دخلت إيران في مفاوضات مع أميركا بعد أكثر من 34 سنة من القطيعة بين البلدين، ما أحدث انقلاباً في الشرق الأوسط فرض توازنات جديدة وخريطة سياسية مختلفة. وقد أخفت الإدارة الأميركية نبأ الاتصالات عن حلفائها، رغم تعهدها في السابق بإطلاعهم على أي محادثات تجريها مع إيران. وكان أول الحلفاء الذين أحيطوا علماً بالأمر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي ثار غضبه وهاجم إيران بشدة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أما الخبراء الإيرانيون فأشاروا إلى الوقائع الآتية:
إن الاتفاق اعترف بإيران كقوة إقليمية نووية لها الحق في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية في حدود متفق عليها، كما أنه تم بأسرع مما توقعوا، لإدراكهم أن الضغوط الإسرائيلية والفرنسية لعرقلته كانت شديدة، وأن تلك الضغوط مارستها بعض الدول الخليجية من خلال بعض جماعات الضغط التي تمولها في واشنطن.
إلا أن الولايات المتحدة وازنت بين التهديدات الإسرائيلية التي لوحت فيها بأنها ستقوم من جانبها بعمل عسكري ضد إيران بدعوة حماية أمنها القومي، وبين ما يمكن أن تجنيه من فوائد جراء اتفاقها مع إيران، وأدركت خلال جولات المفاوضات الخمس أن كفة الفوائد الأخيرة أرجح، الأمر الذي جرى حسمه حين التقى في جنيف وزيرا خارجية كل من الولايات المتحدة وإيران. وكان لكاترين آشتون مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية دورها الإيجابي في إنجاح ذلك اللقاء.
ومكّن الاتفاق على تخفيف الحظر، إيران من استرداد أكثر من سبعة بلايين دولار من الولايات المتحدة مجمدة لدى البنوك العالمية، لكن التخفيف بدأ بالإفراج عن الأموال المجمدة في البنوك الآسيوية من دون الغربية (في كوريا الجنوبية وماليزيا وأندونيسيا). وقيمتها تتجاوز 2,5 بليون دولار، وقد سارعت إيران إلى استخدام تلك الأموال في استيراد بعض احتياجاتها فور توقيع الاتفاق، كما أن بعض الشركات الغربية الكبرى التي ساهمت في المقاطعة طوال العقود الثلاثة الماضية بدأت اتصالاتها للعودة إلى العمل مرة أخرى في إيران، وكانت شركة شل العاملة في مجال استثمارات حقول النفط واحدة من أهم تلك الشركات.
هذا وارتفعت أسهم إيران في المنطقة العربية، ما سينعكس على سوريا والعراق ولبنان، مع ظهور مصلحة مشتركة جديدة بين الرياض وطهران، مفادها مواجهة “داعش” التي تهدد الطرفين، وكانت التطورات في اليمن محفزة للرياض أكثر كي تذهب إلى الحوار مع طهران، حيث استثمر حلفاء طهران الحوثيون الفراغ السلطوي المنبثق عن إطاحة الرئيس السابق علي عبد الله صالح واحتراب الحلفاء التقليديين للسعودية في ما بينهم، فزادوا من حضورهم العسكري والسياسي على المستوى اليمني العام، وليس على مستوى مناطقهم الجغرافية في الشمال فقط مع رغبتهم في الدخول إلى السلطة حيث وقّعوا اتفاق “السلم والشراكة الوطنية” مع القوى السياسية اليمنية استناداً إلى مقررات الحوار الوطني، مكّن اليمن من تجاوز محنة كبيرة كادت أن تعصف بالوطن وأحلام أبنائه. وبالمقابل تحتاج طهران إلى السعودية لمحاربة “داعش” سياسياً في العراق عبر تفعيل التناقض بين التنظيم التكفيري وحاضنته العشائرية السّنّية، التي تملك معها السعودية علاقات متشابكة، لأن الضربات العسكرية وحدها لن تكفي لهزيمة “داعش”. ومعنى ذلك أن المقابل الذي ستدفعه طهران لقاء ذلك سيكون متمثلاً في إفساح مكان أكبر للعراقيين السّنّة على طاولة السلطة المركزية في العراق، وما إزاحة نوري المالكي إلا عربون لذلك قبل بدء الحوار السعودي – الإيراني. بالمقابل تحتاج الرياض إلى طهران لمنع انهيارات أمنية أكثر في خاصرتها الجنوبية اليمن، التي تشكل صداعاً مزمناً للسعودية واستعصت على الكسر عسكرياً كما ظهر من الجولات العسكرية السابقة معها خلال الأعوام الماضية.
