إلى أين وماذا بعد؟ مسيحيون، إيزيديون، آشوريون، مسلمون، علويون، واليوم موحدون. جبهة النصرة فعلت فعلتها غرزت سكينها في قلب لوزة، فسال دم أربعين درزياً ذبحاً في مجزرة مروعة.
الذبح ليس بجديد على إرهاب تكفيري يبسط فكره بحد السكين وأمام هذا الفكر ما عاد أحد في منأى عن خطر هذا العدو الشرس، جزرت جبهة النصرة في قلب لوزة بريف إدلب لتفتح عينها على السويداء، ومن هنا بدأت الحكاية أولياء الدم الدرزي تأهبوا وكل من موقعه قارب الفاجعة. رئيس حزب التوحيد الوزير وئام وهاب أعلن النفير العام فسقوط السويداء يعني سقوطنا جميعاً، ولدينا ما يكفي من الرجال ولا ينقصنا سوى السلاح معلناً التعبئة العامة متوجهاً للرئيس بشار الأسد بالقول: “نريد سلاحاً وأي تأخير تتحمل الدولة السورية مسؤوليته”، موضحاً أن “تاريخ السويداء يشهد لرجالاتها الذين قاوموا بالسيف انتداباً فرنسياً وحكماً عثمانياً من أبو علي الحناوي وابراهيم الهجري وسلطان باشا الأطرش، حين أشعل ثورة لم يختلف أحد على شرعيتها عام 1925 سميت بالثورة السورية الكبرى، ضد سلطة الانتداب الفرنسي التي أرادت تقسيم سوريا على أساس طائفي ومذهبي، فكان له دوراً تاريخياً في نيل الاستقلال، واليوم مستعدون لإذلال الإرهاب بالسلاح. سقف وهاب العالي قابلته مهادنة من رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط الذي بدا وكأنه يحافظ على شعرة معاوية مع “جبهة النصرة”، هو تحدث عن ضمانات وأجرى اتصالات بالمعارضة السورية وبقوى إقليمية فاعلة ومؤثرة لضمان سلامة أبناء القرى الدرزية لكن أين الدروز من تلك الضمانات وقد وصل السكين إلى رقابهم؟
لم ينفع إسقاط جنبلاط صفة الإرهاب عن “جبهة النصرة” دروز إدلب، لم تنفع تطمينات السفارات والعواصم، لم ينفع الغزل كله الذي بلغ حد اعتبار عناصر فرع “القاعدة” في بلاد الشام ثواراً، كل النظريات سقطت، واعتدال النصرة المزعوم عرّته دماء عشرات الدروز في ريف إدلب: مجزرة قلب لوزة خطفت الأضواء، أثبتت النصرة أنها لا تقل إرهاباً عن داعش، النصرة إرهابية، تماماً كما داعش، ودماء عشرات الدروز تشهد. لكن، أي مشروع يحضر لهؤلاء الدروز؟ ففي الشمال، يذبحون ويقتلون، وفي الجنوب، يهددون عبر التلويح بغزو السويداء…
مرة جديدة يثبت أصحاب الفكر التكفيري المتطرف، والمتمثلين اليوم بتنظيم “داعش”، وجبهة النصرة أنهم أعداء للإنسان بغض النظر عن أي شيء آخر، ويثبتون أنهم من سنخ الوحوش الممسوخة على هيئة البشر، فلا يتورعون عن القتل والذبح والتنكيل بحق الأطفال والنساء والشيوخ، وكلّ ذلك في إطار تشويه صورة الإسلام المحمدي، وتمكين أعداء الإسلام والمسلمين من الأمة الإسلامية، للسيطرة عليها بسهولة، بعد تفتيتها وإهدار ثرواتها وقوتها على أيدي هؤلاء المجرمين، وبعد ذلك ينعم المستكبرون وينعم الكيان الصهيوني الغاصب بثرواتها”.
