كان واضحاً وبكل حزم وجدارة، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في رسالته السنوية أمام مجلس الدوما (النواب) والفيدرالية (الشيوخ) أن روسيا لن تهزم في المواجهة المفروضة عليها من دول الغرب، ولن تسمح لأي طرف بتحقيق تفوق عسكري عليها، وأكّد أن القرم جزء لا يتجزّأ من روسيا، وانتقد مساعي الولايات المتحدة لتطويق روسيا والتدخل في شؤونها ومحاولاتها فرض “ستار فولاذي” جديد حول بلاده والتصرف مثل إمبراطورية تتحكّم بأتباعها، وتسعى الى تكبيل الدب الروسي ونزع مخالبه وأنيابه.
وأصرّ الرئيس بوتين على أن الحديث مع روسيا بلغة التهديدات ومنطق القوة ليس مجدياً، ونحن لا نسير على طريق الإنعزال وكراهية الآخر، والبحث عن الأعداء، لأنها مظاهر ضعف في حين نحن أقوياء ونثق بأنفسنا وهدفنا إيجاد أكبر عدد من الشركاء المتكافئين في الغرب والشرق.
وأكّد الرئيس بوتين على احترام سيادة أوكرانيا، ووصف شعبها بأنه شعب شقيق، أما الإنقلاب الذي حصل فهو إغتصاب السلطة بالقوة كما حدث في كييف في شباط الماضي 2014، والمأساة التي نراها جنوب شرقي أوكرانيا تؤكّد صواب موقفنا، وأشار الى أنه على رغم إنفتاح روسيا غير المسبوق، كان خطر تقسيمها وفق سيناريو يوغوسلافيا السابقة بكل ما يترتّب عليه من عواقب مأساوية، وأشار الى حراك إنفصالي مدعوم من الخارج إعلامياً وسياسياً ومالياً وعبر قنوات إستخباراتية، لافتاً الى أن النزاعات الإنفصالية التي ظهرت في روسيا مطلع تسعينات القرن العشرين كانت مدعومة من الغرب بهدف تقسيم روسيا.
واعتبر بوتين أن العقوبات المفروضة على روسيا، ليست ردة فعل الغرب على موقفها من أحداث أوكرانيا، بل محاولة منها لتقييدها ومنع تقدمها بعد تنامي قدراتها، وحتى لو لم تضم القرم، لكان لدى الغرب ذرائع أخرى لتنفيذ ذلك.
ووصف بوتين القرم بأنه حدث تاريخي، خصوصاً أن القرم وسيفاستبول يتّسمان بأهمية حضارية ومقدسة والتمسك بالتاريخ سيكون موقفنا من الآن وصاعداً، وهذا يعني أن ما قاله بوتين هو رد على واشنطن التي تعتقد أنها بلغت “نهاية التاريخ”.
وتمددت واشنطن و”الناتو” حتى صارت جارة لموسكو في جورجيا، وجارة لبكين في كابل، وجارة لدمشق في بغداد، فأضطرت روسيا لإعادة فتح أرشيفها لتبحث عن حلفائها التقليديين على إمتداد العالم كي تواجه عدواً استفرد بالعالم أجمع وحاول السيطرة عليه، فكانت دمشق الحليف الأوثق بعد أن داهم “الربيع العربي” الكثيرين، وفاجأت مجرياته في كثير من الأحيان حتى أصحاب المشروع، إذ لم يكن في وارد واشنطن سقوط حكم الإخوان في مصر، ولا تراجعهم في تونس، ولا تناحرهم في ليبيا، ولا هزيمتهم في سوريا… جوهر مشروعها، قاعدة شعبية إسلاموية منظمة، تفرز قيادات تحكم الدول التي “تداعت” فيها السلطات الحاكمة، لتنتج بتمويل من البترودولار الخليجي “حلف بغداد الجديد” الذي يتيح لواشنطن القبض على المنطقة، ومحاصرة روسيا مجدداً خلف جبال “الأورال”، وتخلص أميركا من الأعباء المالية والعسكرية والقانونية، لإنتشارها في المنطقة بالإعتماد على حلفها الجديد.