ولما كانت مواقف الطرفين عصية على التجسير تفاوضياً في سوريا، سيقتصر التفاهم السعودي – الإيراني التكتيكي على العراق واليمن في هذه المرحلة إلى حين تغير التوازن الصراعي في سوريا لمصلحة أي من الطرفين المتحاربين، وستظل أميركا لاعباً في الشرق الأوسط لضمان مصالحها فيه، وستلعب إيران دوراً في الترتيبات الإقليمية القادمة في المنطقة، بحكم نفوذها الممتد من العراق وحتى جنوب لبنان، وهي وضعية تناسب المصالح الأميركية الجديدة في المنطقة، أي نشوء نظام إقليمي جديد يخفف الأعباء الأمنية والعسكرية عن واشنطن. وتعي هذه الحقائق النخبة الإيرانية المتحلقة حول الرئيس روحاني، وبالتالي تتوسل الملف النووي والمفاوضات حوله لتطبيع العلاقات بأميركا، لإنهاء الحصار الاقتصادي، أولا، ولتعبئة أقصى ما يمكن من الفراغات الإقليمية التي ستتركها واشنطن خلفها في الشرق الأوسط.
وما إجراء جولة جديدة من المحادثات النووية بين وزراء خارجية إيران والدول الست، إلا نقطة تحول يمكن اعتبارها خطوة إيجابية على طريق الدبلوماسية الإيرانية، وأن مشاركة وزراء خارجية أميركا وروسيا والصين وبريطانيا وألمانيا الى جانب وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاترين آشتون، في اجتماعهم مع الوفد الإيراني، يعني أن الغرب تفهم استعداد ورغبة إيران في حل القضية النووية.
إن إيران خاضت غمار أزمة الملف النووي بهدف محدد، وإصرار جاد على امتلاك برنامج متنامٍ لتخصيب اليورانيوم، دون الإعلان عن سقف محدد لهذا البرنامج، وقد استخدمت إيران العديد من الآليات في إدارة الأزمة بهدف تحقيق أقصى مكاسب ممكنة على المستويات السياسية والتكنولوجية والعسكرية حيث تمكنت إيران من مواجهة الولايات المتحدة الأميركية قائدة النظام العالمي الجديد، واتخاذ آليات التصعيد والتهدئة للمحافظة على خطها الثابت لتأكيد تحقيق برنامجها النووي، ومن ثم فقد تمكنت من احتلال مساحة إعلامية عريضة، وحشد رأي عام مؤيد لها، خاصة في الدول غير المؤيدة للسياسة الأميركية.
كما حققت إيران خلال إدارتها للأزمة العديد من التحالفات، ما أدى إلى أن تصبح المسألة الإيرانية في مقدمة الاهتمامات السياسية على مستوى العالم، وهو ما حقق لإيران التأثير في محيطها الإقليمي والعالمي.
وفي هذا المجال أيضاً فإن إيران عملت على توسيع دائرة نفوذها في منطقة الشرق الأوسط من أجل حصار “إسرائيل” وتهديدها باستقطاب حلفائها في لبنان وفلسطين وسوريا، وإمدادهم بالسلاح والمساعدات المالية، إلى جانب محاولة استقطاب الدول الفاعلة في المنطقة لتحييد انضمامها للمعسكر الأميركي، ومن ثم فقد زاد النفوذ الإيراني في المنطقة، وبذلك نجحت إيران في استخدام سياسة النفس الطويل في معالجة أزمة ملفها النووي، وقد أدت هذه السياسة إلى تحقيق إيران لمستوى متقدم في تخصيب اليورانيوم.
وكانت إيران والدول الغربية وقعت في تشرين الثاني (2013)، بجنيف، اتفاقًا مرحليًّا يلزم طهران بالحد من تخصيب اليورانيوم (20%)، مقابل رفع جزئي للعقوبات، محددًا يوم 20 تموز 2014، حدًّا أقصى للتوصل إلى اتفاق شامل بهذا الشأن. وتسعى الدول الغربية للضغط على إيران للحدّ من برنامجها النووي لحرمانها من أي قدرة على إنتاج قنابل نووية مقابل رفع العقوبات الدولية، فيما تؤكد طهران على أن برنامجها النووي سلميّ. ومنذ بداية العام الجاري عقدت إيران ومجموعة 5+1 ست جولات من المفاوضات.
