بعد الاستفاقة الدولية المتأخرة لخطر “داعش” والمجموعات الإرهابية المسلحة يتساءل بعض المراقبين: لماذا صمتت تلك الدول وتورّط بعضها في تمويل وتدريب وتهريب الجماعات المسلحة الى العراق وسوريا؟ ولماذا يكرّر هؤلاء أخطاء الثمانينات حين ساهموا في إنشاء تنظيم “القاعدة” وتفرعاتها؟ ولكن الأهم هل ستترجم الخشية من “داعش” بمساهمة فعالة لإنقاذ مجتمعات المنطقة من الإبادة؟ أم سيقتصر الأمر على الوقوف على التل والنظر الى حرائق الشرق الأوسط في غرف واشنطن السوداء؟.
إن الصمود السوري اللبناني العراقي الإيراني، هذا المربع الاستراتيجي المقاوم والذي كشف وبكل إيمان وعزيمة خديعة المشروع المتأمرك صهيونياً، كشف خديعة “الربيع العربي” والذي اعتمد على سياسات دنيئة هدفها ضرب منظومة القيم الإنسانية وتبديد ثروات المنطقة، والهدف الأعم من ذلك نسف صورة الإسلام والعرب وشخصية الرسول محمد (صلى الله علية وسلم).
إن التطورات الميدانية على كافة الصعد المؤسساتية في الجمهورية العربية السورية من دفع عجلة الاقتصاد والحفاظ الى حد ما على المعيشة اليومية من برامج اقتصادية متكاملة وبالتزامن مع ما تحقّقه وزارة المصالحة الوطنية من إنجازات في المصالحة وعودة جموع من الكتل البشرية والإقليمية الى حضن الوطن، والانتصارات المتزامنة للجيش العربي السوري على رقعة الجغرافيا السورية، وحصول انتخابات رئاسية في سوريا، بعكس إرادة كل دول المؤامرة وانتخابات عراقية ربحت على مليارات الدولارات التي صُرفت ضد القوى السياسية المنتمية إلى محور المقاومة، ومعهما فشل كل محاولات إشعال الفتنة في لبنان، وتحصين الساحة الداخلية في إيران بعد فوز الرئيس روحاني، أتى في لحظة سياسية أرعب صُنّاع المؤامرة.
إن تنظيم “داعش” الذي برز فجأة بعد انهيار مشروع “الإخوان المسلمين” في المنطقة هو ليس مجموعة من المقاتلين القادمين من التاريخ السحيق، والذين يهاجمون للقتال بسيوف وأحصنة، وكل ما يريدونه هو قطع الرؤوس وممارسة الإجرام والقتل.
إننا إذ نراقب تلك الجماعات المسلحة وطريقة إتيانها وتصرفاتها ومدى الإهتمامات الدولية بها يمكن لنا أن نقرأ بإيجاز مدى قدرة تلك الجماعات على الاستقطاب والسيطرة على مساحات هائلة والاستمرار في المحافظة عليها والتوسع نحو مناطق أخرى، ومن جهة ثانية اللعب في العواطف الدينية ومشروعية الخلافة الإسلامية واستغلال في ذلك البعد المذهبي لكسب الدعم الاجتماعي والحاضن لهم وذلك بفرز اللون المذهبي الواحد.
وإن استخدامها آلية الترهيب بكل دقة واحترافية من نشر صور قطع الرؤوس والتنكيل بالجثث والتعذيب، وسبي النساء وقتل الأطفال ليست بدون هدف أو لإبراز وجهها البشع فحسب، بل لهدف واضح وذكي جداً، وهو إحداث الصدمة والترويع لدى الأعداء، فيفرّون من مناطقهم حالما يسمعون أن التنظيم قادم لاحتلالها، وبهذا تسيطر “داعش” على مناطق شاسعة بدون قتال..
من خلال كل ما تقدَّم، لا يبدو أن تنظيم “داعش” هو مجموعة من الإرهابيين القتلة فحسب، بل إنهم وبشكل مؤكد يرتبطون بقيادات مخابراتية محترفة تتقن التعامل مع التقنيات والدعاية السياسية والحرب النفسية ودراسة نفسيات وهواجس المسلمين، والثقافة السياسية والدينية للشعوب المسلمة في أرجاء العالم.. فمن هي هذه الاستخبارات التي تتقن كل ذلك؟ مَن هذه المخابرات التي تحاكي الواقع الاجتماعي والديني وحتى التوزع البشري وفق النفوذ المذهبي؟ ولماذا الشمال السوري والعراقي الذي تقدم ظهوره متأخراً بعد أربع سنوات من عمر “الربيع العربي” والذي يعتبر الصاعق المشغل للأزمة في الشرق الأوسط بقيادات استخباراتية ممنهجة؟.
يبدو واضحاً تسارع الأحداث فيما خلا من أيام ليست بعيدة ميدانياً ودولياً، ففي سوريا تقدم ميداني للجيش العربي السوري وفي العراق صمود للمؤسسة العسكرية والدفاعات الشعبية وأبناء العشائر وتوسع للنفوذ الإيراني الذي يحاكي المعادلة الدولية بكل قوة وثقة ونجاحات مستمرة للجيش اللبناني على كامل الرقعة الجغرافية اللبنانية وآخرها في جرود عرسال وطرد الجماعات التكفيرية منها.
فقد لوحظ تراجع في القرارات الدولية وتأكيدها على حق الدول في مكافحة الإرهاب، ولطالما أن ربيبتها “داعش” تجاوزت الحدود والأدوار المرسومة لها. لقد أدركت الإدارة الأميركية خطورة الوضع في العراق مما عجل من القرار الأميركي في التدخل العسكري غير المباشر وهي حاجة تضمن من خلالها حماية مصالحها في أربيل العراقية معتبرة أن عملها لا يحتاج الى تفويض من مجلس الأمن وهذا على ما يبدو تبلور واضح بالإتجاه الأميركي الدولي يحمل عنونةً متجددة “مكافحة الإرهاب”.
ويبقى سؤال برسم الجميع، أيُّ إرهاب سيُكافح من صانعه وهل تقتل الأم وليدها؟…
بشير حسن بدور
باحث في الشؤون السياسية