سليم فخرالدين
يتوالى السيناريو المتكرر الذي تشهده المحكمة الدولية في لاهاي، ممثلاً في مباراة إطلاق الأكاذيب والشتائم بوجه شريحة واسعة من اللبنانيين بحجة قول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة!؟
وبصرف النظر عن رأينا بهذه المحكمة الدولية والظروف التي ساهمت في نشأتها وتكوينها، ومسارها القانوني غير المرضي، ومخالفتها الغرض الأساسي الذي وضعت لأجله، والتي لا تتفق بالطبع مع قواعد العدل والإنصاف، وهي عوامل أدت مجتمعة بتغيير مجرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانحرافها عن مسارها الطبيعي، غير أن الإستماع للمتحدثين من داخل قاعة المحكمة لا يعني الإنتصار لها، ولكن ربما يكون من ضمانات التفتيش عن إبرة “العدل” في كومة “الأكاذيب”، ومدخلاً للكشف عن زيف حقيقة وقع فيها بعض اللبنانيين وغيرهم لحظة وقوع جريمة الإغتيال.
فاللبنانيون يريدون معرفة قَتَلة الرئيس رفيق الحريري، ولكن بقدر من التعقل الذي يرفض كل أشكال الهلوسة والهستيريا التي تحكّمت بعقل فؤاد السنيورة أثناء الإدلاء بشهادته أمام المحكمة الدولية، ومحاولاته المتكررة استفزاز اللبنانيين، وكيل الإتهامات والشتائم بحقهم، متصنّعاً قول الحقيقة التي أرادها مجرد وسيلة للهجوم على الحوار بين “حزب الله” و”تيار المستقبل”، وبالتالي تفويت الفرصة أمام الرئيس سعد الحريري للوصول الى رئاسة الحكومة، ومن ثم تهيئة الأجواء لترشحه مجدداً من خلال زعمه أمام المحكمة أن الرئيس رفيق الحريري أبلغه أنه ” تم إكتشاف أكثر من محاولة لإغتياله من قبل حزب الله”، وهي محاولة من السنيورة لإعادة تسويقه للمرحلة القادمة.
لا جدال في أن السنيورة يطمح الى تعطيل الحوار بين اللبنانيين، وربما يكون من حسن حظ هيئة المحكمة وفريق الدفاع والإدعاء والمشاهدين على الهواء أن رئيس حكومتهم السابق لم يفرط كعادته في البكاء ولم تخنه دموعه كما حصل معه أيام العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، فهذا من حظ اللبنانيين أيضاً ليكتشفوا انعدام المسؤولية التي تتحدى مستخدمة كل أساليب الخداع والتضليل، وتغيب عنها كل الأدلة والإثباتات القطعيّة تحقيقاً لمبدأ العدالة وصوناً للحقيقة على مقاس الأشخاص وإن استدعى ذلك تخريب البلد وتدميره وجر اللبنانيين الى الفتنة والهلاك.
بالطبع، لم يستغرب اللبنانيون كل ما تفوّه به السنيورة أمام المحكمة، فشهادته التي تلوّنت بالإدّعاءات الباطلة توحي حتماً بأنه ليس من طينة رؤوساء حكومات لبنان أمثال رياض الصلح وتقي الدين الصلح ورشيد كرامي وسليم الحص وعمر كرامي وغيرهم من الذين نفتقدهم في الأزمات الوطنية وخلال المهمات الصعبة، فشتّان بين الثرى والثريّا، بين الوطنية والتخاذل، بين النزاهة وسرقة المال العام، بين الحرص على الوحدة الوطنية والعمل من أجل الفتنة التي بات الكثيرون يتلذّذون بدمائها التي تسيل كل يوم في سوريا والعراق ومصر واليمن وليبيا والبحرين وليبيا ولبنان.
ألم يكن من الأجدى أن يتصرف السنيورة في قاعة المحكمة كرئيس حكومة سابق يواجه شعبه بالحقيقة حين وقف خلال عدوان تموز 2006 ضد إرادة اللبنانيين التوّاقين الى العيش بعزة وكرامة، ويكشف للبنانيين والعالم بأجمعه كيف استطاع أن يحوّل وزارة المالية الى مغارة شغلها الشاغل امتصاص دم الموظفين والعمال والفلاحين.
يا دولة الرئيس …
إن فسادك ما بعده فساد وهدر لم يوفّر مبلغ 11 مليار دولار أميركي، الذي أصبح علامتك التجارية في عالم السطو على المال العام والذي أنفقته حكومتك الميمونة بعد استقالة الوزراء الشيعة والوزير يعقوب الصرّاف حيث لا مستندات قانونية فيها على الإطلاق، وبينها هبات ومساعدات الى حكومتك قمت بهدرها على الرغم ما ينطوي ذلك على بعد سياسي وطني في حجم إهدار مالي ضخم والتطاول على أموال اللبنانيين دون حسيب أو رقيب.