حدد الاتفاق بين إيران ومجموعة دول 5+1، مع انتهاء الجولة السادسة من المفاوضات النووية في فيينا، موعد استئناف جولات التفاوض في 16 أيلول 2014 لغاية 24 تشرين الثاني من العام نفسه، وهي المهلة القصوى الجديدة لتوصل الطرفين إلى اتفاق نهائي حول البرنامج النووي الإيراني. غير أن الأيام الفاصلة عن الجولة الجديدة لا تنبئ بتغيرات في مسار المحادثات، أو بأمل في إرساء التفاهم التاريخي قريباً.
في الجانب الإيراني، لا تزال طهران متمسكة بعدم تنازلها عن حقوقها، وعن رفع العقوبات التي فرضها الغرب، شرطاً لإبرام أي اتفاق معه. وقد دعا وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مجموعة الدول الـ 5+1 إلى تنفيذ التزامها بإلغاء الحظر المفروض على بلاده “عبر آليات مجلس الأمن”.
واُستأنفت المباحثات بين إيران والدول الكبرى إذ سيحاول الجانبان التوصل بحلول 24 تشرين الثاني الى اتفاق شامل يضمن الطابع السلمي للبرنامج الإيراني مقابل رفع العقوبات الدولية.
إلا أن الولايات المتحدة عادت وفرضت عقوبات جديدة على أكثر من 25 شركة ومؤسسة وكذلك على أفراد متهمين بأنهم يعملون لصالح البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل ودعم “الإرهاب” بهدف “إبقاء الضغط” على الجمهورية الإسلامية، ما عمّق بشكل إضافي انعدام الثقة بين البلدين إلا أن الرئيس روحاني أكّد رغبته في مواصلة المفاوضات مع القوى الكبرى حول الملف النووي.
وكان خيار تمديد المفاوضات بين إيران ومجموعة 5+1 حتى 24 تشرين الثاني 2014 هو الخيار الأكثر واقعية، ذلك بالنظر إلى القضايا الخلافية بين الجانبين، والتي سيطرت على جولات المفاوضات التي عُقدت طوال الفترة الماضية.
ويُعد التمديد انعكاسًا لرغبة كل من إيران ومجموعة 5+1 لتجنب التوصل إلى نقطة جمود، لا سيما أن القضايا الخلافية بين الجانبين، تمس من ناحية متطلبات الحد الأدنى بالنسبة لإيران، ومن ناحية أخرى، الموافقة عليها من الجانب الأميركي ومن ثم باقي الدول المشاركة في المفاوضات تتطلب ضمان عدم امتلاك إيران القدرة على الانطلاق، وهي تتعلق تحديدًا بالحاجات العملية لإيران فيما يتعلق بعدد المفاعلات النووية وأجهزة الطرد المركزي، فوفق تصريح آية الله علي خامنئي، تحتاج إيران إلى 190 ألف جهاز طرد مركزي لتلبية احتياجاتها من الطاقة خلال الفترة المقبلة، وذلك إلى جانب إجراءات الرقابة والشفافية، ومدى استقلال دورة الوقود في مفاعلات إيران النووية.
فمن ناحية، نصت خطةُ العمل على 31 التزامًا على إيران الوفاء بها طوال فترة تنفيذ الاتفاق المرحلي، وهي 20 كانون الأول 2014 – 20 تموز 2014، واستنادًا لتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التزمت إيران بالوفاء بها جميعًا، وهي تشمل وقف التخصيب عند نسبة 20%، والالتزام بالتخصيب عند 5%، ووقف شبكة المفاعلات التي تستخدمها للتخصيب عند نسبة 20%، كما انتهت في 20 كانون الأول 2014 من تخفيف نصف مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 20% بما لا يتجاوز 20%، وواصلت أنشطة البحث والتخصيب التي لا تهدف إلى تخزين مزيد من اليورانيوم المخصب. ووفق تقرير الوكالة، استمرت إيران في أنشطتها البحثية في مفاعل فوردو.
واستنادًا لتقارير الوكالة، التزمت إيران بحلول 20 نيسان 2014، بتوفير معلومات للوكالة الدولية حول 15 نشاطًا تقوم بها، منها ما يتعلق بمناجم اليورانيوم والمفاعلات التي يتم استخدامها في التخصيب. كما لا تزال إيران في مرحلة إكمال التزامها بتحويل نصف مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 20% إلى بودر، وذلك إلى جانب التزامها بتجنب القيام بـ 11 نشاطًا، منها تجنب إنتاج مزيد من الوقود النووي، وتجنب تطوير مفاعل آراك.
