محمود صالح
في إستقراء وتحليل أحداث العالم العربي خلال السنوات القليلة الماضية، نتوقف عند اللحظة الراهنة وربطها بالتراكمات السابقة، وهنا نجزم بأن ما يجري في المنطقة العربية من أحداث جسام لم يأتِ من فراغ، وهناك استهداف للنظام العربي ومحاولات لإنشاء نظام إقليمي غير قومي وهدف أصحاب هذا المشروع إعادة رسم خارطة المنطقة، ويبدو واضحاً أن هدف السياسة الإستعمارية الأميركية منها والغربية عموماً يتمثّل في إعادة تقاسم النفوذ والمصالح، ومن أجل تحقيق هذا الهدف يريدون إضعاف الدول العربية القائمة من خلال ضرب لحمتها الداخلية وإثارة الفتن بين مكوناتها وإتّباع أساليب متعددة ومبتكرة لتحقيق الهدف، وخلق ظروف وأحداث تشكّل بمجملها البيئة المناسبة، لذلك لا أحد يستطيع أن ينكر، أن خططاً وضعت وحروباً شنّت لإيقاف المد القومي العربي، وأن أحلافاً قد أقيمت لتفكيك النظام العربي، بربط بعض أعضائه بدول استعمارية طامعة تحت مسمى “المصالح المشتركة” وهي في جوهرها تبعية مفرطة وتسليم كافة الأوراق للأجنبي على حساب مصالح الأمة العربية، وأن محاولات إقامة نظام جديد على أسس دينية ودمج الدول العربية في إطار أكبر هي من أساسيات المشروع الذي جرى تسويقه عشية أحداث ما يسمى “الربيع العربي”، ومثل هذه الأحداث سبقها مشاركة مؤسسات أميركية وأوروبية وحكومات عربية لتصفية الفكر القومي وتعميق الخلافات والنزاعات العربية، واستنزاف القدرات العربية في معارك داخلية وهامشية ومحاولة لتغيير بوصلة الصراع في المنطقة بما يخدم أهداف الدول الاستعمارية.
مصر وتحديات المرحلة
ولا أحد ينكر الدور الرئيسي الذي قامت به الولايات المتحدة لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة خلال الفترة التي أعقبت حرب عام 1973، وقد أدّت هذه التحديات والتطورات الى أزمة عربية، وأدخلت المنطقة الى دهاليز ما يسمى عملية السلام وعلى الطريقة الأميركية، وأخطر ما في هذه الظاهرة أنها رتّبت أثاراً وحفرت علامات واضحة، وتسلّلت الى النفس العربية تحلّل مقومات القومية وتفك الرباط بينها، وتركتها نهباً لرياح الحاضر والى تطلعات مادية عاجلة أو تقوقع قطري، وبلغ التعثر العربي حدّاً لم يسبق له مثيل.
لقد كانت مصر مستهدفة في دورها القومي، وكان هدف المساعي الأميركية والغربية عموماً، يتمثّل في عزل مصر عن النظام العربي، واختراقها كان من أهم القضايا التي عبّئت لها الإمكانيات المادية والإعلامية والسياسية، وبعد حرب تشرين 1973، عملت الولايات المتحدة على أن تبقى القوة العسكرية المصرية دون مستواها الذي كانت عليه قبل الحرب، والعمل على تحقيق إختراق أميركي كامل لمصر يتم بموجبه القضاء على القيم الوطنية والقومية والإنجازات الإجتماعية ويفرض قيماً جديدة في مجالات الإستهلاك والإنعزالية، وحرمان مصر من الوصول الى نقطة الثقة بالقدرات الذاتية، وفرضت عليها أن تظل دائماً عند حد الحاجة الى الولايات المتحدة، والحاجة الى مزيد من التنازلات الداخلية والخارجية لتحصل على أقل الضروريات وتحفظ الإستقرار الداخلي، وفرضت على القيادة السياسية آنذاك مزاجاً يدفع الى الشعور بأهمية إرضاء الرأي العام الأميركي خاصة والغربي عامة من خلال تقديم تنازلات في شكل مبادرات، وكانت إتفاقية كامب ديفيد التي ساهمت في إبعاد مصر عن قضايا أمتها العربية وسمحت للعدو بإستثمار الخلل الذي أصاب الأمن القومي العربي، من خلال محاولته ضرب المقاومة في فلسطين ولبنان وحصار سوريا بدعم أميركي وغربي مباشر، ولاحقاً الحرب الكونية التي شنّت على سوريا، أوصلت عالمنا العربي الى نوع من التيه الإستراتيجي، وبغياب مصر إفتقد العالم العربي دور القوة الحيوية القادرة على أداء دور الرافعة التاريخية بما تمتلكه من موارد ديمغرافية واقتصادية وعسكرية وثقافية.
