في توصيف الإرهاب لا يمكن اختزال مضامينه وهي تتغيّر حسب الأنماط التي تناسب كل مرحلة، وهناك نوع من التعمية حول مفهوم الإرهاب، الذي قد يأتي على شكل “ثورة” كما حاولت الدول الإستعمارية تسويقه خلال الأحداث التي امتدّت منذ عام 2011 وحتى اللحظة الراهنة، هذا لا ينفي الحاجة الى التغيير نحو الأفضل واستعادة الإستقلال الحقيقي لعدد من الدول العربية التي راهنت على الجانب الأميركي والغربي في إيجاد تسوية في المنطقة، تحفظ للأنظمة المرتهنة ماء الوجه أمام شعوبها، تلك التي وقعت أسيرة المعاهدات وتراجع دورها الإقليمي والمحلي بشكل تدريجي الى أن فقدت صلاحيتها أمام شعوبها، وكان لا بد من الثورة الحقيقية لإعادة قرارها والتحكّم بمواردها وموقعها ودورها.
ولا بد من الجزم بأن الثورات الحقيقية يستحيل أن تنجح بأسلوب “تسليم المفتاح” بدعم من قوى خارجية، ومثل هذا الفعل لا يستقيم مع واقع الحال ولا مع منطق الأشياء، وبالتأكيد فالقوى الخارجية لا تريد إلا مصالحها فقط، ولا يصح أن يتصور أحد أنها بعد المصالح تريد تحرير الشعب من احتلال أو تحقيق تنمية أو تعزيز إستقلاله.
المشروع الغربي وهو أميركي – أوروبي، يزحف على خطين وبحركة كماشة على الجناحين تطوق وتحاصر، والخط الأول هو خط الفتنة وهو مرئي ومسموع ومحسوس وهدفه إغراق المنطقة في صراع طويل وهو مبني على خطط ومراحل، وقد بدأ يزحف منذ عدة سنوات وعنوانه “صراع إسلامي – إسلامي”.
والخط الثاني هو الخط الموازي لخط الفتنة، والذي يزحف بسرعة لافتة حتى يسبق غيره والمتمثّل بتقسيم المنطقة على طريقة “سايكس – بيكو” مع تعديل تقتضيه المتغيّرات والوقائع الجديدة.
والخرائط الجديدة لا توزع إرث الخلافة العثمانية كما فعلت قوى الإستعمار آنذاك، ولكنها تترك بعض الأدوار للعثمانيين الجدد تبعاً للوقائع الجديدة، من هنا نلاحظ إلحاح “رجب طيب أردوغان تركيا” على التحالف الغربي الأميركي للحصول على منطقة “عازلة أو آمنة” أي اقتطاع جزء من الأراضي السورية على طول الشريط الحدودي تصلح لأن تكون حصته المفترضة.
لكن هذه الحسابات سقطت بفضل صمود سوريا ومعها محور المقاومة وما شكّله من قوة ردع فاعلة في مواجهة مثل تلك المشاريع، يضاف الى ذلك فشل المشروع “الإخواني” في المنطقة الى غير رجعة.
والخرائط الجديدة تبغي توزيع إرث المشروع القومي العربي الذي تمكّن من طرد الإستعمار الغربي في مرحلة سابقة وحاول أن يملأ الفراغ ولكن تمّ محاربته واستنزاف قدراته خلال سلسلة من الحروب والأزمات ومن خلال الدور الوظيفي الذي أوكل للكيان الصهيوني كحارس لمصالح الدول الإستعمارية ومعول هدم في جسد الأمة العربية ومانعاً لنهضتها والدور المكمل للقوى الرجعية العربية التي ارتبطت بنيوياً بالمشروع الإستعماري الغربي مفضلة مصالحها الآنية الضيقة على حساب قضايا الأمة بأسرها.
“سايكس – بيكو” الأولى، كانت خطاً على خريطة تصل بين عكا وكركوك وساهمت في نشوء الكيان الصهيوني مع ما رافق ذلك من إرهاب الدول وعصابات القتل المبرمج.
هذه المرة ليس هناك خطاً فاصلاً، وإنما هناك مواقع متناثرة، والتقسيم في المرة الأولى كان جغرافياً وتوزيع أوطان، ولكن التقسيم هذه المرة هو تقسيم موارد ومواقع، وبوضوح ما يجري تقسيمه الآن هو أولاً النفط وفوائضه، مثلما حصل في ليبيا والعراق.
