يمر عالمنا العربي أمام أخطر مراحل تاريخه، ونحن أمام موقف صعب وغير مسبوق، وأحداث جديدة ومترابطة تجري على أرض الواقع، تنظيمات إرهابية ترتع في كل مكان وتحالفات غامضة ومعقدة من العلاقات السياسية، بعضها يئن تحت وطأة عقود من الجهل والتخلف والتبعية وكأن عصر الإنفتاح والنهضة لم يمر في بعض البلدان العربية التي استيقظت على تدفق الذهب الأسود الذي لم يفلح في تصويب مسارها واختارت العيش في ظلام التيه وعبادة الذات على حساب قضايا الأمة ومصالح الشعوب، وبدلاً من التقدم في الرؤى والسمو في الأهداف، إختارت التقوقع ونسج الفتن والمؤامرات، وارتبطت بعجلة قوى الظلم والعبودية وظلّت أداة طيعة بيد القوى الإستعمارية في سبيل الحفاظ على مكاسب ذاتية رخيصة على حساب الصالح العام لشعوبها.
وإزاء هذه المواقف الهابطة والهزيلة، بقيت “سايكس – بيكو” على حالها ما يقارب قرن من الزمن الى أن انتهت صلاحيتها، وحان موسم القطاف، وما زرعوه يحصدونه اليوم على شكل متاعب وهوان وإنحدار لا مثيل له.
المنطقة اليوم أمام منعطف يتجاوز “سايكس – بيكو”، حيث الهجمة الجديدة والضغوط المستترة والعلانية، الخارجية منها والداخلية، هذه اللحظة تستدعي التفكير ملياً والربط بين ما يحدث في الميدان وما يمكن أن تنتهي إليه الخريطة السياسية للتحولات الجارية في المنطقة بشكل عام.
الوضع الذي يمر به عالمنا العربي يثير جملة من التساؤلات عن حقيقة الواقع بكل ما فيه من نتاقضات وسواد، من عنف وتعرجات وحالة من التفتت والضياع، والسؤال الأهم ما يتعلّق بالإختلاف والخلاف وهي كلمات لم تعد مناسبة إذ تغيّرت قواميس السياسة منذ أن ضاعت الرؤى في مهب الأحداث التي ألمّت في عالمنا العربي خلال السنوات الماضية، لم يحصل التغيير في إتجاه الأفضل وكأن البعض من أولي الأمر يسيرون بعكس الزمن نحو مزيد من الإنحطاط إن لم نقل الضياع والإرتهان.
عملية دفع أثمان التخلف كبيرة بسبب المواقف السياسية غير المسؤولة وحجم الفساد المستشري بدول النفط والغاز، ويبدو للناظر من بعيد بأن عالمنا العربي يترنّح كما لم يحصل من قبل وحتى أحلام المواطن العربي لم تعد كما كانت، وتغيّرت أولوياته الحياتية على وقع ما يجري من إنقسام عمودي وأفقي في بنية المجتمع، والبعض إبتعد عن حالة عدم الإكتراث وأصبح يريد الإستقرار بأي ثمن وخاصة أولئك الذين لديهم الكثير ليخسروه من جراء عدم الإستقرار وكأن الخسارة تقابل الإستقرار في معادلة تعبّر عن واقع من البؤس والألم، ويحلو للبعض الآخر أن يرفع شعارات ديموغاجية ويتسلّح بالفوضى والإرتهان لأعداء الأمة.
ولعل الأقرب الى الواقع المنظور، أن مطلب الإستقرار العربي سيظل شعاراً وهو لن يعود في زمن قريب، وأن المستقبل يحمل في طياته صراعاً طويلاً وهذه المرة ليس صواباً مواجهة أعداء الأمة فقط، للأسف رغم أنه الصراع الحقيقي الذي قدمنا من أجله التضحيات واجتمعت الأمة بأسرها من خلال تضامن مكوناتها وتكاملهم على رؤية واحدة، أما اليوم أصبح لدينا صيغاً جديدة ناظمة لحياتنا اليومية.
ما حصل خلال السنوات القليلة الماضية ليس أمراً عادياً بل هو استباحة مبرمجة لكل ما هو ملتزم بعروبته وبقضايا أمته وتحت عناوين وشعارات من صنع أعداء الأمة والبعض من الذين سخروا أنفسهم وباعوها بأرخص الأثمان خدمة لأجندات تكفيرية وتخريبية ومشاريع إستعمارية هدفها إضعاف دول قائمة ونهب الثروات وصولاً الى الهيمنة الكاملة.