صمدت سوريا، وبدأ المشروع الأميركي بالتداعي، وتأكدت روسيا بأن حليفها الموثوق والعنيد، سوريا، التي مازالت ذلك الندّ الصلب لأميركا حتى في ظل هذا الخلل الإستراتيجي في موازين القوى.
استخدمت روسيا والصين الفيتو لثلاث مرات في مجلس الأمن، وأعادت الدفء لشرايين الدعم العسكري والمالي والإستخباري لسوريا، وكانت النتائج مذهلة حقاً، صمدت سوريا، وبدأت ضوابط المشهد الإقليمي والدولي تتسرب من أيدي أميركا وحلفائها. من هنا، ما “داعش” إلا تعبير صارخ عن الفشل الأميركي في المنطقة، ودلالة قوية على العجز الأميركي عن الفعل.
يبدو أن النجاحات الكبيرة التي حققتها روسيا بقيادة بوتين في السنوات الأخيرة، بدأت بالفعل تقض مضاجع البيت الأبيض وتثير مخاوف جهات وازنة في أميركا. فقد بدأ بعض ساسة واشنطن يدرك، أن سياسة الإنكفاء على الذات التي أعلنها أوباما وتجلّت في الإنسحاب من العراق والتخطيط لعمل مماثل في أفغانستان، والتردد الكبير في الشرق الأوسط، قد صدعت مقولتي التفوق والتمييز الأميركيتين، وأصابت أصدقاء واشنطن بالذعر، ودفعت قوى ناهضة أخرى في العالم، وعلى رأسها روسيا، للدخول الى مناطق كانت شبه محرّمة عليها منذ انهيار الإتحاد السوفياتي: ففي جورجيا – الحليف الأميركي الأول لواشنطن في القوقاز، لم تقتصر موسكو على تقليم أظافر النظام هناك عسكرياً، بل تمكنت من إسقاط الرئيس ساكاشفيلي – صديق واشنطن الأول في تلك المنطقة. كما أجهضت موسكو موجة الثورات الملونة التي اجتاحت أوكرانيا وكان الغرب يخطط لإمتدادها الى بيلوروسيا ودول آسيا الوسطى. وتمكنت موسكو كذلك من إضعاف الدور الأميركي في الأزمة السورية، والإمساك بالورقة الإيرانية، والتقدم بهدوء نحو أميركا اللاتينية وأفريقيا تحت شعار استقلالية السياسة الروسية وابتعادها عن أميركا.
روسيا حضور إقليمي ودولي فاعل
لم يكتف بوتين بذلك، بل إنه حشد الى جانبه الصين، المنافس الإقتصادي الأكبر لأميركا، وبنى وشائج قوية مع دول “البريكس، الأمر الذي وفر له مجالاً دولياً هائلاً للتحرك.
الشرق الأوسط اليوم أصبح ساحة حرب للخلافات الدولية، حيث تتصادم مصالح دولتين عظميين، روسيا وأميركا، وهذا العامل لا يمكن تجاهله أو نفيه، في إطار ذلك هناك تغيير كبير حاصل الآن على المسرح الدولي بما فيه من تراجع ثقل وتأثير واشنطن بسبب “سياسة أميركا الإزدواجية” التي تدفع العالم العربي للتحالف مع روسيا” فأن أوباما سيخسر النفوذ الأميركي في المنطقة إذا استمر بنفس السياسة الخارجية، التي أدت إلى ارتفاع حاد في التوترات بين واشنطن وعدد من الدول العربية، ما أدى الى تقدم موسكو وعودتها بكل زخم وقوة لمقارعة واشنطن، بدءًا بمصر حيث خسرت القوى الغربية وبعض الدول العربية رهانها على نشر الفوضى في مصر وإنهاك جيشها وتقسيمه على النحو الذي جرى في جيوش العراق وليبيا واليمن بفعل ثوراتها، بل على العكس فقد استمر تماسك الجيش المصري، وتطورت قدراته القتالية، وكانت