لقد حان الوقت لوقف حالة التردي ووقف الإنهيارات والخروج من الحالة الراهنة، وهذا لن يتم دون عودة مصر الى دورها الطبيعي واستعادة الحيوية والقدرة وعلى أسس جديدة، عبر إعطاء مصر دورها المركزي بعيداً عن الهيمنة الأميركية وضغوطها ومن خلال إطار سياسي للحيوية المصرية وبالإستقلالية عن الإرادة الأميركية الى إرادة عربية جامعة تلتزم بقضايا الأمة العربية وقضاياها المركزية ومواجهة التحديات بدلاً من حالة الإنكفاء التي أصابت النظام الرسمي العربي بمعظمه وذلك تحت ظلال الإعتدال المزعوم الذي سهّل للمشروع الإستعماري إحداث ثغرة في جسد الأمة وزادها استنزافاً وإضعافاً لقدرتها على المواجهة.
إن الإقتصاد المدعوم من الخارج وحده لا يبني نهضة حقيقية ولكنه يلبي اللحظة، بل يدوم العمل المؤطر بخطط تنمية حقيقية تستلهم القدرات الذاتية وتفجّر الطاقات الكامنة وبتغيير ثقافي جذري تضع مصر كنموذج لمحاربة الإرهاب والإلتفات الى ما بناه الشعب المصري خلال عقود، اليوم يعود العرب الى مصر وتعود هي إليهم، لكن المطلوب دوراً استراتيجياً لمصر يلتزم قضايا الأمة العربية، وفلسطين أولوية لأنها القضية المركزية للأمة، واليقظة التامة من محاولات إدخال مصر في دوامة جديدة تحت مسميات واهية لجرها الى أتون صراع جديد في اليمن سيكون أكثر تدميراً لمقومات العرب وتطلعاتهم، وفي وقت تداوي مصر جروحها ورغم ظروفها الصعبة، فإن ثمن جرها الى نفق جديد سيكون كارثياً.
لقد هدفت السياسة الأميركية الى تحقيق إختراق كامل لمصر يتم بموجبه القضاء على القيم الوطنية والقومية والإنجازات الإجتماعية وفرض قيماً جديدة في مجالات الإستهلاك والإنعزالية والعداء للعروبة والعرب، وهي بذلك هدفت الى تحقيق الإختراق الذي يحرم مصر من الوصول الى نقطة الثقة بالقدرات الذاتية وفرضت عليها أن تظل عند حد الحاجة الى الولايات المتحدة، والحاجة الى مزيد من التنازلات الداخلية والخارجية لتحصل على أقل الضروريات، كما فرضت مزاجاً معيناً يدفع الى الشعور بأهمية إرضاء الرأي العام الأميركي خاصة والعربي عامة وذلك يدفعها لتقديم التنازلات التي صورها الإعلام الأميركي بأنها مبادرات شجاعة وعقلانية ومتحضرة.
الحروب العربية – العربية نتاج السياسة الأميركية
وتحرّكت السياسة الأميركية بخطى سريعة في إتجاهات متعددة في النظام العربي، وتحقيق اختراق في الساحة الفلسطينية وتسويغ المفاوضات على أنها وسيلة لإسترجاع الحقوق الفلسطينية وتحت ستار “الإعتدال” والإستجابة للمزاج الغربي في تسوية القضايا الدولية.
وعملت الولايات المتحدة أيضاً على تحطيم الطاقة المعنوية لعرب النفط والغاز من خلال التلاعب بأسعاره، ومنعت قيام تكامل إقتصادي عربي، وذهب بعيداً في إضعاف عوامل القوة وبث روح التفرقة بين الأنظمة العربية تحت مسميات شتى، وتشجيع الخلافات العربية، وطرق أبواب الحلول المنفردة، وفي الوقت نفسه واصلت سياسة دعم “إسرائيل” وتأكيد تفوقها العسكري والسياسي، وعقدت معها إتفاقيات التعاون الإستراتيجي منذ أكثر من ثلاثة عقود.