إن أسباب الوهن والضعف كثيرة، لكن الخروج منها يتطلّب آليات جديدة، تقرأ الواقع كما هو ومعرفة محركات ما جرى من أحداث وبكل موضوعية وجرأة، ولعل الأزمة كشفت الكثير في النظام الرسمي العربي ذاك الذي ارتبط بالأجندات الخارجية وسخر كل إمكانياته لشراء استقراره وتقوقعه بعيداً عن رؤية الأمور ومعالجتها وإحداث تغيير فعلي في مؤسساته وإلا فإن مسببات التغيير ستظل ماثلة إذا لم تجد العلاج الجذري المناسب، ولذلك فإن إنتشار التطرّف في ظل أوضاع تتميّز بإنسداد الأفق السياسي وارتفاع الضغوط المعيشية هو وصفة لإستمرار الحالة الراهنة في معظم البلدان العربية، والعرب اليوم بين خيارين: إما بناء مجتمعات مفتوحة تتحاور في العلن وتتحدث وتنتقد وتمارس السياسة وتخضع أنظمتها لمبادئ فصل السلطات وللمساءلة والمحاسبة والنقد والإنتخابات الدورية، وإما بناء مجتمعات مغلقة يسودها الخوف والقمع، فعلنية الأفكار وعلنية المعارضة أفضل من سريّتها.
وفي أجواء الخوف والرعب التي لفّت العالم العربي، يحاول البعض أن يروّج لنهاية العرب أو موتهم السريري ويحزم بأنهم وصلوا الى حافة الهاوية، مثل هذا الوصف يصب في صالح أعداء العروبة، وهو يأتي بالتوازي مع تفاقم الأخطار وتحول الأزمات الى حروب غبية، والخلافات الشرسة الى قتال وحشي ودمار شامل.
وفي هذا الزمن الصعب تتكرّر التساؤلات لمصلحة مَن يتم إذكاء النيران؟ وأين المبادرات العربية وأين أصحاب القرار في العالم العربي؟ ألم يستوعبوا أهمية المبادرات ومفاعيلها الإنقاذية، والسؤال الى متى تراهن الدول الكبرى على بقاء مصالحها في أمان؟ وهي التي لم تنتهز الفرصة لإحلال الأمن والسلام وهي في ذلك تتساوى مع “إسرائيل” وتذعن لمصالح الكيان الذي يعمل لمحاصرتها بكل الوسائل والأساليب وبشتى أشكال التآمر والخبث الصهيوني، بهدف نسف أي أمل في إطفاء الحرائق ووقف الدمار، ونتيجة لذلك تواصلت الكارثة وتندلع نيران حروب عربية تستخدم الأدوات المحلية التي ساوت نفسها بالإرهاب، وتوفر الذرائع لـ “إسرائيل” لتشن مزيداً من الحروب ضد الشعب الفلسطيني.
لقد وصلت سكاكين الأجرام الى الحناجر بعدما تسلل التطرّف الى الصفوف وانتشر الإرهاب الذي شوّه مطالب الشعوب وأمعن في القتل والتشريد والسبي وقطع رؤوس الأبرياء.
منذ بداية الأحداث في المنطقة عام 2011، ظهر جلياً بان العرب وقضاياهم في دائرة الخطر الداهم، وبأن هناك مخطط متكامل قد بدأ فعلاً وأهدافه كبيرة، توالت الأحداث من خلال إيقاع منتظم وضع المنطقة تحت تهديدات متزايدة ومتتالية، وكأن الهدف استدعاء قوى أجنبية خارجية ومهما بلغت الأثمان والشروط بعضها علني والآخر خفي وفي محصلتها هناك هدف سقوط المنطقة تحت الهيمنة الأميركية ونهب ثروات ومقدرات الدول العربية، وكل ذلك تحت شعار أن أمن العالم لا يتجزأ وأن ما يحدث هنا يؤثر هناك، أي اختلاق الأسباب واستثمار الأزمة ونهب ثروات المنطقة وقيمتها الاستراتيجية وإضعاف الكيانات القائمة وتأمين أمن الكيان الصهيوني.
ونعود الى التاريخ القريب وما تحدثت به كونداليزا رايس عن “الفوضى الخلاقة”، وأفكار مَن سبقها، هنري كسينجر عن “الغموض البناء”، وبالعودة الى سياسات الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة وخصوصاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومجيء الرئيس الأميركي “إيزنهاور” بنظرية “الفراغ” في الشرق الأوسط والتي يسعى الى تطبيقها وزير خارجيته “جون فوستر دالاس” ندرك مدى الإهتمام الأميركي بهذه المنطقة والدخول إليها لورثة الإستعمارين البريطاني والفرنسي.