صفقة الأسلحة الروسية الأخيرة إحدى مظاهر هذا التطوير، حيث دخلت مصر وروسيا مرحلة بناء إستراتيجية جديدة في المنطقة كون كل منهما يحتاج للآخر، فضلاً عن أن قوة العلاقة بينهما يعطى لأميركا رسالة قوية بأن مصر لديها علاقة متنوعة مع الدول الكبرى. واليوم تتصارع كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا على بسط نفوذهما في منطقة الشرق الأوسط خاصة مصر، في ظل الإضطرابات السياسية التي تواجهها، فالتوتر الذي شاب العلاقات المصرية الأميركية في الفترة الأخيرة، ترك مساحة واسعة لروسيا كي تتدخل لملء الفراغ وتقديم يد العون وتكون بمثابة حليف بديل عن واشنطن في مصر، لذلك ليس من المستغرب أن تثير صفقة الأسلحة الروسية مع مصر ذعراً وقلقاً في “إسرائيل”، لما تمثله هذه الصفقة من استقلالية القرار السياسي المصري، والقدرة على التخلي عن التبعية لأميركا والإمتثال لشروطها في عقد صفقات الأسلحة معها، وأهم هذه الشروط ألا تحصل مصر على نفس الأسلحة والمعدات والتقنيات التي تمنحها أميركا لـ “إسرائيل” وذلك من أجل إبقاء الفجوة التكنولوجية في مجال التسلح قائمة بين مصر و”إسرائيل” لصالح الأخيرة، لأن ذلك سيؤثر في موازين القوى بالعالم والشرق الأوسط. وفي سياق متصل تسعى مصر لإستعادة علاقاتها الطبيعية مع روسيا خلال الفترة القادمة، لأن سياسة مصر الخارجية تتبع نظام إحداث توازن في العلاقات من كل الدول دون الإنحياز والإعتماد على دولة واحدة، حيث قامت مصر بتنويع سلاحها ثلاث مرات بداية من السلاح البريطاني ثم الأميركي وأخيراً الروسي، والآن تعمل مصر على التنويع بين الترسانة الأميركية والروسية، واللافت للنظر إلى أن موسكو ستبيع أيضاً لمصر ما أسمته بمنظومات أسلحة حديثة ومختلفة عن المألوف، بما في ذلك صواريخ “جو – جو”، وصواريخ “جو – أرض”، وغيرها من الصواريخ، والنقطة الأبرز الآن أن عدداً من دول الخليج هي التي ستمول هذه الصفقة.
هذا وتسعى الخارجية الروسية في تعاملها مع غالبية قضايا الشرق الأوسط إلى التواصل مع كافة الأطراف المعنية في ذات الوقت، ومحاولة اتباع سياسة الحلول الوسط؛ بما لا يخل بالتوازن في المنطقة، ودون إغفال عامل المصلحة.
ويأتي الملف النووي الإيراني في مقدمة تلك القضايا التي تهم روسيا في الشرق الأوسط. فقد ساندت روسيا منذ البداية إيران في حقها امتلاك برنامج نووي سلمي، ورفضت أية عقوبات آحادية الجانب من القوى الكبرى باعتبارها خرقاً للقانون الدولي وانتهاكاً لسيادة إيران، وهو الموقف الذي لا تزال تصر عليه روسيا حتى بعد التوصل إلى اتفاق جنيف بشأن الملف النووي الإيراني، كونه اتفاقاً جماعياً في إطار الشرعية الدولية ويضم كافة الأطراف المعنية، وكونه يؤكد في ذات الوقت على تخفيف العقوبات المفروضة على إيران، وحقها في القيام بنشاط نووي سلمي لإنتاج اليورانيوم لمحطاتها النووية ومفاعلاتها للأبحاث وللمفاعلات التي تنتج نظائر مشعة للإستخدام الطبي والإنساني.
