14 شهراً مرّ على الفراغ، ثرثرات كثيرة في الكواليس الديبلوماسيّة، الإستحقاق إمتياز لبناني صرف، إلّا أنّ الفاعليات عجزت عن لبننته، فيما الخارج له أولويّاته، وتنافس المصالح لا يرحم.
أكثر من عام على الفراغ، تغيّرت أمورٌ كثيرة، هكذا يُقال في الكواليس. لم يعد من جامع يجمع سوى إحتكار المصالح، وترتيب الحصص، وتوزيع الواردات. في كلّ يوم يمرّ هناك إثبات بأنّ الرئيس ليس صناعة وطنيّة، بل صناعة خارجيّة مستوردة، ومعلّبة بقوالب وأطر محليّة، وأنّ قوته ليست مستمدّة من ذاته، بل من الرعاية الدوليّة – الإقليميّة له.
في ظلّ الفراغ الرئاسي، وترهّل المؤسسات، يتأقلم اللبناني مع واقع جديد، مع تغيير ديموغرافي، مع منافسة جديّة على لقمة العيش. هناك إنسجام بين وزراء الحكومة على التعاطي مع التحدّي الوافد للتقليل من تداعياته الأمنيّة، والإقتصاديّة، والإجتماعيّة والمعيشيّة، ولكن ليس من تفاهم حاسم على خطّة واضحة بعناوينها وتفاصيلها تقضي بمواجهة هذه الأزمة، وترسم خريطة طريق تؤدّي الى التحرّر من أوزارها، على المستويين القريب والبعيد، لأنّ “التوظيفات” السياسيّة، والمذهبيّة تطفو فجأة على السطح، وتفسد كلّ شيء.
منذ سنة خرج الرئيس ميشال سليمان من القصر الجمهوري في بعبدا ولكن خلفه لم يأت بعد فحل الفراغ في رمز الجمهورية.
هذا الشغور جعل بعض اللبنانيين يعتادون على جمهورية من دون رأس مبررين ذلك بالقول ماذا ينفع الرئيس وهو مجرد من الصلاحيات.
ولا يخجل بعض الساسة اللبنانيين بالتعبير صراحة عن عدم جدوى الرئاسة الأولى في لبنان بنظرهم، فهو غير مؤثر ولا صلاحيات له بالحل والربط بأمور الدولة… لعل هؤلاء يتناسون أنّهم وشركاؤهم بالحكم غير مدركين أنّه وبالرغم من كل محاولاتهم المستمرة، لا يزال موقع الرئاسة الذي جردوه حتى من الرئيس قادر على تعطيل باقي مؤسسات الدولة التي باتت ترزح ومنذ حوالي العام تحت أثقال جمة تهدد بانهيارها من دون سابق انذار.
فلا الحكومة أظهرت أي مؤهلات تخولها استلام صلاحيات الرئيس، ولا المجلس النيابي ورئيسه صانع المعجزات الدستورية قادر على البقاء والاستمرار. ولعله لولا القرار الدولي بدعم هذه الحكومة وفرض استمراريتها لكنا شهدنا على انهيارها بعد شهر أو اثنين على تشكيلها.
ولا يبدو وبعد مرور عام كامل على توقف نافورة القصر الرئاسي في بعبدا أن هناك مَن هو مستعجل لإعادة تشغيلها إلا بعض المرشحين الرئاسيين الذين أعادوا أخيراً ضبط ساعاتهم نظراً الى أن تحقيق الحلم الرئاسي قد يطول… البعض يتوقع أن يطول كثيراً، وهو ما تعبّر عنه مصادر في قوى 8 آذار لافتة الى أن “لا شيء يمنع من أن يُتم الفراغ عهداً كاملا أي 5 سنوات إضافية نظراً لإرتباط الأزمة بأزمات المنطقة المتفاقمة”، فيما يرى البعض الآخر أن “الأزمة الرئاسية داخلية بامتياز وأكثر من أي وقت مضى، ومرتبطة بإصرار العماد ميشال عون على تولي الرئاسة ورفض التنحي لمرشح آخر، وعدم إكتراث باقي الفرقاء ببقاء الوضع على ما هو عليه، طالما مصالحهم الحزبية والفردية محققة وانشغالاتهم الخارجية لا تترك لهم الوقت للإلتفات الى الملفات الداخلية”.