العدو الإسرائيلي دخل مستفيداُ لإستغلال الهواجس، المسلحون ينفذون مآربه كي يوحي بأنه المخلص، وهذا ما بدا في لهجة تل أبيب أنها الخطة الصهيونية المدروسة لتفتيت هذا المشرق وخلق “إسرائيل” تحت عناوين مختلفة، لكن الموحدين العروبيين قادرون على إجهاض المشروع الإسرائيلي كما كانوا في تاريخيهم مقاومين ثوار بوجه أي احتلال، ويشهد التاريخ لبني معروف بطولاتهم التي سطروها على مر العقود الماضية لم تسلكهم جرائم المحتل ولا ترهيب الإسرائيليين ولا ترغيبهم عن الثبات الوطني. ها هي السويداء اليوم الصامدة تستعد لحماية أبنائها ومشايخها من أي تقدم للمسلحين أكانوا من النصرة أو “داعش”.
ومنذ بداية الأحداث الدامية في سوريا حافظت السويداء، على حيادها من الأزمة وتمسكت بأمنها لكنها أصبحت الآن على خط النار، فدائرة المعارك أصبحت على حدودها، وفي أريافها خصوصاً الشمالي الشرقي والغربي، حيث مطار خلخلة شمالاً ومطار الثعلة غرباً، وهما الأكثر استهدافاً من قبل المعارضة.
وأصبحت السويداء تتعرض لحملة إعلامية شرسة من أجل دفع “بني معروف” للإنخراط بشكل واضح في الصراع الدامي الذي تشهده البلاد منذ أكثر من 4 سنوات.
ارتفاع عدد الضحايا لا يمكن تبريره أنه نتيجة إشكال فردي بين أحد مسلحي النصرة ومواطن من البلدة – كما يجري تصويره- فالقضية أكبر وأوسع، لأن المعلومات الواردة من جبل السماق، تُشير الى أن المجزرة أُرتكبت بعد استقدام النصرة تعزيزات الى البلدة ما يعني وجود قرار باستهداف الأهالي، وأن الموحدين الدروز كغيرهم من السوريين يدفعون ضريبة مشاريع تدميرية تنفذها جماعات تكفيرية ضمن أجندة تطال المنطقة.
ما يعزز الكلام عن وجود قرار باستهداف الموحدين الدروز هو التزامن المريب لمجزرة إدلب مع تسعير الجماعات المسلحة من استهدافها للمواقع العسكرية في الجنوب السوري وتحديداً القريبة من محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية. ففي الأيام القليلة الماضية شهدت المنطقة تطورات متسارعة، وعمد المسلحون الى الدخول للواء 52 الواقع بين درعا والسويداء، إضافة الى شن هجمات واسعة على مطار الثَعلة في ريف السويداء الغربي، هذا ناهيك عن قيام المسلحين باستهداف الأماكن المدنية في مدينة السويداء.
طبعاً هذه الإستهدافات ليست الاولى من نوعها التي تُرتكب بحق الموحدين الدروز، فالجماعات المسلحة ومنذ بداية الأزمة لم تُوفر باعتداءاتها كافة السوريين من مسلمين ومسيحيين، ولعل مدينة جرمانا بريف دمشق التي تُشكل فسيفساء بشرية خير شاهد على تلك الجرائم.
وإذا كانت الغالبية العظمى من مشايخ جبل العرب وفعالياته الاجتماعية، أعلنت تمسكها بوحدة الأرض السورية ورفضها للفكر التكفيري والإرهاب الصهيوني، فإن الكلام الصادر من تل أبيب عن تهديدات محيطة بالموحدين الدروز يؤكد المشروع الصهيوني الهادف الى تقسيم سوريا عبر تأجيج الخوف لدى طائفة الموحدين الدروز في محاولة لإبعادها عن مساندة وحدات الجيش العربي السوري والدفاع الوطني، وبالتالي إفساح المجال للجماعات التكفيرية من أجل التقدم في المنطقة وصولاً الى إحياء مشروع السياج الأمني، على ما يقول متابعون.
وإذا ما كان الغرب بقيادة الولايات المتحدة، يسير في مشروع تقسيم سوريا، فإن الخطوة الأولى ستأتي من الجنوب، وسيكون “وهم” الدويلة الدرزية، أول إسفين، يسبق بسنوات كثيرة، “وهم” إنتاج دويلات أخرى وسط الشام وشمالها وغربها.
