مازال المشهد متواصلاً في مصر العروبة بعد أن طوت الأحداث أعوامها الأربعة الأخيرة، ومنذ ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، هناك مَن أسرع وركب موجتها والبعض عقد الصفقات السرية مع الولايات المتحدة ومضمونها حقبة جديدة تتأقلم مع طلبات الدول الإستعمارية وتسويق ما يسمى بـ “الإسلام السياسي”، ودور جماعة “الإخوان المسلمين” التي إلتقطت الفرصة وكانت بإنتظارها وأعدت لها ما يلزم من تغطية، بينما كان الشعب المصري في وادٍ آخر، ويومها اعتقدت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، أن وصول “الإسلام السياسي” الى السلطة عبر الإنتخابات، أفضل السبل لإحتواء المجتمعات واستمرار الحالة الراهنة بعد تغيير الواجهات وتسليم مقاليد الحكم لـ “الإخوان المسلمين”.
مثل هذا التوجّه حظي برعاية سياسية أميركية، وهذا يتطابق مع “النموذج التركي” الذي جرى الإعداد له، كما حظي برعاية سياسية ومالية قطرية.
وخلال هذه الفترة الحرجة، كان المواطن المصري يبحث عن هويته الضائعة في خضم الحسابات الإقليمية والدولية، وهي الهوية القومية العروبية التي تؤمن بوحدة المصير مع أبناء أمته العربية.
ومصر العروبة التي ألفت التسامح الديني، ولم يألف أهلها العنف الدموي، وجدت نفسها هذه المرة وكأنها تجلس على برميل من البارود بعد أن تحوّل المزاج الشعبي وهو يرى الدماء وهي تسيل في الطرقات والساحات، وتزايدت الشعارات الدينية على حساب الشعارات التي تتعلق بالصراع السياسي والمبادئ والإصرار على وحدة الأمة والعدالة الإجتماعية وقضية الحرية بشقيها حرية الوطن والمواطن، وأصبحت الشعارات لا تأتي على ذكر الأوطان ولا تشير الى العدو الإسرائيلي، وهذا يؤكّد بأن هدف “الإخوان المسلمين” هو الوصول الى السلطة بأي ثمن وحتى لو اقترن ذلك برضا “إسرائيل” العلني من خلال التطمينات المباشرة وغير المباشرة بالحفاظ على معاهدة كامب ديفيد وتوابعها.
وخلال المرحلة الإنتقالية تراجع “الإخوان” الى الوراء ابتعاداً عن الوطن، وبدوا وكأنهم يخلعون عن أنفسهم بعض الشعارات التي طالما تغنوا بها، وما يتعلق منها بالجهاد وتحرير فلسطين والقدس، الى أن وصل الأمر بالرئيس المخلوع محمد مرسي لأن يخاطب الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز آنذاك بعبارة “عزيزي، وأتمنى لبلادكم السلام والتقدّم والإزدهار”.
واتّجه “الإخوان” آنذاك، نحو غموض واضح وانعدام في الأفق، وشتان ما بين الشعارات ووقائع الميدان، وكان التصعيد بينهم وبين المجتمع، أرادوا السيطرة عليه بتشريعاتهم وأفكارهم، وظهر تصعيد نوعي في أساليب الإرهاب، وشملت نقل الإرهاب من منطقة سيناء التي نجح الجيش المصري في محاصرة الإرهابيين فيها الى الكتلة السكنية في قلب المدن والميادين واستخدام العنف ضد المدنيين والإرهاب النفسي والمعنوي وخلق قلاقل ومشكلات لتعطيل المسار الطبيعي للحياة، لكن يوم 30 حزيران 2013، كان بمثابة ثورة ثانية هدفها تصحيح المسار ومنع الحرب الأهلية والتأكيد على أن مصر لن تعود الى الوراء وهي تطوي صفحة من تاريخها بعد أن حاول الأعداء تغييب دورها وأسرها في تبعية مفرطة.
