محمود صالح
إستطاعت سوريا وعبر تاريخها الطويل أن تشكّل علامة مضيئة ووجه نضالي متميّز، وتمكّنت من إحداث تحولات إقتصادية وإجتماعية وسياسية عبر مسيرة عطاء لا ينقطع ورؤية واضحة لمستقبل أمتها وهي لم تهادن يوماً في ثوابتها وخياراتها الوطنية والقومية، وواجهت جملة من التحديات ورفعت راية الوحدة من خلال مضمون استراتيجي يتمثّل في إعلاء كلمة الإنسان العربي وسعت الى بناء الوطن بكل ما تملكه من إمكانيات وأرست سياسة ثابتة واستراتيجية تميّزت بالإلتزام وعدم المهادنة عندما يتعلّق الأمر بالمصير العربي المشترك إنطلاقاً من مواجهة التحديات الماثلة، وهي التي رأت أن تحقيق الوحدة هو الطريق الجذري لمواجهة حالة التجزئة والإنقسام ويقدّر تعزيز سيادة الوطن ينعكس ذلك على بناء الأشمل، وهي أول من نادت بمواجهة التبعية واستكمال مقومات بناء الأمن القومي العربي على أسس سليمة، وسوريا هي أول مَن أطلق برامج التنمية الإقتصادية ومشاركة المواطنين واحترام حقوق الإنسان، ورأت أن التخلّف هو مرض مزمن خلّفته سنوات الإحتلال الأجنبي بأنواعه القديم والحديث، ووضعت خططاً فاعلة من أجل تحقيق تنمية متوازنة تربط بين النمو وعدالة التوزيع، وهناك التحدّي المتمثّل في الإلتزام بالقضايا القومية وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية ومواجهة الغطرسة الصهيونية.
الأمة العربية اليوم بحالة من القلق حول مصيرها ومستقبلها، بعد أن تفشى الإرهاب في ربوعها، والمطلوب كيف يتم حسم المعركة في مواجهته وهي مسؤولية الجميع، وللأسف عمل البعض على تغذية الإرهاب وتمويله وتقديم الدعم له من أجل تحقيق مآرب فئوية ضيقة وغايات لا أخلاقية غامرت بالأمن القومي العربي وحاولت رسم واقع جديد مختلف يؤدي الى ذوبان النظام العربي في نطاق آخر يفقده هويته القومية، وأصبح مطلوباً اليوم ضرورة حسم الصراع في مواجهة الإرهاب وفضح صانعيه ومَن فرّطوا بالأمن القومي العربي، والمطلوب أيضاً كفاح دؤوب ضد التبعية التي يحاول ترسيخها أولئك الذين هانوا وفرّطوا، والمطلوب تعزيز وصيانة الإستقلال للدول التي تواجه المشروع الإستعماري وأدواته في المنطقة من خلال حشد الطاقات في مواجهة الهجمة الإستعمارية وأدواتها التكفيرية.
إن إمتلاك الثروات العربية، كان من الأجدى أن يرسخ قيم المواطنة والوحدة ويعزّز مكانة الأمة في مواجهة المشاريع التي تستهدف أمتنا، لا أن تكون الثروة سبباً للإنقسام والسماح للدول الطامعة بنهب تلك الثروات ووضع البلاد تحت الحماية الأجنبية مقابل الحفاظ على كراسي العروش المزيفة والمرتهنة.
وكان الأجدى أن يتم ترسيخ الوحدة بين أبناء الأمة الواحدة، وليس الضرب على أوتار الطائفية، والمطلوب اليوم مواجهة تحدي الطائفية التي تنهش الجسد العربي وتضع البلاد في حالة من عدم الإستقرار الداخلي الذي يؤثر على النظام العربي بأكمله.
لقد فعلت الأحداث والتطورات فعلها منذ أكثر من أربع سنوات وهي ناجمة عن تراكمات سلبية وحالة من الخلط وفقدان البوصلة لدى المراهنين على الخراب والدمار من خلال مشاريع تدميرية تخدم أعداء أمتنا، ووصل التبعثر العربي حداً لم يسبق له مثيل، وصار النظام العربي مفتوحاً للدول الإستعمارية، وخرجت الأموال العربية الى خارج البلدان تحبس نفسها في عقار أو استثمار أو في مضاربات خاسرة، أو لدعم دول بعيدة جغرافياً لحل أزماتها المالية والإقتصادية.