وتطبيق “سايكس – بيكو” الجديدة هو الإرهاب الذي تمثّله الدول الإستعمارية التي جرى توزيع نفط ليبيا عليها بموجب إمتيازات مفروضة ومن خلال نسب أذيعت على الملأ (لفرنسا 30 % “لشركة توتال”، و20 % لبريطانيا “شركة بريتش بتروليم”) أي الحصة الأقل لأنها أخذت الكثير من نفط العراق، وإيطاليا طالبت بحق مكتسب والشركات الأميركية تلح على دخول قائمة الوارثين.
وتمّ تخصيص المواقع من خلال قاعدة للأسطول السادس الأميركي في طرابلس ومركز مخابراتي في بنغازي، وطبرق لبريطانيا، وإيطاليا تحتج بأنها تاريخياً تعتبر ليبيا منطقة نفوذ لها، وكل هذا وصوت المعارك لا يزال يدوي، وسيل الدماء لا يزال يتدفق.
إرهاب الدول الإستعمارية بحق فلسطين وقضيتها التي جمعت العرب ومثّلت محور الصراع العربي – الصهيوني عند محطة تاريخية معينة وحتى لو كان ذلك شكلاً بالنسبة للدول التي تدور في الفلك الأميركي وعملياً بالنسبة لسوريا ومصر ودول المواجهة آنذاك، في النهاية بقيت سوريا ومعها محور المقاومة وعمقه إيران، ولكن على مستوى الساحة المجتمعية، لكن الإرهاب مورس مرة أخرى لتطويع الأنظمة العربية التي ناصبت الكيان الصهيوني العداء، يحاولون تركيعها طوعاً أو كرهاً للقبول بالوجود الصهيوني والإعتراف بشرعيته، أي أن فلسطين تُذبح مرتين.
وفي ظل هذا الإرهاب يتعرّض الوطن العربي الى تمزيق وحدته الجغرافية والمجتمعية، ويجري كل ذلك تحت مظلة الغرب الأميركي وهيمنته وعربدة الكيان الصهيوني، ويعترف معظم العرب بشرعية الكيان ويفاوضونه في محاولة لإسترجاع ما يمكن إسترجاعه أو إرجاعه وكأن الغرب صاحب الحق المطلق والإرادة والهيمنة المطلقة، ولا سبيل أمام “العرب” إلا القبول.
وجاءت الحركات التي تدعي “الإسلام” أمثال “داعش” و”النصرة” وغيرها وبشكل عنيف ودموي لتعطي شرعية للنظام الرسمي العربي الذي إرتبط بعجلة القوى الغربية ولإعتبارها أهون من هذه الحركات فيما لو أتيحت لها الفرصة أو لو وصلت الى سدة الحكم وأعطت “شرعية” للكيان الصهيوني في ممارسة إرهابه، والتقى الجانبان تحت المظلة الأميركية وبمباركة منها للتصدي للإرهاب الجديد وعملية خلط للأوراق.
لا يولد الإرهاب من فراغ بل هو نتاج كل الظروف والتراكمات السلبية التي تركت بصماتها على أرض الواقع، هو نتاج الحروب والعدوان والمشاريع الإستعمارية.
ويبدو الإرهاب كعارض جديد في الدول الإستعمارية رغم أنه صنيعتها ويرتد عليها كلما سنحت له الفرصة، إنه كالوباء عابر للحدود ولا يحتاج الى إجازة مرور، وهو يستغل الدين وطهارته، وهو لا دين له في الواقع، وهو ينكر علينا كل مقدساتنا، ويُحرف ويبدع في اختلاق الذرائع والنواهي، فهو تكفيري سبيله القتل والدمار.
وفي عصر العولمة، يأخذ الإرهاب أشكالاً جديدة، ويصبح الفقر والبطالة والجوع والقهر والفساد بمثابة الناتج الفعلي لهذا العصر مع ما يرافق ذلك من أزمات إقتصادية واجتماعية وحروب لا حدود لها.
والسؤال، من جديد، ما منشأ الإرهاب ومَن المستفيد منه وكيف يتمّ تسليحه؟ وما هي أهدافه القريبة والبعيدة؟ كل هذه المفردات نجدها في قاموس الدول الإستعمارية.
الإرهاب صنيعة تلك الدول وهي المستفيدة على حساب ضحايا أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا في عصر القوى الغاشمة عدوة الشعوب.