إن نقطة الإرتكاز الطبيعية للعالم العربي ينبغي أن تكون مصر دائماً بموقعها على الجسر الموصل بين أفريقيا الشمالية وآسيا وامتلاكها لتقاليد القيادة اللازمة بفعل تعداد شعبها وقدراته، أن غياب مصر بعد إتفاقية كامب ديفيد، ساهم في إضعاف بنية أقطار وضربة للأمن القومي العربي.
إن أحد أهم أهداف الولايات المتحدة، هو ضرب جسر الوصل وتدميره والسماح لـ “إسرائيل” بالهيمنة على المنطقة وسد المنافذ البرية بين مصر وسائر عرب الشرق وهنا نذكر حرب السويس 1956 والحصار الإقتصادي والحلف الإسلامي.
وبعد إتفاقية كامب ديفيد، كانت الحرب اللبنانية وهي ليست مجرد حرب أهلية تقليدية، وإنما حرب إقليمية ودولية، والمشكلات الداخلية في سوريا ليست صراعات داخلية أو طائفية وإنما أيضاً إمتدادات لصراعات القوة في النظام العربي.
أن تتنازل سوريا فهو أعقد من مشكلة أي قطر عربي، لأن سوريا تتنازل عن جزء حيوي من مصادر قوتها في النظام العربي وإلتزاماتها القومية، وهذا لن ولم يحصل فاختارت المواجهة وحسم الصراع.
ومصر تواجه جملة من التحديات، بعضها بفعل التراكمات السلبية التي إنعكست على جميع مناحي الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية وهي ناجمة عن الخلل الكبير الذي أصاب الأمن القومي العربي بعد خروج مصر عن معادلة الصراع التي فرضتها بنود معاهدة كامب ديفيد.
اليوم تواجه مصر تحديات جديدة وهي ترسم ملامح مسارها الجديد للخروج من الحالة السابقة الى آفاق العمل المشترك ولكن على أسس جديدة، وبقيادة مصر الجديدة التي تؤكّد أن الدولة المصرية نجحت في ترسيخ شرعية ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 وما تمحض عنها وثورة 30 حزيران/ يونيو 2013 بقيادة المشير عبدالفتاح السيسي، وهي بذلك تجاوزت حالة الجدل الذي أثاره خصوم ثورتها المجيدة، سواء من أولئك الذين راهنوا على ما يسمى “الربيع العربي” ولكن بهدف السيطرة على مقدرات مصر ودورها وتسخيره من أجل حسابات ضيقة تصب في خانة المصالح والأدوار الإستعمارية في عالمنا العربي وصولاً الى الشرق الأوسط الجديد الأميركي.
اليوم تؤكّد مصر حضورها الفاعل، من خلال حكومة شرعية ودستور مستفتى عليه من الشعب ورئيس منتخب، ورؤية تنموية تمّ عرض تفاصيلها في المؤتمر الإقتصادي الأخير.
إن المشاركة الكثيفة من شركات القطاع العام والخاص، أفشلت محاولات الإرهابيين التي هدفت لزعزعة الإستقرار وخلق ذهنية لدى دول العالم ومؤسساته المختلفة بأن مصر مازالت تعاني إنعدام الأمن وبالتالي لن تكون بيئة آمنة للإستثمار، وهو ما سيمنع القيادة والحكومة الجديدة من تنفيذ برنامج الإصلاح الإقتصادي ويتسبب في سقوطها.
إن تكثيف أعمال الإرهاب التي سبقت عقد المؤتمر الإقتصادي، كان هدف الإرهابيين من أجل إجهاض المؤتمر واستهداف الآمنين ومؤسسات الدولة، ومحاولة لتشويه صورة مصر الجديدة، وتعميم ذلك ليصب في صالح مَن ينتهج العنف والإرهاب بغية الإنتقام بعد أن فشل المشروع التدميري الذي يحكم عقلية الإرهاب وصانعيه وهي عقلية منفصلة عن الواقع وتنغمس في أحلام ظلامية وهي مصرة على عدم الخروج منها والتصالح مع الواقع والإلتفات الى مصر وأبنائها وأمتها.
إن أهمية إنعقاد المؤتمر الإقتصادي تتجاوز الحساب الإقتصادي وتشكّل أهمية سياسية لا تقل شأناً عن الجانب الإقتصادي، فهو يشكّل أهمية سياسية من خلال الحشد الدولي الذي يمثّل معظم دول العالم.