مواقف جذرية ومبادرة روسية
أما الأزمة السورية، فتعتبر الأسرع في تحديد الموقف الروسي حيالها؛ فلم تنتظر نتائج الإنتفاضات الشعبية كما حدث في كل من تونس ومصر (25 يناير) وليبيا، بل بادرت روسيا بإعلان دعمها لسوريا، وأن مستقبل سوريا يجب أن يحدده السوريون بأنفسهم، ورفضها للتدخل الخارجي في الشأن السوري خشية تكرار السيناريو الليبي. وتعتبر الأزمة السورية الآن القضية الأولى بالرعاية في السياسة الخارجية الروسية وذلك لعدة اعتبارات، أولها انعقاد مؤتمر “جنيف 2” الذي سعت روسيا جاهدة من أجل إلتئامه، وثانيها أن الأزمة السورية أصبحت بالنسبة لروسيا مسألة مصيرية بالنسبة لسياستها الخارجية في المنطقة ومصداقيتها أمام العالم، وثالثها أن حل الأزمة السورية سيحدد بدرجة كبيرة مستقبل المنطقة وتوازنات القوى فيها، ورابعها رغبة روسيا في عدم تكرار ما تعتبره خطأً دولياً في التعامل مع الحالة الليبية.
وفيما يتعلق بعملية السلام الفلسطيني – الإسرائيلي، فإن موقف روسيا داعم وبقوة للمطالب العربية في دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود حزيران 1967 والرافض للخطط الإسرائيلية الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وكافة مناطق الخط الأحمر. إلا أن الدور الروسي في عملية السلام يجابهه تحدي احتكار الولايات المتحدة لجهود الوساطة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، فضلاً عن رفض “إسرائيل” لأية جهود وساطة بخلاف الولايات المتحدة، والجديد اللافت هو موقف روسيا في مجلس الأمن الدولي عندما تمّ عرض مشروع القرار الفلسطيني لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي خلال مدة زمنية محددة حيث وقفت روسيا الى جانب المشروع الفلسطيني وهذا سيكون له ما بعده.
بهذه المرحلة تعيش كلا الدولتين الروسية والأميركية بحالة حرب سياسية ساخنة جدآ وهذا ما لا يخفيه الفرقاء الأميركان والروس: فأميركا بصفتها رأس الحربة لحلف “الناتو” تحاول اليوم محاصرة روسيا أو حتى القيام بعمل ما قد يقوّض الإمتداد الروسي وإتّساع نفوذه، بعد النجاحات التي حققتها روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين من خلال إقامة علاقات قوية بدول عديدة في الشرق الأوسط مثل مصر وإيران والإنفتاح في تعاملها مع دول أخرى، وهذا ما دفع أميركا الى الرمي بكل ثقلها على محاولة تقويض الجهود الروسية في التوسع في تحالفاتها واتساع مراكز القوة والنفوذ شرقآ وشمالآ، مما قد يعرض مراكز النفوذ الأميركية في هذه المناطق الى خطر الزوال من هذه المناطق ولذلك تحاول أميركا أن تضع روسيا بين خيارين: إما أن توقف توسعها ومراكز نفوذها في العالم أو أن تتلقى ضربات موجعة في عمق الداخل الروسي وتحديدآ من الجمهوريات التي تحسب على انتمائها الروحي والولاء المطلق لموسكو، مثل أوكرانيا وقبلها جورجيا والشيشان وغيرها من المناطق المحسوبة على الروس أصلآ.
أوكرانيا … ساحة صراع روسي – أميركي
فالروس يدركون أن النظام الأميركي الرسمي وحلفائه بالغرب يستعمل الورقة الأوكرانية كورقة ضغط على النظام الرسمي الروسي، للوصول معه الى تفاهمات حول مجموعة من القضايا والملفات الدولية العالقة بين الطرفين ومراكز النفوذ والقوة والثروات الطبيعية العالمية ومخطط مسيرة العالم الجديد وكيفية تقسيم مناطق النفوذ بين القوى الكبرى على الصعيد الدولي، ومن هنا يدرك الروس وحلفائهم أن أميركا وحلفائها بالغرب يحاولون بكل الوسائل جلب النظام الرسمي الروسي وحلفائه الى طاولة التسويات المذلة، ليتنازل الروس وحلفائهم عن مجموعة من الملفات الدولية لصالح القطب الأوحد الأميركي .
