الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تونس (أواخر تشرين الأول 2014)، هي محطة هامة لها دلالاتها البالغة في مسار الحياة السياسية في تونس حيث بلغت نسبة المشاركة 60 %، وأقل ما يمكن أن يقال عنها، أنها أعادت التوازن الى المشهد السياسي وأنهت مرحلة كثُر فيها الجدل وتدني مستوى الأداء في ظل أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية، ما سمح للمعارضة التونسية أن تسقط الحكومة الثانية من خلال إجبارها على الاستقالة مطلع العام الجاري، وسقطت أيضاً تجربة حكم “الترويكا” (2011 – 2014) وإئتلاف “النهضة” مع حزبي “التكتل” و”المؤتمر”.
وثبت أن صندوق الاقتراع هو الفيصل في اختيار مَن يحكم وأن الخيار الحداثي راسخ وأصيل في البيئة التونسية وهذا له خلفياته التاريخية وتجربته الفريدة، ويعود الفضل أيضاً في النتائج الجيدة الى نظام الاقتراع النسبي الذي اتخذته تونس مطلع العام 2011، وهو نظام لم يترك منفذاً لأي حزب للاستئثار بالسلطة بغالبية مقاعد المجلس النيابي، لذلك أعادت الإنتخابات رسم الخريطة السياسية في البلاد من خلال إمكانية واعدة، تسمح بقيام تحالفات جديدة وهو ما يعتبر إنقلاب في المعادلة السياسية.
هذه الإنتخابات أسقطت النظرية الأميركية وملحقاتها التركية وغيرها، تلك التي تبنّت نظرية مختلفة تقوم على تحالف الأصوليين والليبراليين، وسقطت أيضاً خطة تقسيم المجتمع التونسي ما بين “مؤمنين وغير مؤمنين” وهي الخطة التي وضعت حركة النهضة في مركز متقدم وجرّت معها حليفين كاد أن يمحى وجودهما في الإنتخابات الأخيرة وهما حزبي “التكتل” و”المؤتمر”.
في نتائج الإنتخابات البرلمانية التونسية، حصلت حركة “نداء تونس” على أكبر حصة في البرلمان الجديد نحو 80 مقعداً، تليه حركة النهضة بأقل من 70 مقعداً، وهو ما يؤشر الى توقف تمدد الأصولية في المنطقة ونهاية تجربة الأحزاب الإسلامية المعتدلة، ويتزامن هذا التراجع في تونس مع هزيمة الجماعات المتشددة في ليبيا، تلك المرتبطة بحركة “الإخوان المسلمين” وذراعها السياسية “حزب العدالة والبناء”، وسقطت تهديدات ما يسمى “أنصار الشرعية” في تونس، التي هدّدت بإفساد الإنتخابات وهي جماعة مصنفة في خانة الإرهاب.
وأظهرت الإنتخابات قوى سياسية على الساحة التونسية مثل “الجبهة الشعبية” التي حلّت في المرتبة الثالثة، والتي تضم إئتلافاً حزبياً يجمع 12 حزباً يسارياً، وهي ستكون مقراً لـ “نداء تونس” لتشكيل إئتلاف حكومي الى جانب أحزاب علمانية مثل “آفاق تونس” و”التيار الوطني الحر”.
وحسب تصريحات زعيم حركة “نداء تونس” الباجي قايد السبسي “أن ما يجمعه والإئتلاف “الإتحاد من أجل تونس” الذي يضم ثلاثة أحزاب يسارية من يسار الوسط هم “المسار الديمقراطي الاجتماعي” و”الحزب الاشتراكي اليساري” و”حزب العمل الوطني الديمقراطي”، عقداً بالحكم الجماعي عند نجاح الحركة في الإنتخابات.
ويرى مراقبون أن صعود حركة “نداء تونس” يعود الى الإطار الذي جمعه من يساريين ونقابيين وقدرته على جذب جزء من المنتمين سابقاً للتجمع الدستوري الديمقراطي، وكذلك وجود شخصيات كاريزمية لمؤسسة السبسي، وخطابه المحافظة على النمط المجتمعي التونسي.
وما بين السبب والنتيجة، أفرزت نتائج الانتخابات التونسية مشهداً جيداً يختلف عن خريطة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي عام 2011، والمتمثل في حضور “الجبهة الشعبية” وانتقال الأحزاب السابقة الى المعارضة الى جانب اندثار أحزاب أخرى.
يبدو أن نظرة حركة “نداء تونس” قد تتخطى الملفات الداخلية، وتعلّمت من درس الجار الليبي الذي يعيش حالة تمزق بين إسلاميين وعلمانيين ليبراليين رفضوا الجلوس الى طاولة الحوار للوصول الى صيغة للحكم والتعايش المشترك، يضاف الى ذلك ما طرحه زعيم حركة “النهضة” راشد الغنوشي عن استعداد حركته للحكم مع وزراء الرئيس المخلوع بن علي، وهذا ما يراه مراقبون بأنه استعداد للحكم مع صاحب الكتلة الأكبر “نداء تونس”.
الإنتخابات البرلمانية التونسية بذلك طوت صفحة ارتبطت بما يسمى “الربيع العربي” وهي رسالة لكل المراهنين على المشاريع المتأمركة، بأن الشعب هو الأصل وبوعيه يعرف طريق خلاصه من إرث العابثين بوحدته وقد دفع التضحيات من أجل نيل حريته والعيش بكرامة.