وأمام فشل المشروع الأميركي المسمى الشرق الأوسط الجديد والحرب الكونية التي شنّت ضد سوريا والمقاومة، صمدت سوريا وقاومت وانتصرت في مواجهة الحرب الهمجية التي شُنّت عليها وسُخّر لها من الإمكانيات ما يفوق أكبر الحروب في التاريخ المعاصر.
ووجّه الشرق الأوسط الجديد الذي روّج له أميركياً وإسرائيلياً لن يكون كما أرادوا، بل هو وجه مقاوم ملتزم بقضايا الأمة، والمنطقة اليوم على أبواب تغييرات استراتيجية كبرى فرضتها إرادة المقاومة وقدرتها على التصدي للعدوان وهزيمته والإنتقال الى مرحلة الهجوم وفرض المعادلات الجديدة.
واليوم تتكشّف الأوهام على صورة المشهد ويبدأ العد التنازلي لإعلان لحظة الحقيقة المتوّجة بالإنتصارات، والمنطقة أصبحت منفتحة على آفاق جديدة رحبة والصراع مستمر لكن ليس كما يشتهي أعداء الأمة، وبدأ الوقت يضيق على الخاسرين وباتوا على مفترق طرق، لأن الوقائع الجديدة تفرض ذاتها وعليهم الإلتزام بالمعادلات الجديدة أو إنتظار خسائر أفدح تصل الى حد الهزيمة ولعنة التاريخ، واختاروا العدوان على اليمن من باب التعويض على فشل مشروعهم، لكن اليمن سيكون مقبرة لأعداء الأمة وإرادة الحياة لدى اليمنيين أكبر من ملياراتهم وترسانات أسلحتهم.
وفي إنتصار محور المقاومة يتكرس النهج الجديد الملتزم بقضايا الأمة في مواجهة القوى العاتية وأدواتها. وفي الوضع العربي الراهن لا بد من فهم الحقائق وما يدور من أحداث ومواقف وسياسات على مستوى أنظمة الحكم ورغبات الشعوب وآمالها العريضة، وخصوصاً ما يتعلّق منها بالإرهاب وتأثيراته الآنية واللاحقة على مستقبل القضايا العربية ومسألة العمل المشترك لدرء الأخطار.
التساؤلات مشروعة وهي موضوعية في التوصيف كما هي مسؤولية في الحل، كيف نشأ الإرهاب وما هي مقومات التصدي له، إن على الصعد الداخلية أو الخارجية؟ وكيفية فهم الصمت الطويل الذي لازم نشأة “داعش” ونموّه وتدريبه وتسلحه، وهل يعقل أن نرى خطر الإرهاب وهو يتزايد ويهدد دولاً قائمة، ويتم دعمه علانية من دول عربية بعينها غير آبهة بتداعياته ونتائجه الوخيمة على مستقبل الأمة، وبينما الخلافات العربية تتزايد هي الأخرى مع تزايد مخاطر الإرهاب، إنها الكارثة على المستوى العربي، وهي الفشل للعالم أجمع، وماذا يعني استسلام البعض والإنضمام الى قوى التطرف والسلوك المتوحش، وما قيمة المؤتمرات الدولية والتحالف الغربي – العربي المزعوم بينما يستمر تدفق الأموال والدعم من دول عربية لقوى الإرهاب، واستمرار تدفق عصابات الإجرام التي تعبر حدود أكثر من دولة لينضموا إليهم، وما جدوى تكتل الدول في تحالفات دون أي إنجاز ذي معنى يضع حداً للإرهاب، ومعظم تلك الدول مَن ساهم في صنع الإرهاب ودعمه، وهناك مَن يحاول الإختباء خلف تعقيدات الأوضاع السياسية في المنطقة والشرق الأوسط، والحديث عن خريطة سياسية عربية ملغومة بمشاكل حدود وأقليات وطوائف ومذاهب، وفي هذا إذكاء آخر للفتن والمساهمة في اللعب على أوتار التناقضات وتسعير النيران، وهناك مَن يصوّر الحالة من خلال تعميم افتراضي واعتقاد سائد، بأن لا حكومة عربية قادرة على حماية شعبها بقدراتها الذاتية، وهذا يعيدنا الى أصل البلاء والسؤال، ما الذي ساهم في ضرب أسس الأمن القومي العربي ومقوماته؟ ومَن أدار ظهره للعروبة الحقيقية كفكرة جامعة وموحدة؟ ومَن جمع بذور الإنقسام وأشاع الخراب والدمار وارتبط بمشاريع التقسيم والهيمنة الإستعمارية.
