لن ينجح الحوار الوطني في لبنان مالم تسبقه خطوات تهيئ الظروف والمحاورين من أجل إنجاحه . فطاولة الحوار في بعبدا مثلاً التي عقدت لسنوات طويلة برئاسة رئيس الجمهورية ميشال سليمان لم ينتج عنها أكثر من ثرثرة المجاملات .
طرح هذه المقدمة الحذرة مرتبط بما تشهده الساحة اللبنانية من تطورات واحداث متسارعة. فهناك ارتباك في التعامل مع ملف النازحين السوريين الذين تتفاقم اعدادهم بسبب الكثير من السياسات الحكومية الخاطئة .
وهناك جنون الارهاب التكفيري ، وما يتبعه من عنف وتفجيرات واغتيالات وغيرها من الاساليب الاجرامية التي مارستها جماعات تكفيرية في لبنان باسم تطويع الآخر، وتمارسه الولايات المتحدة والغرب وبعض الانظمة العربية حالياً باسم نشر الديمقراطية في سوريا ، وستمارسه غداً “اسرائيل” وغيرها باسم مبررات كيانية أو توسعية حسب الظروف والحاجة .
وهناك جنون النظام الرأسمالي الجشع الذي أدخل اللبنانيين في دوامة الاستقطاب الحاد الظالم، بحيث تزداد الأقلية الغنية غنى وتزداد الأكثرية الفقيرة المسحوقة فقراً، شيئاً فشيئاً يتضاءل من وجود الطبقة المتوسطة التي على أكتافها بني الوطن عبر السنوات الماضية .
وهناك جنون صراعات الأديان والمذاهب والأعراق والقبائل التي ما أن تهدأ في مكان حتى تشتعل في أماكن أخرى، تؤججها أفكار اخوانية وإيديولوجية رجعية ومتطرفة ويقودها رجال سياسة ودين وعساكر وصناعة أسلحة من خلال إعلام موبوء تنقصه الكثير من المهنية والقيم . وعندنا في لبنان يتمثل هذا الصراع المجنون في مرض الانقسام الطائفي العبثي المهدد لمستقبل لبنان ووجوده، وفي الصعود المذهل للحركات التكفيرية الذين يغرسون انيابهم في دماء الأطفال والنساء والشيوخ ويحرقون الأخضر واليابس، كل ذلك باسم دين الحق والقسط والميزان والرحمة والغفران والتسامح .
هناك وهناك من هلوسة الجنون وممارسة الجنون ما يملأ المجلدات، في أغلب عالم اليوم وفي أكثر أرض بلدان الخريف العربي المستباحة المغلوبة على أمرها .
هنا نعاود الطرح الحذر للمقدمة بشكل آخر: هل أن اقطاب طاولة الحوار في بعبدا الذين يحاولون النأي بأنفسهم عن الدخول في حلقات ذلك الجنون والتخفيف من وطأته على اللبنانيين ، هل جمعهم حول طاولات الحوارات المختلفة سيؤدي إلى أكثر من حوار الطرشان الذي لن يكون أكثر من ثرثرة مجاملات وتمنيات وأحلام طفولية وانتهازية ما وراء الأقنعة؟
ما الدليل على ما نقول؟ الدليل هو أن غالبية الطاولات التي كانت تدعو للحوار بين اللبنانيين ، لم تنجح عبر السنين، ولا قيد أنملة، في منع أو تخفيف أو إيقاف او الحد من المشاكل الداخلية وبقيت أغلبية توصيات طاولات الحوار حبراً على ورق ومادة للمباهاة .
ذلك أن ما اسماه الرئيس سليمان حواراً على طاولة بعبدا لم يتعد أن يكون في أغلب الأحيان عبارة عن شعارات سياسية أو صور للعلاقات العامة أو أمنيات لبعض المتحاورين الذين يجهلون – عن قصد او غير قصد الأسباب المعقدة لمشكلات وعثرات وجنون العصر الذي نعيش، وبالتالي يعتقدون أن الحلول هي في توجيه دعوة وجلوس حول طاولة .
دعنا نكون صريحين يا فخامة الرئيس : لن تنجح الحوارات إلا بعد مواجهة ومعالجة ودحر الأفكار الرجعية والممارسات المجنونة التي تملأ أرض وسماء لبنان . بعد أن تدحر المصالح الشخصية التي وراء ذلك الجنون ويدحر أصحابها والمستفيدون منها، سيكون مفيداً عند ذاك الدخول في حوارات بين عقلاء في جمهورية عاقلة من أجل التناغم والتعاضد بين مكونات المجتمع اللبناني ،فلقد تعب معك اللبنانيون من كثرة الثرثرة وقلة الفعل.