كثيرة هي العوامل التي تؤثر في صنع قرارات السياسة الخارجية الأميركية، وهذا يعتمد على الوضع الواقعي، وعلى شخصيات صانعي القرار المختلفة وخلفياتهم ودوافعهم وتصوراتهم التي من شأنها أن تقود الى اتخاذ قرارات متغايرة بعض الشيء، وفي الصراع الفلسطيني – العربي أيضاً هناك عوامل أخرى مؤثرة في السياسة الخارجية الأميركية بشأن القضية الفلسطينية منها اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، والأسلوب الأميركي في السياسة الخارجية، وغالباً ما يقال ومن خلال التجارب والواقع، إن صناع السياسة الأميركية يحبذون مقاربة براغماتية وقصيرة الأمد لحل المشاكل في أية منطقة من المناطق في العالم، وهي مقاربة تتبنى سياسة “ردود الفعل” في شؤون السياسة الدولية، وهذا ما طبع السياسة الأميركية، وغالباً ما كانت مصحوبة بلغة تبشيرية قوية وتميل الى تبرير قرارات السياسة الخارجية وبحجج قانونية وأخلاقية وليس بالحاجات المادية أو الوطنية.
وهكذا، فإن قرارات الولايات المتحدة بشأن فلسطين غالباً ما جرى تبريرها على أساس “وجود نظام ديمقراطي في إسرائيل”، وتلعب العوامل الاقتصادية عنصراً مهماً في قرارات السياسة الخارجية، ونجد أن الأميركيين على أشد الاهتمام بتأمين موارد النفط والغاز المتوفرة في المنطقة وحرمان غيرهم منها، ووصل الأمر بهم الى إقامة قواعدهم العسكرية بالقرب من تلك الموارد وكذلك ضمان طرق نقلها.
إن سياسة أميركا نحو فلسطين، تعكس بوضوح المراحل التي اتّسم بها نشوء القضية الفلسطينية، منذ ظهورها وفي العقد الثاني من القرن الماضي، كان الفلسطينيون مع غيرهم من العرب يأملون وبعد اشتراكهم الناشط في تفكك الدولة العثمانية، أن ينتفعوا من هزيمة العثمانيين ويحققوا استقلالهم، بيد أن “بريطانيا وفرنسا” وبقية الدول الأوروبية كان لديها مخططات لإستعمار المناطق التي كان سيمارس فيها ذلك الاستقلال، والولايات المتحدة كانت أيّدت وعد بلفور ورضيت بالمخططات البريطانية – الفرنسية، وقبلت بفرض الانتداب البريطاني على فلسطين، وهذا أول انتهاك لحق تقرير مصير الشعب الفلسطيني، وقد أقرّت بنود صك الانتداب بشرعية المطلب المنادي بإنشاء “وطن قومي للشعب اليهودي” في فلسطين، أرادت الولايات المتحدة أن تستفيد من سيطرة الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد استفادت، وقدّمت الدعم المعنوي والدعم المعلوماتي للصهيونية ومطالبها.
إن سياسة أميركا تجاه القضية الفلسطينية مثيرة للدهشة، وهي مَن شبكت المسألة بالصراع العربي – الإسرائيلي، وهي بذلك أنتجت صهراً للمسألة الفلسطينية، التي أصبحت تابعة لمسألة الصراع العربي – الإسرائيلي أو الى تفكيك المسألة الفلسطينية، وقد ظهر هذا التفكك جلياً في اتفاقات كامب ديفيد 1979، ومع أن الاتفاقات ذكرت أن للفلسطينيين حقوقاً مشروعة، إنما غير محددة، فإنها دعت الى حل القضايا المتصلة بـ “الحكم الذاتي” لما يسمى بالضفة الغربية وقطاع غزة، واللاجئين وقضايا الوضع النهائي، من دون ذكر صلتها بفلسطين.
وكانت استراتيجية العدو الإسرائيلي التاريخية تولي العامل العربي الأهمية الأولى، وكانت تعمل على إقناع الأسرة الدولية بأن نزاعها في الشرق الأوسط يتصل بالدول العربية أكثر بكثير من اتصاله بالفلسطينيين، الضحايا الرئيسيين لاستعمار فلسطين، لذلك عملت الانتفاضة الفلسطينية الأولى على التركيز على أهمية مركزية البعد الفلسطيني في الصراع.