وجاء تولي عبدالفتاح السيسي حكم مصر في مرحلة هامة في تاريخ مصر التي توقفت عند مفترق طرق تاريخي لم تشهده من قبل، وأمامها تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية وتركة ثقيلة، والجميع يأمل أن تعود مصر قوية معافاة ومنتصرة، وهناك علاقة تكاملية بين نهوض مصر ونهوض الأمة، ويسجّل للرئيس السيسي أنه أنقذ مصر من حكم “الإخوان المسلمين” الذين فشلوا في الحكم على كل الصعد، حيث قدموا الولاء على الخبرة حتى ثار عليهم الشعب بعد سنة واحدة وتدخل الجيش المصري من أجل منع حرب أهلية ووضع حد للإرهاب المتنقّل.
الإرهاب وليد الأفكار التكفيرية
واليوم لا يمكن فصل الأحداث الجارية في مصر عن مجمل أحداث الوطن العربي، وكل الأمور الداخلية في مصر تبدو وكأنها متشابكة، الجيش المصري ودوره، وميدان التحرير ودوره ومَن يسيطر عليه وعلى أحداثه، وهل بإمكان الميادين الأخرى أن تحسم إتجاه الأحداث؟ وهل مازال “الإخوان المسلمون” يشكّلون تحدّياً لمستقبل مصر؟ وهناك مسؤوليات مصر العربية، وبالتأكيد، تواجه مصر تحديات أمنية كبيرة، إضافة الى التحديات الإجتماعية والإقتصادية الصعبة.
إن ضعف الحشد “الإخواني” في هذه المرحلة، ليس دليل خلاص من تحدّيهم، بل علامة قرينة على تحوّل بنيوي في خطط تحركهم نحو المزيد من العنف، فالإرهاب يضرب من خلال عبوات ناسفة تمّ استبدالها بالحشد المنظّم، والخطير أن الإستمرار في الوضع القائم على ما هو عليه قد يؤدي الى تفاقم الأمور، والقوى الإخوانية تزداد تطرفاً في مواجهة الحكم، والسؤال هنا عن موقع القوى المدنية في هذا الصراع، والجواب يتعلّق بمدى انتقال الحكم نحو ديمقراطية ليبرالية.
في مصر، وفي هذه المرحلة بالذات، تأكد أن هناك اتفاقاً عاماً على اعتبار الشرعية هي الرضا على الحكم أو القبول الطوعي لغالبية المجتمع بحق النخبة الحاكمة في ممارسة السلطة، أما المشروعية فهي تعني إلتزام النخبة الحاكمة ومؤسسات الدولة والمواطنين بالدستور والقانون، وهذا يعني الإقرار بشرعية ومشروعية جمهورية مصر برئاسة عبدالفتاح السيسي، فهي نتاج ثورة “25 يناير/ كانون الثاني” وموجتها الثانية في 30 حزيران/ يونيو، والتي أعقبتها تظاهرات مليونية فوّضت السيسي محاربة الإرهاب، وصولاً الى إقرار الدستور ثم انتخابه رئيساً بما يشبه الإجماع.
وأمام التحديات الماثلة التي تواجه مصر، يمثل الإنقسام والإستقطاب في المجتمع والمعارضة التي تقودها جماعة “الإخوان المسلمين” تهديداً محدوداً، لكنه قابل للتمدّد فيما لو أتيحت لهم الفرصة وهم يرونها في خلط الأوراق ومحاربة الجيش المصري.
الرئيس السيسي وعد بالإنتصار على الإرهاب
ومصر اليوم تخوض مواجهة صعبة وقوية في مواجهة المجموعات المسلحة وإتّهم السيسي جماعة “الإخوان المسلمين” بمساندة العمليات الإرهابية التي تجري في مصر، وتعهّد خوض المعركة حتى النهاية والإنتصار، واستنفرت السلطات المصرية كامل قوتها بعد أن طوّقت الهجوم الأخير في سيناء والذي استهدف مقرات أمنية وتسبّب في مقتل وإصابة عشرات العسكريين، وأعقبها تشكيل قيادة عسكرية موحدة لمنطقة شرق القناة ومكلفة أيضاً مكافحة الإرهاب، وإتهم السيسي جماعة “الإخوان المسلمين” في شكل رسمي بالضلوع في حوادث العنف التي جرت في البلاد منذ سقوطهم عن الحكم في صيف 2013، ونقل السيسي عن قيادات الإخوان تهديدهم عندما كان وزيراً للدفاع، بأنهم هدّدوا “ستجدون أشخاصاً يأتون من كل الدنيا (العراق وأفغانستان) لقتالكم”، وقال السيسي: كنا نعلم أن هذا المسار سيحدث في حال عزل مرسي والمصريون يعلمون ذلك، وأتينا على تنظيم في أقوى حالته يملك مقدرات كبيرة، وظل يعمل منذ سنوات، حتى أن هناك دولاً تُقاد من هذا التنظيم (الإخوان)، وحمّل هذه الدول مسؤولية مساندة الإرهاب، ووعد المصريين بالثأر متوعّداً مَن ساند ودعم العملية الإرهابية الأخيرة “إننا نراه ونتابعه وسنتصدّى له”.