لذلك يدرك الروس بهذه المرحلة تحديدآ، وأكثر من أي وقت مضى أنهم أصبحوا بشكل أكثر واقعية تحت مرمى وتهديد مشروع أميركا وحلفائها، فهم اليوم باتوا بين مطرقة الدرع الصاروخية الأميركية التي باتت بحكم الواقع قريبة من الحدود الروسية، وتشكل خطر محدق بأمن المنظومة العسكرية الروسية، وخطر خسارة أوكرانيا لصالح الغرب، واحتمال فقدها لكثير من مناطق نفوذها بالشرق الأقصى والشرق الأوروبي وبالعالم العربي، وسندان تقويض جهودها التوسعية والوصول الى مناطق ومراكز نفوذ جديدة والإستغناء عن مراكز نفوذها القديمة لصالح القطب الأوحد الأميركي والإنكفاء على نفسها.
ومع كل هذه الضغوط الأميركية على الدولة الروسية، لاحظ جميع المتابعين كيف أن موسكو كانت بالفترة الأخيرة، مسرحآ لمجموعة لقاءات ومنطلقآ لطرح مجموعة رؤى لبعض أزمات الإقليم العربي والمنطقة بشكل خاص، فقد أستضاف الروس مؤخرآ، وبمراحل زمنية مختلفة، وفدآ رسميآ من الجمهورية العربية السورية، ووفدآ من الإئتلاف المعارض، ووفدآ من مملكة “آل سعود”، ومع استمرار الحراك الدبلوماسي والسياسي الروسي، بدا واضحآ أن مجموع هذه اللقاءات المنفصلة، هدفها الوصول الى بعض الرؤى للحلول، لبعض الأزمات العالقة بالإقليم العربي، والبعض ذهب الى روسيا من أجل المساومة على الموقف الروسي.
ومع ثبات الموقف الروسي تجاه ملفي الأزمة السورية وإيران النووي، ومع اشتداد موجة الضغوطات الأميركية على الروس بخصوص ملف أوكرانيا، وما صاحب كل هذا من موجة عقوبات اقتصادية على الروس، وظهور طبيعة جديدة لهذه الضغوطات الاقتصادية تمثلت “بحرب النفط – والإنخفاض المتلاحق بأسعار النفط” ومع بروز حلف جديد، سعودي – أميركي – فرنسي – قطري – تركي – ألماني – بريطاني –إسرائيلي، يستهدف ضرب محور روسيا – إيران – سوريا – ودول البريكس (الصين – الهند – البرزايل – الأرجنتين –فنزويلا – جنوب افريقيا)، وعلى مراحل مختلفة، ومن هذا الباب يحاول الروس تقليص حجم الضرر الذي سيلحق بهم وبحلفائهم من توحد هذا الحلف الإقليمي والدولي، ضد مكونات محورهم الصاعد وبقوة والهادف الى إسقاط يافطة القطب الأوحد الأميركي.
ومن هنا ومع تعمق أطر الصراع بين هذين المحورين، ومع اشتداد موجة الضغوطات الاقتصادية والسياسية والأمنية، على الروس وحلفائهم، فهذه العوامل بمجملها دفعت الروس، الى البحث عن حلول “مجتزئة ومرحلية” للتخفيف من وطأة الضغوطات الاقتصادية المفروضة عليها، وحتى وإن كانت هذه الحلول موجودة بمكون من مكونات الحلف المعادي لها، وبالتحديد في أنقرة، ومن هنا أتت زيارة بوتين الى أنقرة، التي كانت زيارة اقتصادية بامتياز، مع عدم إغفال الشق السياسي وخصوصآ الملف السوري، وجاءت الزيارة بعد أن تأكّد أن فكرة المنطقة “العازلة” التي تريدها تركيا أصبحت من الماضي وغير قابلة للتنفيذ.
ومع أن الروس يدركون هذه الحقائق، ويعلمون مدى الإمتعاض الرسمي التركي من دور موسكو بدعم النظام السوري، إلا أنهم أقدموا على هذه الخطوة، ومن باب “أن طبيعة المرحلة تقتضي الذهاب الى أنقرة” من دون المساس بثوابت موسكو بخصوص ملفات المنطقة العالقة وخصوصآ الملف السوري، ومن هنا فلا يتوقع أن يحصل الأتراك على أي تنازلات أو مواقف مبدئية من الروس تتجه الى تغيير موقفهم من الحرب المفروضة على الدولة السورية والمتوقع أن تبقى أطر المباحثات تتمحور حول الكثير من الملفات الإقتصادية والتعاون الإقتصادي بين البلدين.