وحتى يتبلور المشهد العام في المنطقة، يعود الحديث عن مؤتمر تأسيسي أو هيئة تأسيسية تتولى الحكم بإطار مرحلة انتقالية يتم خلالها الإتفاق على الأطر العامة لكيفية تعايش المكونات اللبنانية سويّة في السنوات المقبلة بعدما أثبتت كل الإتفاقات السابقة هشاشتها وعدم قدرتها على ضبط اللعبة اللبنانية التي لا تشبه أي لعبة أخرى.
أكثر من عام كامل مرّ على الفراغ الرئاسي في لبنان، والخلافات لا زالت قائمةً بين 8 و14 آذار. أكثر من عام على الفراغ الرئاسي، و26 جلسة لإنتخاب رئيس للجمهورية، ولا نصاب كامل.
هو فراغٌ يعتبر سابقةً خطيرةً في تاريخ البلاد، وهي المرة الثالثة في تاريخه التي يمر فيها لبنان بفراغٍ رئاسي، بعد فراغ عام 1988، حين ترك الرئيس الأسبق أمين الجميل قصر بعبدا بلا انتخاب رئيس يخلفه، بل سلّم قصر بعبدا إلى حكومة عسكرية برئاسة العماد ميشال عون عامها، ما أدى إلى انقسام البلاد بين حكومتين تتنازعان الشرعية، قبل أن يأتي إتفاق الطائف وينهي الإنقسام والحروب.. والفراغ الرئاسي.
والمرة الثانية التي حلّ فيها الفراغ في قصر بعبدا كانت عام 2007، عندما اختلفت القوى السياسية في ما بينها بعد انقسامها عمودياً بين فريقي 8 و14 آذار، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط عام 2005، ما جعل متعذراً معه إنتخاب رئيس للجمهورية بشكل توافقي، قبل أن تؤدي أحداث 7 أيار 2008، واتفاق الدوحة بعدها إلى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً.
قبل 15 شهراً وأكثر من اليوم، غادر سليمان القصر الرئاسي مثلما دخله، لم يستلمه من سلفه ولم يسلمه إلى خلفه، نظراً لتعذر التوافق السياسي مجدداً بين القوى السياسية اللبنانية على انتخاب رئيسٍ جديد، وبسبب تداعيات أحداث الربيع العربي، ما جعل القوى الإقليمية والدولية التي تعطي عادةً كلمة السر لإنتخاب رئيسٍ للجمهورية في لبنان تضع ملف رئاسة الجمهورية فيه على الرّف، لأنه في ضوء الأخطار في المنطقة، لا يعتبر من الأولويات.
المفارقة أنّ سليمان لم يتمّ التمديد له، على عكس الرؤساء السابقين، على الرغم من طموحه إليها، لكنّ خلافه الواضح مع “حزب الله” في مسألة السلاح وإعلان بعبدا، وخلافه مع العماد عون أجهض السعيَ، ناهيك بتصاعد القوى التكفيريّة على حساب الربيع العربيّ، وانفجار سوريا بثورة استغلتها القوى التكفيريّة وحوّلتها لحرب مذهبيّة، أطلّت على حدود لبنان، وتراكمت أحداثها في داخله في طرابلس وعرسال وعكار وصيدا… ولتستكمل مشروع قضم حقوق المسيحيين في مواقعهم الدستورية، لتنطلق من جديد معركة استعادة حقّ المسيحيين بواسطة مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ الانتخابيّ، الذي شدّد على المناصفة الفعليّة. السعي من هذه الزاوية تكثّف لتوضيح مفهوم الرئيس القويّ الذي يمثّل الوجدان المسيحيّ بأكثريته الساحقة في ظلّ مشروع تهجير المسيحيين من المشرق العربيّ في سوريا والعراق، وقد حصل ذلك على وجه التحديد في العراق.
