بقدر الحزن الذي اعتصر القلوب لخبر استشهاد المغوار في الجيش اللبناني جاد البعيني ، بقدر ما كانت مشاعر الفخر والاعتزاز سائدة الأرجاء في يوم “المصالحة والتسامح “في مسقط راسه في مزرعة الشوف ، وسيسجل التاريخ اسمه في قائمة الشرفاء الذين رسموا بدمائهم عنوان المحافظة على أمن الجبل ووحدته ووحدة طائفة الموحدين الدروز.
ففي منطقة عربية تنؤ على وقع الإحترابات الداخلية ، وتئن تحت ضغط المداخلات ، وإصطراعات المحاور والقوى الدولية والإقليمية ، وشوارع عربية تتشح بالسواد والأدخنة ، والمساجلات السياسية ، والتظاهرات ، والتظاهرات المضادة ، والبيانات المتناقضة والمتنافرة التي تكفي لإشعال حروب دولية وليس حروب شوارع فقط بين أبناء البلد الواحد والشعب الواحد ،
كان “يوم المصالحة والتسامح” في مزرعة الشوف بحضور كبار مشايخ الطائفة الدرزية الذين اثنوا على رعاية وجهود رئيس حزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط ورئيس حزب التوحيد العربي الوزير وئام وهاب للمصالحة المشهود لها الامر الذي ترك ارتياحا ارتياحاً لدى كافة الشرائح الدرزية وابناء الجبل بشكل عام،، وقد وقف الموحدون الدروز صفا واحدا يتقبلون واجب التعزية بابنهم الشهيد ، ويشاركون في العزاء الذي لم يكن “بيت الضيعة” هو المكان الوحيد لذلك بل تعددت مظاهره إلى كل بيت او حي قريب أو بعيد، وهكذا هو شأن مجتمعنا، جسد واحد تجمعهم الأفراح والأتراح.
وهذه المصالحة التي جاءت على خلفية حادث حصل منذ عام وادى الى استشهاد جاد البعيني الشوف، فانها تحمل دلالات كثيرة في المرحلة الراهنة حيث لغة التفجيرات والانتحاريين والقتل والاحزمة الناسفة والتكفير والانقسام السياسي، هي السائدة وفي ظل اوضاع لم يسبق للبلد ان شهدها في سياق ما يعانيه من ازمات سياسية واقتصادية واجتماعية ناهيك الى القلق والهواجس المحيطة باللبنانيين بفعل الانفجارات المتنقلة وتداعيات الازمة السورية على الداخل اللبناني.
ويكفي الشهيد وذويه ما ناله من شرف الشهادة وفخر بين المتكلمين والحاضرين وهم يسردون سيرته العطرة وما عرف به بين زملائه ورفاقه من دماثة الخلق والشجاعة والإقدام وأداء ما يوكل إليه بحب وإخلاص وتفان.
لقد روى جاد البعيني تراب الجبل بدمائه الزكية وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، فيما سيبقى طيفه حاضرا بين اهله ومحبيه وزملائه كشاهد إثبات على حكمة بني معروف في تجاوز الازمات والمصائب حرصا على وحدة الجبل وامنه واستقراره في ظل الهجمة التكفيرية على منطقتنا التي يُعاد رسم خرائطها,
ومن الطبيعي ان يعكس ما حصل في مزرعة الشوف حقيقة الموحدين الدروز
، بعقلانيتهم، وإنفتاحهم، وتكاتفهم ، وانتمائهم لتراب أرضهم ، ولمفاخرتهم بنضالاتهم المتعاقبة التي أغنت تراثهم ، بحفاظهم على وطنهم وكرامتهم وسيادتهم ووحدة بنيهم.
هكذا عاهد ابناء الجبل جاد البعيني في يوم “المصالحة والتسامح”أن يكونوا مجدداً موضع ثقته ، ومحبته ، لن يوفروا فرصة ، ولن يوفروا سانحة في الوقوف صفا واحدا امام الشدائد ، فجراحهم هي واحدة ، وآلامهم هي واحدة ، وكل ما يضيم احدهم هو ضيم لغيره فهذا الجبل هو وديعة إنسانية ، وعطاء رباني ، وتحفة منّت على اهله الطبيعة بها ، وهذا ما يستدعي بالطبع ، وقفة تفكير ، دون إستعلاء اومكابرة ، وإنبعاث للعروبة الكامنة فيهم ، وللأصالة والوطنية الساكنة في أعماقهم.
والموحدون الدروز يدركون جيداً ، وربما كانوا باكورة من أكدّ أن الأرض والوطن ، هما العرض والشرف والكرامة والعزة ، ولا شيء يماثل هذه المسلمات الدينية والدنيوية .
في يوم جاد البعيني تكرست دعوة الى الحوار البنّاء ، الى كلمة سواء ، الى العقل والمنطق ، تحت عنوان واحد: لا بديل عن الوطن الواحد ، لا بديل عن وحدة الجبل بكافة شرائحه السياسية والاجتماعية .
فكل الخلافات تمسي صغيرة وتفصيلية حين نتعرض للخطر ، والإنقسام ؛
وكل السياسات تضحي أهواءاً ورذاذ مطر عندما يصبح الشرف والأرض على المحك ، والسيادة محل تجاذب .
إن كل المغريات تتضاءل وتصبح آنية وهي كذلك على أية حال ، إزاء الخسارة الكبرى وهي الأوطان ،
لذا لنرحم لبنان ، ونرحم شبابنا ، والثكالى والأرامل والشيوخ ،
وعلينا ان لا نعطي أعداء بلادنا الفرصة للشماتة بنا فالذي يحدث على أرض امتنا يعرض حتى وجودنا للخطر والتفتيت ، فالمطلوب وقفة مع الذات ، مع الضمير ، مع المواطنية الحقّة ، وقد يكون المطلوب بعض التنازلات للوطن من كل الأطراف ولا ضيرّ في ذلك ، ولا إمتهان .
فالإنسان لا ينتصر على وطنه ولا ينهزم أمامه ، والإنتصار الحقيقي هو في كرامة ووحدة لبنان .
هذه هي رسالة الموحدين الدروز في “يوم المزرعة ” الى الجميع من ابناء الوطن للخروج من المتاريس المزعومة ، والى اسقاط جدران الفرقة والتباعد وحوائط العار والتمزق …
المطلوب هو العودة الى الحوار والتلاقي ، ومد الايادي للقاء الآخر وعقله لقبول شجونه وهمومه وإرتيابه ، فلا مناص من اللقاء ، ولا بد من التوحد ، ومن لغة العقل …
^