داخلي دائم، وإذا فرضنا جدلاً بأن “الرجعيين” كخصوم ظرفيون، لكن عندما ينفجر النزاع، يصبحون أعداء مطلقين الى حد أنهم يعتبرون “أعداء الأمة العربية”.
أعداء الأمة يتصرفون وفقاً لعدد من الأشكال، ومن خلال التدخل المباشر (الإحتلال، قواعد عسكرية، اعتداءات، والمؤامرة وحملات الدعاية والضغوط الإقتصادية) وفي التحديد، فالمؤامرة شكل خاص وبُعد لكل الأشكال الأخرى، فالعدو متآمر بطبيعته، أما العمل الإقتصادي (تمويل العدو وضغط على الأمة)، والعمل النفساني عن طريق استخدام أساليب التضليل بواسطة الإعلام والحملات السياسية، والعمل العسكري (اعتداءات وتهديد بالإعتداء) وجميعها أبعاد متكاملة ومتنوعة لإستخدام الحرب الشاملة التي يستمر الأعداء في شنها على الأمة العربية.
ما عجز الأعداء عن تحقيقه بالإرهاب لن ينالوه بالتفاوض
إن ما يجري من استهداف لسوريا، أشبه ما يكون بمسرحية فاشلة، لا شيء يدعو للتفاؤل، الدعوة لمؤتمر جنيف 2 جاءت في السنة الثانية للحرب الكونية ضد سوريا، وكان هدفها إسقاط الدولة السورية ونظامها المقاوم وذلك بعد أن عجزوا عن تحقيق هذه الغاية من خلال الحرب، وكانت هناك التفاهمات الروسية – الأميركية كمحطة وهي حاجة ملحة لما يسمى “معارضة” وهي جهات متنافرة مدعومة من الخارج، والتفاوض كان حاجة أميركية للنزول من أعلى الشجرة، وبعدها قال الأميركي في مؤتمر عقد في الأردن “يجب أن تعتادوا على بقاء الرئيس الأسد وترشحه”.
وإذا كان التفاوض عبارة عن مرحلة مؤقتة، فهي كانت بين حرب وحرب، ورغبة روسية وكثمرة الصمود الروسي أيضاً، بعدما ذاق المر بما حصل في ليبيا والاحتيال الدولي الذي جرى تلبية لتقاطع أهداف الدول الإستعمارية مع أهداف توابعها من الرجعيات العربية.
والتفاوض في جنيف قد لا يكون حاجة للدولة السورية، وهو جاء قبل الحسم العسكري وسوريا أكثر قوة، لكن التفاوض سمح لسوريا أن تخرج الى الساحة الدولية وتقول كلمتها أمام العالم أجمع، وكان جنيف 2 رغبة سوريا لمنح ما يكفي من أوراق للحليف الروسي، في حين ظهر ما يسمى “الإئتلاف” منقسماً أمام العالم ومشكك في شرعيته وكان أضعف الحاضرين في جنيف 2.
وثبت أيضاً أن مكافحة الإرهاب هي الأولوية وهو خطر يتهدد المنطقة والعالم بأسره، وأيضاً فإن لعبة الإنفراد بسوريا واستبعاد إيران من المؤتمر آنذاك، تمّ قراءتها من الأعداء على أنها نجاح لهم، وفي حقيقة الأمر، كانت إيران واضحة ولها رؤيتها الحكيمة وكان ملفها النووي موضوعاً على طاولة البحث مع دول 5+1 ولن تسمح لأحد بالمساومة عليه، أي أنها كانت تخوض الحرب على جبهة التفاوض الثانية ولا تريد إضعاف موقفها في المحصلة النهائية، لأن جنيف 2 كان محكوماً بالفشل، وثبت بأن التفاوض مسار سياسي مفتوح والميدان في النهاية مَن سيقول كلمته، أي أنها حرب كونية مدروسة بعناية وتتواصل فصولها ومشاهدها والفصل التالي كان ينذر بتأجيج الفتنة المذهبية وخلط الأوراق، ويومها كان يدور السؤال التالي: هل يسمح العالم بانتصار المحور الممتد من إيران الى سوريا ولبنان؟.
وفشلت جنيف 2 في تحميل سوريا مسؤولية الفشل، وأولوية سوريا كانت واضحة ومعلنة تتمثل في الحرب على الإرهاب الذي صنعته السياسات الأميركية ومَن يدور في فلكها وتمّ تغذيته الى درجة فقدت السيطرة عليه وهو سلاح ذو حدين ومدمر للجميع.
وكانت هناك محاولات لإستنزاف إيران في أكثر من مكان، في العراق وغزة ولبنان والبحرين وسوريا وأخيراً في اليمن، هذه المحاولات لم تلقَ نجاحاً وأكثر من ذلك، نجح محور المقاومة في منع المشروع الآخر من تحقيق أهدافه أو تحقيق انتصار ما، واستمرت حرب استنزاف طويلة وبقي العنوان آنذاك، فتح مجموعة من الجبهات (شمالاً وجنوباً) بهدف تحقيق توازن جديد.
أهداف العدوان الذي يستهدف سوريا تتساقط تباعاً، التدخل الأجنبي هو الإحتمال الأسوأ واستخدام البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة سقط بالفيتو الروسي، والتدخل غير المباشر من خلال الشبكة الإرهابية تلقى مقاومته إجماعاً عالمياً.
جنيف كانت محطة على الطريق من أجل التوصل الى تسوية سياسية، وكانت هناك نواقص واضحة، هناك تمثيل ضعيف لما يسمى “المعارضة” وكان من الضروري مشاركة إيران فيما لو أراد الطرف الآخر إنجاح المؤتمر، ودور الأطراف الخارجية من المفترض أن يكون مساعداً للجانبين، حتى يكون الحوار مثمراً بين السوريين أنفسهم، وبناء الثقة كان ضرورياً للتقدم خطوات إيجابية.
ما كان مرفوضاً من الدولة السورية، أن يتم رسم خريطة المنطقة كما يراها البعض، وأكّدت سوريا يومها أن قضية فلسطين هي القضية الأساسية ولن نضيع اتجاه البوصلة، والحرب ضد الإرهاب مستمرة.
إن محاولات الأعداء الهادفة الى تغيير قواعد الصراع في المنطقة من خلال تشديد هجومها العدواني ضد سوريا ومحور المقاومة سيكون مصيرها الفشل، وإن الحديث عن تحقيق توازنات جديدة من خلال استخدام كافة الأوراق العسكرية أثبت فشله، بسبب تضحيات الشرفاء من أبناء أمتنا الذين حملوا وزر المواجهة حفاظاً على مستقبل أمتنا وأجيالها وستبقى سوريا وفية لمبادئها وأهدافها القومية، وهي تواجه الإرهاب وصانعيه وستنتصر لأنها تحمل قضاياها الوطنية والقومية وستظل رافعة للنهوض ومقارعة قوى الهيمنة الإستعمارية وبكل جدارة ومسؤولية.