سوريا تواجه الإرهاب ودوره الوظيفي
وفي البحث عن كيفية الإنتصار على الإرهاب لا بد من عملية إعادة تقييم شاملة وجريئة لمجمل الأوضاع العربية والبحث من خلال نظرة معمقة في الأسباب والنتائج المتوخاة للوصول الى واقع جديد أفضل يضع حداً للسلبيات والإنهيارات والعمل على وأدها قبل أن تتطوّر الى حالة تأتي على كل شيء وعندها ستصبح التكلفة والأثمان مرتفعة قد تأتي على ما تبقى من عوامل جامعة.
سوريا تواجه الإرهاب الذي يموّل من قبل أطراف دولية وإقليمية، وثبت بأن الإرهاب يقوم بدور وظيفي، وهذا يعني أن تلك الدول الممولة والداعمة تمتلك إمكانية ضبط تلك المجموعات ولكنها تنتظر فرصتها التي لم تأتِ ولن تأتي بالتأكيد، وهي تبحث عن إنجاز ما ولو كان بسيطاً يمكنها من فرض نموذج ما في سياق مشروعها النهائي، وأمام الفشل تسعى تلك المجموعات الإرهابية الى محاولة تدمير مقومات الدول السورية وتمزيق النسيج الإجتماعي والبناء على أنقاض مشروع سياسي أثبت صوابيته وقوته في مواجهة الهجمة خلال أكثر من أربعة أعوام، وأعداء سوريا يعتقدون أن الفوضى والخراب والتدمير سيحقق الغايات الإستعمارية كما رسمت في مشروع الشرق الأوسط الجديد الأميركي – الصهيوني.
إن النموذج الذي يجري الترويج له يتطابق مع مواصفات “داعش” وما تمثّله، ويعني إدخال المجتمع العربي في صراعات طويلة تساهم في تفاقم المأساة، والتقسيم على أساس الإنتماء الطائفي يعني تفتيت سوريا ومدخلاً الى إنشاء دويلات وإمارات دينية على أنقاض الدولة الوطنية، وهذا سيلغي بدوره أي آفاق لبناء دولة وطنية وقومية، وفي حال “التوافق على مشروع كهذا كما يروّج أعداء العروبة، فإن المنطقة وشعوبها ستشهد نهاية الشعارات والممارسات الوطنية والوحدوية، وعلى مثل هذه الآليات تعمل التنظيمات التكفيرية لفرض النموذج الآحادي الذي ستكون الأقليات أولى ضحاياه.
للأطماع الإستعمارية في الوطن العربي امتداداتها وعناصر قوتها، وخلال الحرب الكونية التي تشن على سوريا، إستنفرت قوى الهيمنة الدولية كل ما تملك لمواجهة مشروع التحرر والنهوض العربي ممثلاً بقوى المقاومة، وعملت القوى الباغية على إختبار كل أدواتها خلال مراحل بعيدة في تاريخ المنطقة، من أول خريطة لسايكس – بيكو وزرع الكيان الصهيوني في قلب أمتنا العربية، وإنشاء الدول العائلية في الخليج والتقسيمات الشائعة في بلدان المغرب العربي وشمال أفريقيا والى آخر المستعمرات الصهيونية في فلسطين الى القواعد العسكرية الأجنبية والجيوش الإستعمارية التي تسيطر على العديد من الجغرافيا العربية.
