* حسن زيدان
عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وإنسحاب القوات السورية من لبنان، إنقسم اللبنانيون حول شكل وطبيعة الإستقطابات الجديدة في مرحلة ما بعد رفيق الحريري، ووصلت حدة الإنقسام الى مرحلة كادت تطيح بكل ما علّق عليه اللبنانيون من آمال لجهة العيش المشترك والإزدهار وعودة لبنان الى ما كان عليه من مركز اقتصادي وثقافي وحضاري في منطقة كانت تتخبط في مشاكلها بعد الإحتلال الأميركي للعراق.
القيادات الفلسطينية على ضوء ما تقدّم حرصت على تحييد المخيمات الفلسطينية في لبنان عن التجاذبات اللبنانية، وقد نجحت الى حد كبير في ضبط الأمن داخل المخيمات، الأمر الذي لاقى استحساناً من كل اللبنانيين على اختلاف أطيافهم وإنتماءاتهم.
لكن الرياح التي عصفت بالأمن اللبناني قبل وبعد أحداث مخيم نهر البارد، والتي أودت بحياة العشرات من اللبنانيين والفلسطينيين تركت آثاراً كبيرة على المستوى النفسي والمادي في المخيمات الفلسطينية الأخرى.
فمخيّم البداوي الأقرب الى مخيم نهر البارد إحتضن وحده أكثر من ثلثي عدد السكان النازحين من المخيم المدمر الذي كان يقطنه قبل الأحداث بين الجيش اللبناني وفتح الإسلام ما يربو على ثلاثين ألف لاجئ فلسطيني. وقد عملت القيادات الفلسطينية جاهدة لمحاصرة تداعيات تلك الأحداث على باقي المخيمات خصوصاً في مخيم عين الحلوة (أكبر تلك المخيمات والذي يقطنه أكثر من ستين ألف لاجئ ولا يبعد عن مدينة صيدا الى الجنوب أكثر من كيلومتر واحد) الذي بدأ يشهد ظهوراً علنياً لحالات إسلامية متطرفة أعلنت الولاء لـ “فتح الإسلام” و “جند الشام” “وكتائب عبدالله عزام”.
هذا الواقع المستجد في مخيّم عين الحلوة بات يثير القلق في المخيم والجوار اللبناني الذي لم ينسَ بعد ما آلت إليه أحداث مخيم نهر البارد من مآسٍ وآلام. وقد تأكّد القلق بعد أن بدأ المخيم يشهد جولات من الإشتباكات الداخلية العنيفة بين “حركة فتح” و”فتح الإسلام” و”جند الشام” ونشطت عمليات القتل والإغتيال وتخريب الممتلكات بفعل القنابل العشوائية والعبوات التي خرقت أمن المخيّم وحوّلته الى ساحة لتصفية الحسابات بين المتخاصمين!
ومع بدء الأزمة في سوريا واشتداد الصراع هناك وتباين المواقف الفلسطينية من طبيعة ما يجري على الساحة السورية وصولاً الى ما شهده لبنان من إرتدادات تلك الأزمة ولجوء بعض المطلوبين من اللبنانيين الى مخيم عين الحلوة (كفضل شاكر وشادي المولوي)، تعالت صيحات سكان المخيم محذرة من المخاطر المحدقة بهم وتشكّلت اللجان من المجتمع المحلي، فكانت اللجنة الأهلية والمبادرة الشعبية والحراك الشبابي إضافة الى اللجان الشعبية ولجنة المتابعة الموجودتان أصلاً في المخيم والتي إلتقت جميعاً على حماية المخيّم وتعرية الجهات العابثة بأمنه واستقراره.
هذا الواقع حدا بالسلطات اللبنانية ممثلة بمدير عام الأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم للإلتقاء مراراً بالقيادات الفلسطينية وحثّها على استعجال الإمساك بالوضع الأمني للحيلولة دون أي فلتان كبير قد تصيب شظاياه مدينة صيدا والمناطق المحيطة بها، وفي استجابة سريعة توافقت الفصائل الفلسطينية وأنصار الله والقوى الإسلامية ممثلة بعصبة الأنصار والحركة الإسلامية المجاهدة على تشكيل قوة أمنية من 225 عضواً باشرت عملها في مخيم عين الحلوة مع بداية شهر تموز من العام الماضي، ونجحت تلك القوة في إضفاء حالة من الطمأنينة لدى سكان المخيم الذين رحّبوا بنزولها فضبطت حركة السير وأقامت الحواجز على المداخل وحرّكت دوريات راجلة وسيارة ولاحقت واعتقلت العديد من مروجي ومتعاطي المخدرات، ولكن المتضررين من إشاعة مناخات الأمن والإستقرار في المخيم لم يرق لهم ذلك فدخلوا على خط التعطيل لعجلة الأمن واغتالوا الشاب وليد ياسين من حركة فتح وأفشلوا محاولات اللجنة الأمنية لإستدعاء المشتبه بهم للتحقيق معهم ما حملها لاحقاً على إغلاق ملف الجريمة كما هو الحال مع كل الجرائم السابقة التي طالت العديد من أبناء المخيم، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: العميد جميل زيدان (ابن حركة فتح) والشيخ عرسان عيسى (مسؤول جمعية المشاريع الإسلامية في مخيم عين الحلوة).