وفي المقابل، التزمت مجموعة 5+1 برفع الحظر المفروض على تأمين ناقلات النفط، وبالسماح لإيران بالحصول على ما قيمته 4.2 مليارات دولار من أموالها المجمدة في الخارج، وفق جدول زمني يمتد من 1 شباط 2014 حتى 20 تموز 2014. كما التزمت الولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة على إيران في قطاع الذهب، والمعادن، وصناعة السيارات، وتصدير قطع غيار الطائرات إلى طهران، ورفع العقوبات الأوروبية عن قطاع البتروكيماويات.
كما تم إنشاءُ قناة تسمح بتحويل الأموال اللازمة لاستيراد احتياجاتها من الغذاء والدواء، ودفع رسوم الطلبة في الخارج، ورفع سقف التحويلات المالية المسموح بها وغير الخاضعة للعقوبات. والتزمت المجموعة أيضًا بتجنب فرض عقوبات جديدة على إيران من خلال الأمم المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي، أو الولايات المتحدة.
ومن ناحية ثانية، تُعد هذه المفاوضات وما ينفذ في إطارها من خطوات، بمثابة إجراءات لإعادة بناء الثقة بين الطرفين، وهي تمهد لتغير الصور السائدة عن إيران لدى دوائر صنع القرار في واشنطن، على نحو يعزز مكانة إيران في الإقليم، وأهليتها كشريك للولايات المتحدة في إدارة شؤون المنطقة، لا سيما في القضايا التي يُعد دورها فيها حيويًّا ولا يمكن تجاوزه، على نحو يضمن إعادة تموضعها كقوة إقليمية رئيسية معترف بها في الشرق الأوسط، وهو تحول يثير قلق دول الخليج بصورة رئيسية.
ولعل التداعيات السياسية لهذا الاتفاق كانت سببًا في وجود تيار بين الدوائر الأكاديمية ودوائر صنع القرار في المنطقة، يؤكد أن المفاوضات بين إيران والغرب ليست مفاوضات تقنية فقط خاصة بالجانب النووي، وإنما يمكن أن يطرح فيها أيضًا “قضايا غير نووية”، ستؤثر بصورة كبيرة على دور إيران الإقليمي، وكان تصريح الرئيس الإيراني حسن روحاني الخاص بإمكانية التعاون مع واشنطن في العراق بعد بدء المواجهات بين تنظيم داعش والقوات العراقية في 11 حزيران 2014، مؤشرًا على ذلك.
ومن المتوقع أن تُثار هذه القضايا غير النووية خلال الفترة المقبلة، حتى وإن لم يتضمن الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه أي التزامات خاصة بها، حيث ستكون هذه القضايا بمثابة المحفز للاستمرار في المفاوضات والتوصل للاتفاق النهائي بحلول تشرين الثاني 2014، وهي تحديدًا القضايا التي تُعد إيران طرفًا رئيسيًّا فيها، ولا يمكن تجاهل دورها مثل العراق وسوريا، حيث لا يمكن عزل التقدم في المفاوضات النووية عن التطورات الأمنية والسياسية التي تشهدها المنطقة، والتي من المتوقع أن تدعم التوصل إلى اتفاق شامل مع إيران، لا سيما أن تأثير إيران على هذه التطورات لا يمكن إغفاله.
وفي إطار الاتفاق المرحلي الذي بدأ تطبيقه في 20 كانون الثاني 2013 وافقت إيران على الحد من انشطتها لبناء مفاعل اراك. والتزمت بعدم إضافة أجهزة طرد مركزي جديدة أو جيل جديد منها في منشآت تخصيب اليورانيوم. ولكن باستطاعة إيران مواصلة نشاطاتها في البحث والتطوير.
وفي هذا الصدد أكّد صالحي أن إيران أجرت تجارب تقنية على جيل جديد من أجهزة الطرد المركزي، في وقت تطالب به الولايات المتحدة والدول الأوروبية إيران بتخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي لديها، الأمر الذي ترفضه طهران.