وماذا عن “ويكيليكس” التي كشفت عن حقائق صادمة تكشف مدى تورطك خلال اجتماعاتك مع السفير الأميركي جيفري فيلتمان، وهجومك على المقاومة وأهل المقاومة خدمة لمشاريع تدمير لبنان والقضاء على مقاومته التي بذلت الغالي والنفيس دفاعاً عن كرامة الوطن بوجه آلة الدمار الإسرائيلية؟
هناك مَن يعتقد أن السنيورة قد كتب السطر الأخير في نهاية مشواره السياسي، فالأشهر القادمة ربما تكون حاسمة بين قلّة متمرّدة على الحوار الداخلي تحاول فرض أجندتها الهداّمة بقوة على اللبنانيين، وأغلبية لبنانية معتدلة لن تترك مجالاً أمام الفتنويين لكي يعبثون بأمن البلد واستقراره، وهذه مسؤولية جميع اللبنانيين على امتداد طوائفهم ومذاهبهم، وعلى مختلف فئاتهم وتوجهاتهم السياسية، ولعلّ أكثر الفرحين بمواقف السنيورة والمؤيدين له هم بالطبع الذين يضمرون الشر للبنان واللبنانيين ودب الفوضى فيه، وفي طليعة هؤلاء الجماعات التكفيرية المسلحة التي لن توفّر بلداً عربياً للعبث بأمنه واستقراره وجرّ الخراب والويلات والتهجير لأهله.
إن إصرار السنيورة على مهاجمة المقاومة من لاهاي بعد فشل كل الجهود بإنشاء مناطق عازلة وإمارات تكفيرية مسلحة بفعل وعي اللبنانيين ومنعة الجيش وصلابة المقاومة يعني أن هناك مخططاً يطل برأسه من جديد على المقاومة ولبنان والحكومة والحوار، ولكن ربما نسي أحدهم أو تناسى أن بمقدوره أن يحقق مكاسب سياسية من خلال إطلاق مواقف فتنوية والرهان على متغيرات خارجية تأتي لمصلحتهم الشخصية، ولكن فات هؤلاء بأن كل المتنافسين لدخول جنّة السراي الحكومي تلزمهم التمتع بمعايير أخلاقية معيّنة، والتحلي بمزايا وطنية تشدد على أهمية التكامل الداخلي ومعالجة الأوضاع الاقتصادية ومشكلة التفاقم المعيشي عند اللبنانيين، والحفاظ على الخزينة العامة، وتأمين الغطاء السياسي للمؤسسة العسكرية في معركة الدفاع عن الوطن ضد الإرهاب، ونبذ العنف والفتنة التي يسوّق لها الكثيرون، وإلاّ تحوّل هؤلاء جميعاً الى أمر فات زمانه والى غير رجعة.
وفيما العرض مستمرّ على مسرح لاهاي وبعد أن تطوّع السنيورة لإفراغ ما تبقى في جعبته من إهانات بالرئيس رفيق الحريري، وتوصيفه كرجل غير جدير بتحمل مسؤولية ممارسة الشأن العام، حيث يتفادى مواجهة التحديات ويبكي حتى الإنهيار على كتف السنيورة أمام المصاعب، ويحاول شراء الذمم ورشوة المسؤولين السوريين “لتسهيل الأمور”، دخلت المنطقة العربية منعطفاً جديداً على إيقاع توقيع الإتفاق النووي في لوزان بين المجموعة الدولية وطهران، فضلاً عن التطورات العسكرية التي فرضتها عملية “عاصفة الحزم”، وإعلان الدول الخليجية مدعومة ببعض الدول العربية وبغطاء أميركي الحرب على اليمن تحت ذريعة القضاء على الحوثيين وانعكاسات هذه الأحداث والتطورات على الساحة اللبنانية، الأمر الذي اعتبره عدد من المراقبين مؤشراً على بداية التقارب السعودي – الإيراني، الذي يمكن أن يفضي إلى نتائج إيجابية تفضي إلى التعجيل في إنهاء الشغور الرئاسي، فيما رأى آخرون أنه من المبكر ترجمة تقاطع مصالح الدول المتخاصمة إلى تفاهمات تشمل معالجة مرحلية لأزمة لبنان السياسية، نظراً إلى أن أمام هذه التفاهمات جدول أعمال مثقلاً إقليمياً قد يكون لبنان في آخر أولوياته، من دون إغفال أن هذه التفاهمات تساعد على سياسة حفظ الأمن والإستقرار فيه التي تجمع عليها القوى الدولية والإقليمية المهتمة بالحد من خسائر تداعيات الأزمة السورية عليه.
وفي ظل الحرائق الإقليمية المشتعلة من حولنا، ليس هناك بديل من الحوار بين الأفرقاء اللبنانيين سعياً الى تدوير الزوايا، ودرء الفتنة، ومنعاً لعودة الإقتتال الداخلي. وتخفيض سقف بعض الخطابات والتخفيف من تأجيج الصراعات الطائفية والمذهبية المتنقلة، فيما تبقى المسؤولية الأكبر على حكومة الرئيس سلام التي عليها أن تتعامل مع هذا الملف بما يدعم وحدة الموقف الداخلي في الدفع بعجلة البلاد في اتجاه انتخاب رئيس جديد للجمهورية وبداية التحضير لإجراء الإنتخابات النيابية، ووضع حد لحالة الجمود النيابي الذي فرضها قانون التمديد المجحف بحق اللبنانيين وسلب إرادتهم الناخبة وحقهم الديمقراطي في انتخاب نواب الأمة، دون أن ننسى قضية المخطوفين العسكريين على أيدي “داعش” و”النصرة”، فهذا الملف يبقى وصمة عار على جبين المسؤولين وعجزهم عن إيجاد مخرج مناسب لقضية المخطوفين، بعيداً عن شروط المقايضة، إذ لا يعقل أن يطلب من الدولة اللبنانية التفاوض مع مَن تلطخت أيديهم بدماء شهداء المؤسسة العسكرية أو منحهم براءة ذمة عن جميع أعمالهم الإجرامية.