ورغم أن ما جرى كان في جوهره محاولة لإفشال الخطة الأمنية إلا أن القيادات السياسية والشعبية الفلسطينية تجاوزت الأمر وأصرّت على مواجهة التحدي وأعلنت عزمها على الإستمرار في خطتها الأمنية في مخيم عين الحلوة وتعميمها لاحقاً على كل المخيمات في لبنان، إلا أن لعبة الكر والفر في المخيم لم تتوقف جراء الإستقطابات الحادة التي أفرزتها الحرب الكونية على سوريا وارتداداتها على الساحة اللبنانية وسعي البعض للإستثمار المذهبي للنيل من هذا الطرف اللبناني أو ذاك في منحى مغاير لما أجمعت عليه القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية لجهة تحييد المخيمات والتعاون مع السلطات الأمنية اللبنانية لفرض الأمن وحل الإشكالات الطارئة مع القوى الأمنية اللبنانية والجوار وبفضل الجهود المكثفة للجنة الأمنية العليا في مخيم عين الحلوة أمكن استيعاب الموقف وانتشال المخيم مما كان يُخطط له من فوضى أمنية عارمة على كل المستويات الأمنية والإجتماعية والإقتصادية، وفتح قنوات للتواصل مع بعض المعترضين على الخطة الأمنية وأدائها من الشباب المسلم الذين يمثلون إئتلاف جند الشام وفتح الإسلام وكتائب عبدالله عزام، الأمر الذي ساهم في توفير الحد الأدنى المطلوب أمنياً في المخيّم.
في هذه الأثناء، أجرت حركة فتح، كبرى الفصائل الفلسطينية جملة تعيينات في أجهزتها الأمنية تضمّنت تعيين اللواء منير المقدح مسؤولاً للقوى الأمنية في مخيمات لبنان وأبقت على العميد خالد الشايب مسؤولاً للقوة الأمنية في مخيم عين الحلوة في محاولة لتفعيل دور “فتح” الأمني بعد كل ما لحق به من ضعف وتراجع.
قبل أيام قليلة عثرت القوة الأمنية على جثة مهترئة تبيّن لاحقاً أنها تعود للفلسطيني السوري إبراهيم محمد الجنداوي المحسوب على الحزب العربي الإشتراكي والشباب القومي العربي وتبيّن في التحقيقات أنه أُعدم قبل أسبوع من العثور عليه، تلاه بعد أيام مقتل الشاب عيسى موسى فارس أمام محله في سوق الخضار في مخيم عين الحلوة بأيدي ملتمين مجهولين!
هذه الأجواءالمستجدة استدعت تحركاً عاجلاً للقيادات الفلسطينية التي لم تتوانَ عن إجراء إتصالاتها مع الجهات المعنية اللبنانية والفلسطينية لطمأنة الناس ووضع حدّ لموجة العنف الجديدة، لكن كل تلك التحركات والجهود الفلسطينية المسؤولة لم تقنع الخارجين عن الإجماع الفلسطيني الوطني والإسلامي بجدوى الإلتزام بتحييد المخيّم وإعلاء المصلحة الفلسطينية على كل ما عداها من مصالح وأجندات خارجية مدمرة، فعمدوا الى اختطاف المواطن اللبناني مروان عباس عيسى والعضو في “حزب الله” أثناء تواجده عند صديق له في مخيم عين الحلوة، ثمّ أعدموه وألقوا بجثته في موقف للسيارات في أحد شوارع المخيم وأرفقوا الجثة برسالة تشير الى أن القتيل عضو في سرايا المقاومة وحارب في سوريا!.
“حزب الله” إعتبر أن الجريمة هي رسالة فتنة لن تمرّ وأن الجهات الأمنية في المخيّم معنية بكشف الجناة وتسليمهم للعدالة.
الجواب الفلسطيني لم يتأخر فسرعان ما تمّ تسليم المشتبه بهما في اقتياد المغدور وهما خالد كعوش وربيع سرحان الى مخابرات الجيش اللبناني في الجنوب لكشف ملابسات الجريمة والوقوف على حقيقة هوية المتورطين بالقتل.
ختاماً، ويبقى مخيم عين الحلوة في عين العاصفة، فإما أن تنجح القيادات السياسية والأمنية والشعبية الفلسطينية في الحفاظ على أمن واستقرار المخيم والجوار وتلفظ كل من ظهر فيها خارج عن الإجماع الوطني الإسلامي الفلسطيني، وإما أنها ستنكشف أمام مَن راهن على قدرتها على توفير الأمن والأمان للمخيم ومحيطه فمحضها ثقته وقدم لها من التسهيلات ما مكّنها من تشكيل قوة أمنية حظيت ولأول مرة بتوافق فلسطيني لم يسبق له مثيل.
تساؤلات برسم كل فلسطيني غيور على مصلحة شعبه، وحريص أن يبقى المخيّم حاضنة للثورة ولثقافة التحرير والعودة وأن لا يكون بأي حال من الأحوال عامل تهديد لأمن واستقرار لبنان.
* عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الإنتفاضة – أمين سر إقليم لبنان