والسؤال المتعلق بتطورات الأحداث في المنطقة، كيف ولد تنظيم “داعش” بهذه السرعة وظهر تحت سمع وبصر أجهزة الإستخبارات الغربية التي تزعم أنها تكافح الإرهاب، بينما هي في الحقيقة التي صنعته، وتبدو كمن يحضر “المسرحية” بشكل كامل فصولها ومشاهدها وريعها، ويدفع أبناء أمتنا العربية والإسلامية الفاتورة في كل مرة دماء وأموالاً ونفطاً وقواعد أجنبية جديدة، وحالة من عدم الإستقرار ومواجهات تبدأ ولا تنتهي.
ولعل الجديد المؤكّد الذي تثبته الحقائق الدامغة هو صناعتهم لـ “داعش” وهي وبراءة اختراعهم الحصرية، للمخطط الخبيث لتجزئة الدول العربية وتفكيك أوصالها وترويع شعوبها وتشويه متعمّد للدين الإسلامي.
هذا الإرهاب الذي يطل على العالمين العربي والإسلامي، يأتي هذه المرة لإسقاط نظم الحكم القائمة وأركانها وتكريس التعصب بأنواعه القاتلة وتصدير الخوف للأقليات الدينية والعرقية ايضاً، وذهب المخططون بعيداً في استثمارهم لما جرى من أحداث محدودة، كانت تتحدث عن قضايا إجتماعية وإقتصادية ومكافحة الفساد، وجرى استغلالها لخدمة أهداف أخرى وتنفيذ مخططات مبيتة، استغل أصحابها ظروف الأوطان، وليس صدفة ما حدث خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً في مناطق الوطن العربي.
ووصول “الإخوان المسلمين” الى حكم مصر وسقوطهم السريع، له دلالاته البالغة، وفي جانبه الآخر يعني سقوط لمشروع عثماني جديد، ضربته الملايين في مصر العروبة في الثلاثين من حزيران العام 2013، وسقطت المخططات والمشاريع تباعاً، ولكن الملاحظ أيضاً، أن سقوط مخطط يهدف الى ضرب الإستقرار في المنطقة إلا ويتبعه مشروع آخر يستهدف البلاد في مكان آخر، والهدف من وراء ذلك إحكام القبضة على الدول العربية وتوجيه الخيارات الوطنية لخدمة أهداف بعيدة من المصالح العليا لشعوب المنطقة.
ويتطلّع المواطن العربي الى مصر من جديد، الى دورها الذي يمثل أهمية خاصة بين دول المنطقة، وثبت من خلال الوقائع، أن تراجع هذا الدور بعد “كامب ديفيد”، قد أدّى الى تداعيات سلبية خطيرة على المنطقة كلّها وأحدث تغييرات جذرية وحروباً جديدة سمحت للعدو الصهيوني في توجيه ضربات موجعة للقضية الفلسطينية قادتها الى مسار من مفاوضات لا تنتهي والهدف إطالة أمد التفاوض في محاولة لكسب الوقت وخلق وقائع جديدة.
إن إنتشار التطرف وتمدد الإرهاب وامتلاكه أحدث أنواع الأسلحة والأموال، هو مؤشر خطير لما قد يحدث من تطورات جديدة، لا نهايات لها سوى الدمار أو التقسيمات ونتائجه الوخيمة على دول المنطقة بأسرها، وكذلك إن توافد آلاف الإرهابيين الأجانب من شتى بقاع الأرض حول المنطقة الى ساحة حرب دولية بعد حصول الإرهابيين على الدعم المالي والعسكري الكبير، وما نجم من دخول “التحالف الدولي – الغربي” عبر غارات لم تحقق حتى الآن سوى بعض التقدم لأسباب ضمنية ستفصح عنها الأحداث.
والسؤال، كيف الخروج من هذه الحالة النازفة في جسد الأمة العربية؟ وما دور المواطن العربي؟ هل يرضى باستمرار الحالة الراهنة وما ستقود إليه؟
الدمار والخراب يجري بتسارع كبير وهناك مَن يساهم عن قصد أو غير قصد في تسعير النيران التي تأتي على كل شيء.
المعركة أصبحت معركة وجود أو لا وجود، وربما تقود الى ما هو أسوأ بكثير، فهل دخلت البلاد في عهد جديد من العصور الظلامية الى حين؟.
ورغم ذلك يبقى الأمل في شرفاء الأمة، أولئك الذين يقبضون على الجمر ولا يفرطون بقضايا أمتهم، يقدمون التضحيات والدماء الزكية الطاهرة من أجل كرامتهم وعزة أوطانهم.
هل نتعلّم الدرس من واقع خطير وصعب ينذر بكارثة…