إن سياسة أميركا، قد وجهت تماماً، نحو القبول بمشروعية استراتيجية “إسرائيل” وتصورها، يضاف الى ذلك مصالح أميركا المختلفة العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية والسياسية في العالم العربي، تدفع الى الإعتقاد بمركزية عامل الدول العربية في حل القضايا المختلف عليها في الشرق الأوسط وفي ترويج سياسة خارجية معينة نحو دول المنطقة، لذلك جعلت البعد الفلسطيني في النضال تابعاً لبعد الصراع العربي – الإسرائيلي، ثمّ اختارت لاحقاً على اتّباع سياسة وكأن القضية الفلسطينية قد طُمست وأزيلت من الوجود، وعندها لجأت الى معالجة مسائل ثانوية، مثل مسألة الحكم الذاتي وتركت بعض القضايا الهامة مثل مسألة الحدود والمستوطنات واللاجئين والقدس والمياه وغيرها الى المرحلة النهائية وهي مرحلة نظرية فقط.
واتخذت الولايات المتحدة خطوات مترددة نحو سياسة شاملة بشأن المسألة الفلسطينية وتمّ هذا عندما استأنف الفلسطينيون خطابهم السياسي المستقل وتولوا من جديد دورهم المركزي الكفاحي من أجل الاستقلال.
لقد وجّهت الولايات المتحدة “وقبل إنشاء الكيان الصهيوني” ضغوطاً متواصلة في عهد الرئيس الأميركي هاري ترومان في الأربعينات الى بريطانيا لكي تجهز دخول مئة ألف مهاجر يهودي – أوروبي الى فلسطين، وهو الأمر الذي سبّب من حيث الواقع الفعلي، ثورة ديمغرافية ذات أبعاد مهمة أضرّت بأهالي فلسطين الأصليين، ولقد كان ترومان هو الذي أشرك الولايات المتحدة في ترويج أمر إنشاء اللجنة الإنجلو – أميركية، وهي اللجنة التي أيّدت حق المهاجرين اليهود الأوروبيين في الاستيطان في فلسطين بدلاً من الولايات المتحدة، وكانت إدارة ترومان هي التي ضغطّت على الدول التابعة لأميركا لتأييد توصية الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 بتقسيم فلسطين، وبذلك ساعدت الى حد كبير على إضفاء الاهتمام العالمي على مسعى إقامة الدولة اليهودية، وكان الرئيس الأميركي ترومان هو الذي اعترف بـ “دولة إسرائيل” ولم يمر على إعلان قيامها سوى خمس عشر دقيقة.
ومنذ نكبة فلسطين 1948 وتقطيع أوصال فلسطين، اتّخذت سياسة أميركا نحو الشرق الأوسط شكلاً ثابتاً، استحوذت عليها مسألة الحرب الباردة، ورغم أن الولايات المتحدة تظهر تأييدها حق الفلسطينيين ومن الناحية النظرية إلا أن ماهية هذا الحق لم تصل الى ترجمة فعلية في ممارسات السياسة الأميركية، ورغم رعايتها قرار الأمم المتحدة رقم 194 العام 1948، إلا أنها في واقع الأمر شجّعت خططاً مختلفة تقوم على أساس الإقامة الدائمة في الدول المجاورة لأكثر من 700 لاجئ فلسطيني منذ العام 1948، وخطط التوطين وتبادل السكان (شجعت اليهود للهجرة الى إسرائيل) مقابل توطين فلسطينيين في أماكن أخرى في الدول العربية، وهذا الأمر من مسلمات السياسة الأميركية.
وهذان المبدآن المتعلقان بالولاية على الأرض وبالتخلص من سكان الأرض الأصليين قد كوّنا الأساس للسياسة الأميركية، لكن الوقائع تغيّرت جذرياً منذ ظهور منظمة التحرير في عام 1964، وما إن تنامت هذه المنظمة وصارت أكثر فاعلية، انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965 وكان ذلك إيذاناً لبداية عمل نضالي كبير أعاد القضية الفلسطينية الى واجهة الأحداث وساهم في تأكيد هوية الشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة، وعندها أصبحت منظمة التحرير هدفاً مهماً تطاله سياسة أميركا العدائية التي لم تعترف بالبرامج السياسية التي تبنتها المجالس الوطنية الفلسطينية المختلفة، والسياسة الأميركية، كانت معادية باستمرار للفلسطينيين الذين يعملون لتحقيق مطامحهم الوطنية، وهذا الموقف هو ذاته نحو شعوب العالم الثالث، وجذور العداء في الموقف الأميركي نحو حركات التحرر الوطني.