تهديد السويداء من الغرب، تدرّج صعوداً في السنوات الماضية مع توسّع سيطرة إرهابيي تنظيم “القاعدة” وجماعات تكفيرية أخرى على قرى شرق درعا المتاخمة لـ “جبل الدروز”، ومنها مدينة بصرى الشام التي احتلها الإرهابيون قبل ثلاثة أشهر. إلّا أن انتشار “داعش” الجديد في البادية الشرقية، وسيطرته على تدمر ومثلث الحدود السورية ـــ العراقية ـــ الأردنية ونقاط ملاصقة لقرى المقرن الشرقي كالقصر وبير القصب ومنطقة الأصفر، مع خطوط إمداد مفتوحة، وضع السويداء أمام تهديد وجودي، في ظلّ نيّات “داعش” التوسعية، وغمرة مشاريع التقسيم التي تُطرح في المنطقة. ومع أن السويداء لا تملك المقوّمات الاقتصادية والاجتماعية التي تملكها محافظات الشرق السوري والوسط العراقي، والتي تحفّز “داعش” للسيطرة عليها، إلّا أن جغرافياً السويداء تشكّل عقدة ربط رئيسية، إذا ما أراد التنظيم التوسّع مستقبلاً باتجاه الحدود الأردنية ثم السعودية، علماً بأن “داعش” بات يملك نقاطاً ثابتة على مقربة من المخافر الأردنية، بالقرب من معبر طريبيل بين الأردن والعراق، بالإضافة إلى معلومات عن حشود للقوات الأردنية في المنطقة.
لا يكفي السويداء التهديدات الوجودية التي يشكّلها حصار التنظيمات التكفيرية من الشرق والغرب والجنوب، فتكفّلت مئات الصفحات الجديدة على مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع المعارضة السورية ووسائل إعلام الدول الداعمة لها، بالإضافة إلى النائب وليد جنبلاط، بشنّ حملات شائعات في الآونة الأخيرة عن انسحاب وحدات الجيش السوري من المحافظة وترك أهلها لمصيرهم، فضلاً عن شائعات حول قيام الدولة السورية بسحب الأموال من المصرف المركزي وتفريغ إهراءات القمح، ونقل محتويات متحف السويداء إلى الساحل السوري. وعلى ما تقول مصادر أهلية ورسمية ودينية في المحافظة، فإن “كلّ كلام عن سحب الأموال وإهراءات القمح هو نفاق، والدولة تزوّد المحافظة بالقمح بشكل منتظم وليس العكس”. وتقول مصادر أخرى إن “مسألة سحب بعض الموجودات القيّمة في متحف السويداء هي من ضمن إجراء مماثل لحماية الآثار في كلّ المحافظات، ونقلها إلى دمشق وليس إلى الساحل السوري”.
لا ينتظر أهالي السويداء تطمينات أمير “النصرة” في سوريا أبو محمّد الجولاني لمعرفة المصير الذي ينتظرهم في حال سيطرة مرؤوسيه على المحافظة، أو إخوانهم في “داعش”، وتبقى تجربة عدرا العمالية وريف سلمى وممارسات “النصرة” في بصرى الشام وقرى درعا القريبة بحقّ السوريين سنّة وشيعة ومسيحيين وعلويين، أصدق إنباءً من كلّ التطمينات الواهية التي يحاول المعارضون وجنبلاط تسويقها. غير أن تجربة دروز جبل السّماق في ريف إدلب، على ما تقول مصادر أهلية ومن داخل المؤسسة الدينية، “تضع أهالي السويداء أمام خيار واحد: قتال الجماعات التكفيرية والالتصاق بالدولة السورية”. وبحسب المصادر، فإن “إرهابيي النصرة بعدما أجبروا الدروز (الذين ساعد جزء منهم مقاتلي المعارضة في الماضي)، على تهديم مقاماتهم وتغيير عاداتهم الدينية وأزيائهم، يجبرون الآن الشباب من سن 13 عاماً وما فوق على الالتحاق بالنصرة لقتال الجيش السوري، تحت وطأة التهديد بقتل عائلات الذين يتخلّفون عن القتال”. وتقول المصادر “لا أحد في السويداء مستعدٌ لأن يلقى المصير نفسه”.