ويستمر الصراع وهدفه إعادة تقسيم المنطقة على أسس جديدة وكنتاج للحروب الأميركية في أفغانستان والعراق والحرب التي تدور رحاها على الأراضي السورية واستخدام القوى التكفيرية في هذه الحرب بالرغم من الإدعاء بأن التحالف الغربي – العربي يعمل لمحاربة “داعش” الذي يعمل لتنفيذ المخطط المرسوم ويستخدم عدونا كل أساليب التضليل، وفي هذا المجال يتساءل الكاتب الأميركي توماس فريدمان بقوله: “ما هي مصلحتنا في محاربة آخرالدفاعات “داعش” في وجه إيران، وهذا السؤال يوجّه الى الدول العربية التي تشارك أيضاً في هذه الحرب على “داعش”، وحتى لو كانت من باب الفرضيات وبدون آليات فاعلة.
وبعد التطورات والمستجدات في الميدان سواء في العراق أو سوريا تتغيّر المعادلات والتوازنات لصالح قوى المقاومة في أمتنا وهذا ما اعتبره أبرز جنرال أميركي ديفيد باتريوس “بأنه يهدد التوازنات الإقليمية” طبعاً بغير ما يشتهي أعداء أمتنا.
لقد ثبت من خلال وقائع الميدان، أن أعداء سوريا يجهلون طبيعة موقع سوريا الجغرافي ودورها السياسي وهم أيضاً قللوا من دور مصر التي تعتبر استقرار سوريا جزءًا من أمنها القومي، وهي ترى نفس المخاطر التي تهدد سوريا واستوعبت الدرس جيداً، والإستدارة السعودية الأخيرة بإتجاه تركيا قيل الكثير عنها وأقله البحث عن سياسة شرق أوسطية جديدة وكما قالوا: “لأن حال الشرق المتهاوي لم تعد تحتمل الصراعات العبثية ومطلوب تعاون سعودي – تركي ضروري للمواجهة المقبلة! والإعداد لسياسة شاملة لوقف حالة التداعي الجارية وبناء شرق عربي جديد بمشاركة القوى الفاعلة في المنطقة التي قرأت المشهد بشكل صحيح!)، والسؤال، مَن هي القوى الفاعلة، أليس استهداف اليمن يأتي من خلال هذا المنظور؟ وهو تعبير عن فشل المشروع الأميركي وأدواته في المنطقة.
وفي النتائج نقول إن محور المقاومة حقّق الإنتصار، إيران أصبحت لاعباً إقليمياً قوياً وتتحرك بكل قوة، وسوريا بدأت مرحلة الهجوم المعاكس وهي تحصد الإنتصارات وتهزم المشروع المعادي الذي استهدفها منذ أربع سنوات.
أما حلفاء واشنطن، فهم يعبّرون عن إمتعاضهم ويتحدثون عن متطلبات وشروط الحلف الجديد المتشكّل من أجل حماية قضاياهم المشتركة، لكنهم لا يحصدون إلا التعبير عن خيبة أملهم بالشريك الأميركي، ويحاولون تغيير إتجاه البوصلة والإشارة الى “الخطر الإيراني” متناسين الخطر الصهيوني على الأمة جمعاء، وهم يتّهمون واشنطن بأنها تقايض المنطقة من أجل تحقيق مكاسب في مكان آخر، ونسوا أنهم مجرد ألعوبة بأيدي واشنطن ودول الغرب الإستعماري.
لقد ثبتت صحة الرؤية السورية التي رأت أن استهداف سوريا يعني إفساح المجال للجماعات المتطرفة ولقوى الإرهاب للتمدد في المنطقة، وهذا ثبت على أرض الواقع.
سوريا اليوم هي مَن يحمي المنطقة من إنتشار الإرهاب الذي أرادوا من خلاله تحقيق مآربهم في تدمير المنطقة ولكنه إرتدّ على صانعيه.
نقول، سوريا رقم صعب لا يمكن تجاوزه في معادلات المنطقة وهي اليوم تحقق المزيد من الإنجازات التي أصبحت تؤثر إيجابياً في التوازنات الدولية لصالح قوى التحرر ومقاومة الهجمة الإستعمارية الجديدة، وهي اليوم على أبواب مرحلة جديدة وستعود أقوى مما كانت، عربية الهوى والجذور والملتزمة بقضايا الأمة وشعلة كفاح ومنارة لكل أحرار العالم.