وهناك تطورات كبيرة حصلت في المنطقة، جعلت الجانب الأميركي يقبل بالمبادرات الرامية الى إيجاد حل ما للقضية الفلسطينية، حيث فرضت التطورات إيقاعاً جديداً، منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى والتأييد العالمي للفلسطينيين وخاصة بعد حرب الخليج الأولى وتحولات في المنطقة من منطقة تتحدى الهيمنة الأميركية الى منطقة خضوع تام، مع ما ترافق من إعادة هيكلة النظام الدولي الذي بدأ بانهيار الاتحاد السوفياتي وأثره السلبي في سياسات العالم الثالث، هذه التطورات أسهمت في فرض السياسات الأميركية على عدد من الدول العربية، واستشعرت الولايات المتحدة أهمية الفرصة السانحة لفرض سيطرتها على المنطقة، وقام وزير الخارجية جورج شولتز، وكذلك وزير الخارجية جيمس بيكر على نحو أهم بإعادة صياغة المبادئ الأميركية الخاصة بتسوية لقضية فلسطين، وكذلك للصراع العربي – الإسرائيلي، لذا قبلت الولايات المتحدة بإجراء محادثات مع منظمة التحرير التي اعترفت بحق “إسرائيل” في الوجود واعترافها بقراري مجلس الأمن رقمي 242 و338 وكذلك على نبذ الإرهاب.
ومن ثمّ تابعت الولايات المتحدة سياستها التاريخية في إضفاء الشرعية على “إسرائيل” في المنطقة، ومنذ عام 1988 صار واضحاً أن مرحلة قد طُويت، وأخذت الولايات المتحدة تعزز مساعيها لإكمال عملية التسوية مع “إسرائيل”، وكان مؤتمر مدريد في جزئه الفلسطيني يقوم على طروحات متعددة، كعدم مشاركة منظمة التحرير إلا بوفد مشترك (أردني – فلسطيني)، وأن تدور المحادثات حول قضايا معينة، وهي احتلال “إسرائيل” الضفة الغربية وقطاع غزة، وفترة انتقالية من حكم ذاتي، وهي فكرة طُرحت أول مرة في اتفاق كامب ديفيد، واستبعاد القدس من أية مباحثات فورية، ورفض أي دور لفلسطينيي الشتات (وهم أغلبية الفلسطينيين) في تقرير أمر القضية الفلسطينية، والمغزى المهم في هذه الشروط هو عدم وجود أية إشارة الى أن فلسطين ذاتها هي التراب الوطني للشعب الفلسطيني وموطنه الطبيعي، وقد أقرّت منظمة التحرير هذه الشروط وهي شروط “مرهقة وغير عادلة”، وعلى أمل أن تتغيّر المعادلة فيما بعد.
لقد كان الأمر من مدريد الى أوسلو 1993 كارثة على الشعب الفلسطيني وقضيته، وكان من أوسلو الى القاهرة 1994 كارثة ثانية، وهكذا أصبحت منظمة التحرير أمراً واقعياً، لأن اتفاقات أوسلو – واشنطن مكّنت من إنشاء سلطة “حكم ذاتي”، وكذلك قبلت المنظمة تعريفاً جغرافياً لفلسطين شديد الغموض، يشمل ما لا يزيد على 15 % من أرض فلسطين، وصولاً الى الدخول في مسار من المفاوضات التي لم ينتج عنها شيء لصالح القضية الفلسطينية بينما استفاد العدو الإسرائيلي من فرض وقائع جديدة على الأرض تجعل هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة غير قابل للتحقيق.
وإذا كان الفلسطينيون قد اطمأنّوا الى هويتهم، فهذا الفضل يعود الى كفاح منظمة التحرير الثابت والناجح كحركة تحرير وطنية، لكن التنازلات تمّت بموافقة سياسية، وهي لم تأتِ من فراغ، وهي نتاج الوضع الرسمي العربي وتراجع دوره بعد أن راهن على الوسيط والراعي الأميركي تماماً كما فعل الرئيس المصري الراحل أنور السادات آنذاك من خلال توقيعه على اتفاق كامب ديفيد وملحقاته، الذي روّج بأن أوراق الحل في المنطقة هي بيد الولايات المتحدة التي تملك 99 % من تلك الأوراق.
نقول ما أشبه اليوم بالأمس، السياسة الأميركية منحازة لصالح “إسرائيل”، رأس حربتهم في المنطقة وحامية مصالحهم وقاعدتهم الثابتة، بينما يتبارى بعض الزعماء “العرب” في إثارة الحروب في المنطقة ويجعلون من أنفسهم مجرد أدوات في تنفيذ المشاريع الاستعمارية وعلى حساب موارد بلادهم غير عابئين من ارتدادات مثل هذه النظريات على واقع أبناء أمتهم والأخطار المحدقة بالمنطقة، لكنهم لا يتعلمون من تاريخ السياسات الاستعمارية وكم ألحقت من خسائر وعلى حساب قضايا أمتنا ومنها القضية الفلسطينية.
لميس داغر