دور مصر في التخلّص من حالة التردّي السائدة
إن دور مصر أساسي وهام في هذه الفترة من تاريخ أمتنا، لأن مكانة مصر كبيرة في نفوس أمتنا، وأن تتعافى وتقوى مصر يعني أنها ستشكّل قاطرة توحد الدول والشعوب العربية وتجعل لها من أسباب القوة ما يعضد من مكانة مصر والأمة على الساحة الدولية، والتخلص من حالة التردي السائدة وإدراك ما يتطلع إليه الشعب العربي.
وأعاد المؤتمر الإقتصادي، الذي إفتتحه الرئيس السيسي يوم 13 آذار واستمر لمدة ثلاثة أيام متتالية، مصر الى واجهة الأحداث بعدما طالت محاولة الآخرين تجاهل دور مصر، ولعل وصف السيسي للمؤتمر بأنه بمثابة “ذراع مصر” يوضح ما يأمله من المؤتمر الذي حشدت له الجهود السياسية والإقتصادية، ومصر بذلك توجه من خلال المؤتمر رسائل عدة منها رسالة سلام ومحبة للعالم وفي وقت تواجه إرهاباً وتحديات جسيمة.
وعقد المؤتمر يعكس إرادة مصر والمصريين في تحقيق التنمية المنشودة وموقع مصر في قلب الشرق الأوسط يسمح لها لأن تكون نقطة إنطلاق كبرى، واستقرار وقوة مصر هي قوة لمكافحة الإرهاب وتكاتف المجتمع الدولي لضمان أمن واستقرار العالم.
وتدور أسئلة كثيرة وكبيرة حول دور مصر في هذه المرحلة الهامة من تاريخ أمتنا العربية، مصر في تاريخها لم تكن أداة في يد أعداء الأمة، بل كانت رمحاً وسيفاً عروبياً، حملت قضاياها ودفعت ضريبة الإنتماء وقدّمت التضحيات، رغم شدة الهجمة والأثمان الباهظة، وينظر إليها المواطن العربي بأنها رافعة لنهوض العرب وقوتهم.
وبعد أن بدأ العدوان السعودي الذي استهدف اليمن من خلال حجج وذرائع لا علاقة لها في الوقائع، وهو عدوان مشبوه يأتي في وقت بالغ الدقة والحساسية وهدفه إعادة خلط الأوراق في المنطقة لمصلحة الأعداء والمتربصين بأمتنا، ويتم طرح اسم مصر في التداول من خلال تعمية مقصودة لا تفرق بين أمن المشاريع والحكام وبين الأمن القومي العربي الذي يعني الوقوف الى جانب الحق، وتوحيد المواقف والرؤى بما يعود بالمنفعة وتعزيز قوة البلدان العربية وصيانة أمنها القومي وحماية المواطن العربي في حريته وأمنه واقتصاده وتطلعاته المشروعة.
وكثيرة هي الأسئلة التي تتحدث حول قرار مصر التدخل في أحداث اليمن الداخلية واحتمال مشاركتها الى جانب العدوان السعودي الذي يستهدف اليمن، وهنا أيضاً نفرق بين ما يصدر على المستوى الرسمي المصري من تعميم يتعلق بحماية دول الخليج من أي عدوان خارجي وهو وجه حق، وبين المشاركة في العدوان ضد قطر عربي مثل اليمن وهو وجه باطل ما يعني جر مصر الى أتون صراعات جديدة قد تأتي على ما تبقى من أواصر العروبة وقيمها الحقيقية.
لقد رفضت باكستان الإنجرار الى مثل هذا الدور وهذا ما صادق عليه برلمانها، أي أن الشعب هناك قال كلمته رغم الإغراءات السعودية المطروحة والموافقة الأميركية على مثل هذه المشاركة المشبوهة.
ويتطلّع المواطن العربي الى دور فعال تخطوه مصر لإعادة الأمن القومي العربي الى سابق عهده وترتيب أولويات العرب وقضاياهم ورص الصفوف في مواجهة الأعداء، وتصويب البوصلة بإتجاه العدو الصهيوني والمشاريع التي تستهدف المنطقة، والتخلص من تبعات كامب ديفيد وما جرّته من ويلات وحروب شنتها “إسرائيل” على فلسطين ولبنان وسوريا، وهي مازالت الخطر الأكبر الذي يهدد الأمة بأسرها.
في هذه المرحلة، مطلوب تصويب البوصلة في الإتجاه الطبيعي، ناحية أعداء الأمة وعدم الإنجرار الى حروب عبثية وهي خاسرة أخلاقياً وإنسانياً وهي خيانة للعروبة وضربة في الصميم لركائز الأمن القومي العربي.