إثر اتفاق جنيف النووي، وجدت القوی الإقليمية المناوئة لإيران نفسها أمام تحدٍ حقيقي يرمي الى شبه تعزيز دور إيران الإقليمي، ووزن واشنطن راجح في الشرق الأوسط، وإبرام اتفاق شامل مع طهران يقوض نفوذ الجبهة الإقليمية المناوئة لها، لأن الاتفاق أتاح لإيران مجالاً أوسع للمشاركة في حل الأزمات الإقليمية، فساهم التعاون الإيراني – الروسي على نزع السلاح الكمياوي السوري في استبعاد الحرب علی سوريا من جهة، وتصدّع الجبهة الأخرى، من جهة أخرى.
وفي الأزمة العراقية، أدى التقارب الإيراني – العراقي الى مواجهة التكفيريين والسلفيين، بينما في الأزمة الأفغانية، برزت حاجة أميركا الى سحب قواتها من الأراضي الأفغانية، وإيران مؤهلة لأداء دور في مواجهة المتطرفين والمتشددين في باكستان وأفغانستان.
ويندرج الدور الإيراني الإقليمي في سياقين: الموقع الجغرافي الذي يتصل بالنظام الأمني والسياسي في المنطقة، والهوية الإيديولوجية، والتزام إيران الاعتدال يرسي فضاءات أمنية وسياسية وأيديولوجية ويقوي دور أصدقائها ويحقق مصالحهم. وعليه، يجب أن ننظر الی الاتفاق من زاوية دخول إيران في مفاوضات مع دولة كبری. وهذه الدولة تسعى من غير شك، وراء مصالحها. لكننا نحاول تقليل أخطار السعي الأميركي هذا علی المصالح الإيرانية والإجماع الداخلي الإيراني على المفاوضات ضروري، علی رغم أن القلق من نتائجه لم يتبدد.
وفي مجال التقييم الموضوعي لمعادلة الربح والخسارة، يمكن القول أن إيران حققت ما يلي:
أولاً: أن الغرب أقر ولأول مرة بحق إيران، في تخصيب اليورانيوم بنسبة 5% على أراضيها وداخل مفاعلاتها المتعددة، حيث أسقط الغرب شرطه القديم بعدم السماح لإيران بهذا الحق، وفي الذاكرة شروط دول الغرب، بنقل اليورانيوم إلى الخارج لتخصيبه في مفاعلات نووية فرنسية وغيرها.
ولا يغير من واقع هذه الحقيقة، تصريح وزير الخارجية الأميركي جون كيري “بأن الاتفاق لا ينص على هذا الحق” إذ أن النص الوارد في الاتفاق يقول: “تتعهد إيران بعدم تخصيب اليورانيوم بنسبة تتجاوز لـ “5%” لمدة ستة شهور “ما يعني موافقة مجموعة الـ 5+1 على حق إيران في نسبة تخصيب الـ “5%” في مفاعلاتها.
صحيح أن إيران قبلت بخفض نسبة التخصيب من 20% إلى 5% ما يعتبره الغرب إنجازاً، لكن هذا الإنجاز لا قيمة له، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن إيران وفق تصريحات قادتها المتتالية منذ أكثر من عشر سنوات، بأن برنامجها خاص بالأغراض السلمية المدنية.
وحسب العديد من المراقبين المقربين من دائرة صنع القرار في إيران، فإن لجوء إيران إلى التخصيب بنسبة 20%، كان في سياق تكتيكي، حتى تبدو وكأنها قدمت الكثير الكثير عندما تتنازل عن هذه النسبة إلى 5%، وهي النسبة التي تريدها للأغراض السلمية..
ثانياً: أن المفاوض الإيراني، أفشل الشرط الغربي القائل بنقل كمية اليورانيوم الإيراني المخصب بنسبة 20% (186 كيلو غرام)، إلى الخارج وتحييده، وفرض على المفاوضين الغربيين القبول بما طرحه “بأن يتم أكسدة جزء منه بنسبة 20% ليصبح مخصباً بنسبة 5%، وأن يتم تحويل جزء آخر إلى وقود نووي يستخدم في بقية المفاعلات النووية القائمة.
ثالثاً: صحيح أن الاتفاق، نص على عدم إنتاج أجهزة طرد مركزية جديدة، لكنه لم ينص على عدم تدمير أي من الموجود لديها، علماً أن إيران كانت تمتلك فقط 300 جهاز طرد مركزي، وبحوزتها الآن 19 ألف جهاز طرد مركزي، وهي بالتالي في سياق الأغراض السلمية لبرنامجها، يكون لديها فائض من أجهزة الطرد المركزية.