وبالنهاية، فإن مجموع المؤشرات الدولية وحجم الضغوطات المفروضة على الدولة الروسية هي بمجموعها سيكون مصيرها الفشل، وأن الروس وحلفائهم بالإقليم وبالعالم، قادرون على التكيف المرحلي مع موجة هذه الضغوطات التي تفرضها أميركا وحلفها بالإقليم وبالعالم، خاصة أن روسيا وحلفائها ومعظم المؤشرات الإقتصادية الواردة من الصين والهند والبرزايل، والمؤشرات المتعاظمة العسكرية للدولة الروسية وحلفائها بالإقليم “سوريا – إيران – قوى المقاومة” تؤكد أن يافطة القطب الأوحد الأميركي بطريقها الى السقوط آجلا أم عاجلآ.
الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن على أرضية الخلاف حول المسألة الأوكرانية بلغت ذروتها، وأظهرت تصميماً روسياً على المضي فيها حتى نهايتها، فالرئيس الروسي فلاديمير انتصر حتى الآن في هذه الحرب، وفرض سياسة الأمر الواقع على خصمه الأميركي من خلال ضم شبه جزيرة القرم، واستيلاء حلفائه الأوكرانيين على ثلث الأراضي في شرق أوكرانيا، فهل تنتقل هذه الحرب الباردة الى منطقة الشرق الأوسط وتتحول الى ساخنة؟ وهل ستحاول واشنطن الإنتقام لهزيمتها في أوكرانيا بحرب ضد الروس وحلفائهم في الشرق الأوسط؟
إن الأزمة السورية كشفت سعي “الدب الروسي” لملء الفراغ بالشرق الأوسط بعد انهيار الاتحاد السوفياتي منذ ما يقارب من 20 عاماً وبعد تضاؤل نسبة الهيمنة الأميركية في المنطقة وتبعية الشعوب العربية لها بعد الأحداث والتطورات الأخيرة في تونس ومصر، وعجز أميركا عن التواصل بشكل سليم وفعال لحل المشكلات حيث أدت الجهود الدبلوماسية لبوتين لتعزيز الدور الروسي بالمنطقة وصنع تحالفات جديدة وإحياء تحالفات قديمة والتواجد بشكل قوي داخل منطقة كانت تنتمي للنفوذ الأميركي والتي بدأت موسكو في التقرب منهما رغم الاضطرابات الحالية التي تعيشها الدولتان، إذ فتحت الأزمة السورية المجال للمجتمع الدولي لمحاولة منع انتشار الأسلحة النووية والكيماوية وغيرها من الأسلحة المحرمة دولياً بالإضافة للتعقل والتحرك في اتجاه التوصل إلى حل سلمي وأن تدرك واشنطن إنها ليست وصية على دول العالم.
صار الروس أكثر توقاً وشوقاً في السعي الى تأسيس لبُنات نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، يولد من رحم الأزمات عبر ما وفّره ويوفّره الحدث السوري والحدث الأوكراني، والأخير وكما ذكرنا ونذكر نتاج طبيعي لحالة الكباش الروسي الأميركي الحادّ في سوريا، بل أنّ شكل العالم الحديث بدأ تشكيله وتشكله من سوريا، والأزمة الأوكرانية ما هي الاّ داعم آخر على طريق التعدّدية القطبية.
الزمن لن يعود الى الوراء، وما فعلته روسيا خلال عقد ونيف من الزمن وضع الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين أمام تحديات ومخاطر جديدة أقلها العودة الى التوازنات الدولية، وتقلصت فعالية نظام القطب الواحد، فكيف إذا كان في ساحة العمل لاعبون كثر طامحون لأداء أدوار فعالة في الشؤون الإقليمية والدولية مثل الصين وإيران، ولديها علاقات وتحالفات مع روسيا؟