الفراغ الحاليّ مختلف في جوهره عن الفراغين مع فارق واضح بأنّه يملك التوق على مستوى علاقة المكوّنات اللبنانيّة باستعادة القرار المسيحيّ بواسطة مشروع انتخابات يحقّق المناصفة، وتاليًا انتخاب رئيس مسيحيّ قويّ يملك مشروعيّة التمثيل فيتحقّق التوازن الداخليّ بتركيز تلك المشروعيّة وتجذيرها على الأرض.
غير أن الفراغ الحالي ليس محصورًا فقط بهذه الناجية المحليّة الجوهريّة، بل إنّ المحتوى المشار إليه، بات مرتبطًا بالصراع الدائر في المنطقة، وبالنتائج على الأرض. الفرقاء السياسيّون المتصارعون على الأرض مدركون بأنّ حسم مسألة الرئاسة بالدرجة الأولى، بالمطالب والأهداف التي وضعوها لأنفسهم ونصب أعينهم، مأخوذة إلى التكوين الجديد للمنطقة، المرتبط بالصراع السعوديّ – الإيرانيّ، من اليمن إلى سوريا، بنتائجه الحقيقيّة والواقعيّة، والذي سينساب في البعض منه أو يتسلّل إلى الداخل اللبنانيّ، من البوابة العرساليّة.
بعد مرور أكثر من عام على تسيّد الفراغ قصر بعبدا، وفي ظل الكلام عن “تمديد” سيحظى به لسنوات، تتجه الأنظار الى الحكومة ومجلس النواب كمؤسستين باقيتين في فلك السلطات الرسمية الأولى تنفيذية والثانية تشريعية. ولكنهما ليستا بمنأى عن الخطر نفسه أيضاً، فالاولى تتعرض لهزة مزلزلة كلما اجتمعت وكان على جدول أعمالها بند من البنود الخلافية (من النفايات مروراً بالتعيينات الأمنية وصولاً الى التدخل العسكري في عرسال وملف العسكريين المخطوفين وسلسلة الرتب والرواتب…) فيتم اللجوء الى الحل الأنسب وهو التأجيل!
والمجلس النيابي ينتظر في “غرفة العناية الفائقة” مَن يوقظه من سباته العميق وهو الذي مدّد لنفسه كي لا يدخله الفراغ من الباب، فدخله من النافذة إذ يتمتع النواب بإجازة طويلة مدفوعة لا يقومون فيها بأي جهد.
وفي ظل المخاوف المتكررة من فرط انعقاد الحكومة وعدم فعالية مجلس النواب، ماذا ينتظر لبنان واللبنانيين بشكل عام؟
بدايةً، لا بد من القول إن بقاء الحكومة بشكل فاعل أو غير فاعل، إضافة الى بقاء مجلس النواب بالصفة نفسها، أمر حتمي. ولكن في حال حصل أمر ما غيّر في المعادلات الدولية التي تفرض بقاء لبنان كما هو عليه، فما هي الخيارات المتاحة؟
تقنيًا، لا يمتلك أي من الفريقين القدرة على انتخاب رئيس من دون التفاهم مع الفريق الآخر، حتى لو تحالف مع الوسطيين، فالدستور ينص على ضرورة أن ينال الرئيس المنتخب ثلثي أصوات النواب في الدورة الأولى، والأكثرية العادية في الدورات التي تلي، وتتفق القوى السياسية على تفسيرٍ للدستور يقول بضرورة حضور ثلثي أعضاء البرلمان لجلسة الانتخاب في أي وقت، مما يعطي أي فريق يمتلك أكثر من ثلث المقاعد قدرة التعطيل وحق “الفيتو” على اسم الرئيس، وهو ما يحدث الآن، حيث لا يمتلك أي من الطرفين الأكثرية اللازمة لإنتخاب الرئيس، وبالتالي تبقى الأمور معطلة تقنيًا.
