الإنتصار الذي حققته المقاومة الفلسطينية في حرب غزة خلال الفترة من 6 تموز الى 26 آب 2014 هو انتصار كبير له دلالاته، وأثبت مدى قوة وقدرة المقاومة في إدارة المعركة رغم الفارق الهائل في موازين القوى، لكن هذا الفارق جرى تجاوزه من خلال إرادة القتال والمقاومة ووعي الشعب الفلسطيني في غزة بأن انتصاره هو انتصار للأمة بأسرها، وهذا هو السبيل الوحيد لتحقيق إنجاز هام يشكّل رافعة قوية لعملية نهوض وتحشيد قوى الشعب الفلسطيني ولخلق معادلة جديدة وقاعدة راسخة لإدارة الصراع على أسس جديدة.
لقد أثبتت معركة غزة أن المقاتل الفلسطيني أصبح أكثر استعداداً وقدرة على خوض المعارك ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي المجهّز بأحدث الأسلحة، وتمكّنت المقاومة الفلسطينية من قهر وإذلال العدو الذي طالما تباهى بقدراته الفائقة والرادعة، وأهمية انتصار غزة يأتي في سياق إقليمي ودولي بالغ التعقيد، حيث تشهد المنطقة بأسرها حروب متنقلة وبأدوات مشبوهة وبخطط دولية هدفها السيطرة على المنطقة وإعادة تقسيمها وتصفية القضية الفلسطينية دفعة واحدة.
لم تفلح آلة الحرب الإسرائيلية في فرض إرادتها على الشعب الفلسطيني في غزة رغم حجم الدمار والجريمة، وأراد العدو حسم المعركة بالقوة ولكنه اصطدم بمقاومة فرضت معادلتها على الأرض وضربت في عمق الكيان الصهيوني وأعادت أمجاد حرب تموز 2006 في لبنان التي أذهلت العدو وأصابت قوة ردعه ومنعته من تحقيق أهدافه وأقامت معادلة ردع جديدة.
أكّد الشعب الفلسطيني استعداده للتضحية وقرّر الصمود في معركة البقاء وإلتفّ حول مقاومته وأدرك أنه لم يعد أمامه سوى الانتصار في معركة مصيرية سيكون لها ما بعدها.
لكن وكما علّمتنا التجارب السابقة، أن عملية خلط الأوراق التي تجري في المنطقة ومن خلال الدول الاستعمارية هي العامل الوحيد الذي يهدّد بوأد هذا الانتصار قبل أن يستثمر، وسيحاول العدو ومَن يدعمه استغلال الثغرات بسبب ضعف العامل الرسمي العربي وإمكانية الضغط على الأطراف العربية المؤثرة في مسار الصراع وكنتاج للظروف السائدة في المنطقة العربية وحالة التمزّق والفرقة، ومحاولة الأطراف الدولية الداعمة لـ “إسرائيل” إسقاط كل الأوراق التي مكّنت الشعب الفلسطيني من تحقيق الصمود والإنتصار في حرب غزة.
إن من بين المخاوف الماثلة على المستوى الدولي، أن تسعى “إسرائيل” لإقناع الولايات المتحدة بالتحرك لاستصدار قرار من مجلس الأمن يربط ما بين تحقيق الإعمار في قطاع غزة ورفع الحصار المفروض عليه، وبين شكل من أشكال نزع سلاح المقاومة أو الإشراف الدولي على استخدامه وتفاصيل أخرى تتعلّق بافتتاح الميناء والمطار، وسيسعى العدو الإسرائيلي الى تعميق التناقض القائم بين الدول العربية، لتخريب حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وثني السلطة الفلسطينية وتخويفها من عواقب الانضمام الى الإتفاقيات الدولية، واتّخاذ إجراءات لإجهاض أي انتفاضة فلسطينية في الضفة الغربية.
وبعد انتصار غزة تغيّرت المعطيات وتجمّعت أوراق قوة جديدة وهي إن تمّ استخدامها في الإتجاه الصحيح ستضع حداً لحالة الهوان التي كانت سائدة والتي سمحت للعدو بتحقيق إنجازات على حساب حقوق الشعب الفلسطيني من خلال توسيع الاستيطان تحت غطاء التفاوض.
اليوم تملك المقاومة أوراق قوة جديدة ستمنع العدو من استغلال الحالة الراهنة في العالم العربي ووأد محاولته تصفية القضية الفلسطينية، وهذا يحتّم الحفاظ على حالة من الجاهزية العليا والاحتفاظ بكل عوامل القوة وحماية السلاح الفلسطيني وعدم الركون لأي وعود إسرائيلية، لأن المطلوب رفع كلفة الاحتلال للأراضي الفلسطينية واستخدام كل الوسائل الممكنة لدحر العدو الصهيوني عن أرض فلسطين.
نتائج حرب غزة 2014 تتطلّب من كافة القوى الفلسطينية، دراستها بعناية وأخذ الدروس والعبر، بما يرفع من شأن القضية الفلسطينية في سلم الأولويات الإقليمية والدولية وهذا يتطلّب إعادة عملية تقييم شاملة لمسيرة العمل الوطني الفلسطيني والعمل من خلال رؤية موحدة تضع في محصلتها جميع إمكانيات الشعب الفلسطيني، تمهيداً للتأثير في الواقع الرسمي العربي وانتشاله من الحالة الراهنة، واستخدام نتائج حرب غزة كرافعة للنهوض من خلال العودة بالقضية الفلسطينية الى مكان الصدارة كونها القضية المركزية لأمتنا.
هذا هو السبيل الأمثل لإستثمار الانتصار الفلسطيني في حرب غزة.