ليست هذه المرّة الأولى التي لا يتمّ احترام تحييد فئة من السوريّين لنفسها عن الصراع المسلّح الذي تمّ الدفع له لكي يأخذ طابعاً أهليّاً. لقد حدث ذلك منذ ثلاث سنوات في الشمال السوريّ، حين تمّ لوم الأكراد على موقف “النأي بالنفس” حيال الإنخراط في الصراع العسكريّ، لينتهي الأمر بتدمير “داعش” لعين العرب (كوباني) وبتطوّرات توجّه البلاد فعليّاً نحو التقسيم. وها هو جبل العرب اليوم يوضع بين خيارات أحلاها مرّ، بين الوقوف الى جانب دولته وجيشه والمعارضة المسلّحة و “داعش”.
إن استهداف قرية قلب لوز، إنّما هو تعبير جليّ وواضح عن سلوكيّات ترتبط بتراجع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الإنتخابات التركيّة الأخيرة، وتحاول تلك السلوكيات أن تطال الإتفاق الأميركيّ – الإيرانيّ النوويّ المتوقّع توقيعه أواخر الشهر والذي من شأنه أن يفتح الباب أمام مجموعة تغييرات جذريّة تنتمي إلى مفاعيله ومعاييره في المنطقة.
معظم الإستهدافات من هنا وهناك بسياقاتها المتعدّدة وتراكماتها المختلفة تطال بصورة جذريّة ذلك الإتفاق المرتقب بين الأميركيين والإيرانيين. هو مكمن الخطورة عند الدول التي بدأت تشارف نهايات أو شبه نهايات لها كتركيّا أردوغان بالدرجة الأولى بعد استكبار نشأ من حلم وراثة الإمبراطوريّة العثمانيّة بنيو – عثمانيّة جديدة وإسلامويّة، وسعي أردوغان على مستوى شخصيّ وإسلاميّ لكي يتحوّل في المدى الإسلاميّ إلى خليفة المسلمين الحقيقيّ، والسعوديّة من البوابة اليمنيّة فتحوّلت من الهجوم ومن “عاصفة الحزم” إلى الدفاع عن حدودها وهذا يدل على انحسار نوعيّ وفاعل ومؤثّر على موقعها في المعادلة والصراع ما بين العراق واليمن وسوريا، وقطر بالعناوين التي استفحلت وانعكست على دورها في ملفّات عديدة تختصّ بالإسلاميين والتكفيريين.
هكذا تضع هذه الحادثة كثيراً من الأمور على المحكّ، والسؤال الكبير يتعلّق بموقف الولايات المتحدة وروسيا والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، فهل وصل الصراع في سوريا إلى حدّ يجب إيقافه وكفّ عبث أيادي القوى الإقليميّة في مصائر أهل هذه البلاد؟
تقف السويداء على مفترق طرق خطير، في ظلّ اقتراب “داعش” بشكل كبير من حدودها الشرقية، وانتشار جماعات “القاعدة” على حدودها الغربية، وفي ظلّ التهديدات ودفع السويداء إلى فكّ ارتباطها بالدولة السورية، تبقى إرادة الأهالي في القتال إلى جانب الجيش السوري هي الحكم في رسم مصير المحافظة ومستقبلها.
لا خوف على جبل العرب في ظل الوحدة الدرزية والقرار الواضح بالقتال من كل المواطنين، والسويداء بوابة النصر شأنها في ذلك شأن كل المدن السورية التي واجهت العدوان بكل بسالة وعنفوان، وإن أحفاد سلمان والمقداد وأبي ذر وحمزة مستعدون للموت في سبيل الحفاظ على الأرض والعرض والكرامات وكما كانوا حماة الثغور الإسلامية العربية سيبقون.