أما الناحية السياسية، فهي الأكثر تعقيدًا، حيث يتحكم طرفا الأزمة بالجانب التقني، ويستطيع أي منهما التعطيل، من دون القدرة على الحل منفردًا.
الى متى سيستمرّ الفراغ؟
ليس من جواب حاسم مقنع ونهائي عند اللبنانيين. يبدو أنّ الإستحقاق أبعد من هاماتهم، وتسليماً بهذه المعادلة تكرّ سبحة مواعيد جلسات الإنتخاب في ساحة النجمة، والنتيجة لا رئيس. الفراغ حصل في ظروف محليّة وإقليميّة ودولية ملتبسة، وعندما تزول، يزول. والفاعليات بغالبيتها تعرف ذلك، ولأنّها تعرف راحت تشغل الوقت الضائع بالتنافس على ما تبقى من الدولة.
تشريع الضرورة، ضرورة، ولكن وراء الكلمات المفعمة بالوطنيّة هناك خفايا وخبايا سياسية ومصلحيّة ومذهبيّة وطائفيّة وكيديّة وتنافس شديد الإحتقان حيث يحاول كلّ طرف أن يسدّد الكرة في مرمى الطرف الآخر لإظهار مدى قوته ومقدرته أمام جماعته وطائفته ومحيطه.
وتتخوف مصادر من احتمال تحول الحكومة اللبنانية إلى تصريف أعمال في ظل الخلافات بين الوزراء حول مسألة التمديد للقيادات الأمنية والعسكرية مع اقتراب انتهاء ولاية المدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء إبراهيم بصبوص، في حين أن ولاية قائد الجيش العماد جان قهوجي الممددة أصلاً تنتهي في 23 أيلول القادم.
وترى أوساط فريقي “8 و14 آذار”، أن مسألة التمديد للقيادات الأمنية والعسكرية، وعلى رأسها التمديد لقائد الجيش وللمدير العام لقوى الأمن الداخلي، “قد تضع الحكومة أمام مسار مجهول، في ظلّ إصرار كتلة “التغيير والإصلاح”، على رفض التمديد من جهة، وإصرار وزير الدفاع سمير مقبل ومن خلفه فريق “14 آذار”، على التمديد لقهوجي، على غرار ما حصل خلال حكومة رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي الذي أعلن استقالته بعد خلاف مع وزراء “8 آذار” على خلفية التمديد لأحد القادة الأمنيين.
عام على الفراغ، مناسبة تستدعي صحوة ضمير للخروج من دوّامة العجز والتقصير والإصرار على الإستمرار متكئين على عكازتين، المؤسسة العسكريّة، والمؤسسة المصرفيّة. عام على الفراغ، ولبنان الآتي لا تصنعه إرادة محليّة واضحة المعالم، بل إتكالية مطلقة على الإرادة الخارجية التي ستقرّر كيف سيكون… ومتى… وإن كانت المتغيرات السارية تحمل سمات مستقبليّة.
لقد أثبتت التجارب بأن لبنان لا يستقيم وضعه إلا بالوفاق، وخاصة في القضايا الرئيسية، إما أن نسرّع في انتخاب رئيس جمهورية، وإما أن يعلّق الأمر لفترة طويلة من الزمن، وكذلك لا بدّ من التأكيد بأن محاولات الرهان على تغيير جذري في معادلات المنطقة وفرض رئيس بمواصفات آحادية الفريق المراهن على الدور الأميركي وتوابعه في المنطقة لن تأتي بما يرغبون، وهو كمَن يعطي للمجرمين دوراً وانتظاراً لأفعالهم، فعلى مَن أخطأ الرهان أن يعيد النظر بخياراته السياسية قبل فوات الأوان.