رابعاً: صحيح أن الاتفاق نص على تجميد أنشطة مفاعل “أراك”، لكنه ضمن عمل بقية المفاعلات “نطز، وفوردو في حدود نسبة التخصيب المتفق عليها 5%.
خامساً: ضمنت إيران بقاء جميع مفاعلاتها النووية، وأفشلت مطالب الغرب بتفكيك أي من هذه المنشآت بما فيها مفاعل “أراك”، حيث لم ينص الاتفاق على هدم أي من هذه المنشآت.
لا شك في أن اتّفاق الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن إلى جانب ألمانيا (مجموعة 5+1) مع إيران حول البرنامج النووي، كسر العزلة التي فُرضت على طهران، في حين أثار مخاوف إقليمية، خصوصاً لدى الدول العربية، خشية أن يدفع بالجمهورية الإسلامية إلى توسيع نفوذها في المنطقة على حساب المصالح العربية، على أن الاتّفاق يحقّق مكاسب للطرفين، فهو يرفع العقوبات عن إيران، كما أنه يوقف، ولو موقّتاً، عملية تخصيب اليورانيوم التي تثير قلق الغرب. لكن ماذا عن مستقبل الشرق الأوسط والعلاقات العربية ـ الإيرانية بعد الاتّفاق؟
في ذلك، يؤكّد اتّفاق جنيف حقيقة أنه لا توجد في العلاقات الدولية صداقات أو عداوات دائمة وإنما مصالح دائمة، وأن السياسة الخارجية للدول لم تعد تحدّد وفاقاً لاعتبارات الأيديولوجيا، كما كان إبّان الحرب الباردة، وإنما ترسم بما تحقّقه من مكاسب وخسائر، الأمر الذي ينطبق على اتّفاق جنيف الأخير، حيث أن كلاًّ من أطراف الصفقة قد حقّق بعض المكاسب وبعض الخسائر أيضاً.
لقد دخلت العلاقات الإيرانية ــ الأميركية مرحلة التحوّلات الكبرى. مجرد انتقال مفاوضات 5+1 النووية مع إيران الى مرحلة التفاوض المباشر على مستوى اللقاءات الى وزيري الخارجية يعني أن المنطقة أمام إعادة رسم تحالفات جديدة وأدوار جديدة ستظهر انعكاساتها قريباً على أكثر من ملف، في مقدمها ملفا سوريا والعراق، أما على مستوى الإقليم، فقد أصبحت إيران الدولة الأكثر أهمية بالنسبة لأميركا والغرب في مواجهة الإرهاب. وتستطيع إيران وأميركا الاتفاق على أدوارهما في منطقة شرق آسيا. والبعض يتحدث عن احتمال أن تصبح إيران مركز الثقل الأبرز بعد الشرق الأوسط، خصوصاً بعد أن تتخلى أميركا عن النفط الخليجي ابتداء من عام 2018.
المفاوضات بين إيران والدول الكبرى للتوصل الى اتفاق شامل ونهائي ستتواصل، وستكون شاقة وصعبة ومعقدة لعدة أمور من أهمها أن كل دولة من الدول الكبرى لها مطالبها وأجندتها، وبالتالي من الصعب تلبية كل هذه المطالب في اتفاق واحد، إضافة الى أن العامل الإسرائيلي سيكون معرقلاً، لأن بعض الدول ستنظر الى “مصلحة إسرائيل الأمنية” أكثر من اهتمامها بالسلم العالمي.
لكن إيران التي قدّمت كل ما يلزم من أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة، أثبتت ومن خلال جولات التفاوض أنها قادرة على انتزاع كل حقوقها النووية وعجز الآخرون في إيجاد أي ثغرة للإلتفاف على ما تمّ الاتفاق عليه، وإيران نجحت في تعزيز مكانتها ودورها الإقليمي والدولي وأسقطت جميع المحاولات الرامية الى ثنيها عن تحقيق مطالبها وأفشلت جميع العقوبات الاقتصادية والمالية والتي تمّ اتخاذها من قبل أميركا ومَن يدور في فلكها، وما على دول 5+1 إلا الانصياع للحق والعدل، إيران ماضية وبقوة وتملك من الإمكانيات المتاحة ما يؤهلها لتكون رقماً صعباً في المعادلة الدولية والإقليمية.
إعداد: ليديا أبودرغم