وبكل تأكيد، إن الهجمات على مقرات وقوات الجيش المصري في سيناء هي مشبوهة وهي تصب في مصلحة الإحتلال الصهيوني، والذين يهاجمون عناصر ومقرات قوات الجيش المصري في سيناء ويشعلون النيران ويرتكبون أعمال القتل، إنما يساعدون الإحتلال الصهيوني.
وانتقد وزير الخارجية المصرية سامح شكري استقبال وزارة الخارجية الأميركية وفد من جماعة “الإخوان المسلمين” المصنفة في القاهرة “إرهابية” ورفض بشدة التصريحات الأميركية التي بررت استضافتهم، باعتبارهم ينتمون الى حزب سياسي، وهذه التصريحات غير مفهومة، وكيف يتم التواصل مع عناصر ضالعة في عمليات إرهابية لترويع المصريين وتهدد أمنهم، وقال شكري، إذا كنا نرغب في أن ندفن رؤوسنا في الرمال حتى لا نرى الحقيقة فهذا شيء آخر، وذلك في إشارة الى أن مصر ترى حقيقة الوضع وعلى الآخرين أن يدركوه، وهذه الأمور يجب تناولها في شكل متسق مع دعاوى محاربة الإرهاب والتضامن بين الدول لمحاربة الإرهاب.
لقد انعكس إرهاب سيناء بشكل غضب شعبي كبير لدى المصريين كافة وخاصة الجيش المصري ومعه الشرطة وباتوا جميعاً في خندق واحد، على رغم إنتقادات هنا ومؤاخذات وتساؤلات هناك، وأحاديث الشارع تنضح بكم هائل من كراهية “الإخوان”، وتوعدهم مع عدم التفرقة بين مَن قتل الجنود في سيناء وبقية محافظات مصر وبين الجماعة باعتبارهم ذراعاً من أذرعتها، وزاد طين أفعال “الإخوان” بلة شماتتهم، إذ حفلت تدويناتهم بكم هائل من التكبير والحمد على مقتل الجنود، معتبرين ذلك قصاصاً لفض “رابعة” و”النهضة” أو “انتقاماً من جنود كفرة”.
واكتملت المنظومة “الإخوانية” وهي تبث بيان من قناة “رابعة” تطالب البعثات والشركات الأجنبية وممثليها الأجانب بالرحيل عن مصر قبل 11 شباط 2015 الموافق الذكرى الرابعة لتنحي مبارك، وهذه محاولة لإعادة إستنساخ ما جرى يوم التنحي آملين بعودة مرسي الى القصر مع أن مثل هذه العودة هي من المستحيلات، وهم يسعون الى خلط الأوراق، وتتوجّه أنظارهم صوب قصر الإتحادية الرئاسي.
نقول، ما يجري في مصر من استهداف للجيش من خلال العمليات الإرهابية، لم يأتِ من فراغ، هذا الجيش الذي سطّر أروع ملاحم البطولة في سبيل كرامة وعزة مصر وعروبتها، وكسر الغطرسة الإسرائيلية في عبوره التاريخي لقناة السويس في حرب تشرين/ أكتوبر 1973، مثل هذا الجيش لن تهزمه عصابات القتل والإجرام التي تخدم مشاريع الأعداء، والنصر سيكون حليفه والمعركة ضد الإرهاب واحدة، ومصر ستعود حتماً كما كانت وبعودتها يتحقق النصر النهائي، إنه ليوم قريب.