ما فتأ الساسة في لبنان يمطروننا بنظرياتهم الخنفشارية عن ميثاقية هذه المقاربة ودستوريتها أو عدمه. وكالعادة، فإنهم خريجي معاهد وكليات الطب والهندسة وإدارة الأعمال والتسويق والإعلام والكمبيوتر وعلم الأديان؛ ولكنهم لبنانيون، أي يفقهون بكل شاردة وواردة في الحياة الدنيا، ولدى البعض في الحياة الآخرة كذلك. وكلما أراد أحدهم شد العصب الطائفي، يلجأ إلى الميثاق، وكأن الميثاق هو حامي حمى الدين والسياسة الطائفية. ويواجهه الآخر بالدستور، وكأن الدستور هو المتصدي للأديان وطائفيتها السياسية. أما المضحك المبكي، فهي الحقيقة أن حامل بيرق الميثاق يتحول بسحر ساحر إلى قائد قادة جنود الدستور عند الحاجة، بينما يتحول “الدستوري” إلى فقيه “ميثاقي” يحلل ويبرر أهميته في الحفاظ على “العيش المشترك”. إنهم، بتشويههم المعنى الحقيقي للميثاقية والدستورية، يذكرونني بأولئك الجهال من صغار النفوس الذين يشوهون دينهم بحصره بالقتل والإجرام والتنكيل والنكاح. فيقوم أصحاب الفخامة والدولة والمعالي والسعادة بـ”نكحنا” كل يوم بفقه معاق يعيق تطورنا، والمواطن يصفق لهذا الزعيم أو ذاك، لا اقتناعاً بما يطرحه الزعيم من “جهبذات” هو نفسه المواطن لا يفهمها، بل لاعتبارات طائفية أو مناطقية أو حزبية… و”بين حانا ومانا، ضاعت لحانا”!!!
وبعد، قبل اتفاق الطائف كان يحكم لبنان الميثاق رغم وجود دستور مكتوب. وكان الميثاق آنذاك أقرب بمرات إلى النصوص الدستورية منه الآن، حيث أن الميثاق هو عرف لا نص. علماً أنهم أدخلوا إلى الدستور في اتفاق الطائف نصوص العرف فأصبح يناقض نفسه، أي أصبح الدستور اللبناني بعد الطائف يطرح البند ونقيضه. وقبل أن أدخل في متاهات الميثاق والدستور سأشرح بكلمتين الفرق بينهما، حيث أنني أحترم القارئ وأتفهم ضياعه بين الاثنين لا غباءً منه ولكن عدم معرفة، لأنه اختصاص محدد لأصحابه كالطب والهندسة، ولأن ساستنا الذين يلجأ إليهم المواطن هم أساساً يجهلون هذا الفرق. الفرق بسيط كالفرق بين العدالة والقانون. تقوم المجتمعات بوضع القوانين التي تعتبرها نصوصاً ملموسة لخدمة فكرة تجريدية تمثل هدف هذه القوانين، وهي العدالة. وعليه، تقوم المجتمعات بخدمة العدالة بين مواطنيها من خلال تطبيق القوانين، وتحكم على المذنب والبريء بنصوص قانونية تعتبرها عادلة؛ أي تتبع القوانين لأن العدالة فكرة تجريدية لا يمكن اعتمادها في الحكم بين البشر لأن ليس لها إطار محدد، كالمحبة والحقد والبغضاء والمسامحة، إلخ. من هنا يمكن التشبيه، فالعدالة تشابه الميثاق والقوانين تشابه الدستور. وعليه، تدار الدولة بالاعتماد على النصوص الدستورية لا على الميثاق الذي هو فكرة تجريدية لا يمكن تحديدها بإطار.
وقد كانت الحياة السياسية والتركيبة الإدارية في لبنان قبل اتفاق الطائف ميثاقية بامتياز، حيث اعتبر المشرعون أن تأطير الميثاقية في مواد منصوصة وضمها إلى الدستور سيفسد الدستور أكثر مما تفسده الأحوال الشخصية المذهبية التي تنقض أسس المساواة بين المواطنين، وخصوصاً المادة السابعة من الفصل الثاني في الدستور: “كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم”. وعليه، فإن التمييز بين المواطنين بالحقوق المدنية المرتبطة بالأحوال الشخصية لا يجب أن ينحدر إلى التمييز في الحقوق السياسية بنص دستوري ينسف كلياً هذه المادة. من هذا المنطلق كان رئيس الجمهورية الماروني ورئيس مجلس النواب الشيعي ورئيس الوزراء السني (آنذاك لم يكن رئيساً لمجلس الوزراء)، كلها كانت مواقع ميثاقية لا ينص عليها الدستور؛ أي عرف لا قانون. وكان كل لبناني لأي طائفة انتمى يحق له الترشح لجميع هذه المناصب. وفي إحدى المرات ترشح مسلم لمنصب رئاسة الجمهورية (قبل الجلاء) وهو السني الشيخ محمد الجسر. كما قام الرئيس سليمان فرنجية بتعيين درزي هو العميد زين الدين كقائد للجيش لفترة مؤقتة. لذلك، فقد كانت إدارات الدولة ومناصبها السياسية تدار من خلال اعتماد روحية الميثاق من دون المس بالحقوق السياسية للمواطنين المنصوص عليها في مواد الدستور. فكان أعضاء مجلس النواب ينتخبون مارونياً لرئاسة الجمهورية من دون منع أي مواطن من أي طائفة في الترشح للمنصب، كما كانوا ينتخبون رئيس مجلس النواب ونائبه (الأورثذوكسي) بنفس الطريقة. وكان رئيس الجمهورية يعين رئيس الوزراء من الطائفة السنية دائماً رغم حقه بتعيين رئيس وزراء من أي طائفة، حتى من الأقليات؛ وهكذا كان الوضع في تعيين الوزراء. وهكذا كانت تنسحب هذه المقاربة على إدارات الدولة؛ ومن هنا أتى تعبير “صيغة 43″، والصيغة هي عرف لا دستور.
ولكن هذه الميثاقية، أو العرف السياسي والإداري لم يستمر لفترة طويلة. إن مقولة “السلطة تفسد والسلطة المطلقة تفسد بصورة مطلقة” دخلت إلى الحياة السياسية اللبنانية وكانت المسمار الأول في نعش الميثاقية. فبعد الشكوى الشعبية من فساد الشيخ سليم شقيق رئيس الجمهورية آنذاك بشارة الخوري ووصفه بالسلطان سليم، واغتيال بارومتر الميثاق الوطني الرئيس رياض الصلح، وقيام الرئيس الخوري بتمديد ولايته؛ كلها أدت إلى تحرك شعبي واسع قادته الجبهة الإشتراكية الوطنية بقيادة كمال جنبلاط. وانتصر التحرك الشعبي بتنحي الرئيس بشارة الخوري حقناً لدماء اللبنانيين. وشهدت هذه الجبهة آخر تعبير معروف في الحفاظ على روحية الميثاق. فبعد انتصارها بوجه الرئيس الخوري، جلس كميل شمعون، وكان أحد أعضاء هذه الجبهة، قبالة كمال جنبلاط وقال له: “فخامة الرئيس”. وكان بمقدور كمال جنبلاط آنذاك الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية بسبب قوته السياسية داخل مجلس النواب وخارجه، وبسبب حقه الدستوري بذلك. ولكن إجابة جنبلاط كانت الجملة التي مثلت آخر تعبير سياسي معروف لصيغة 43 أو الميثاق، عندما قال لشمعون: “الفخامة لي ولكن الرئاسة لك”؛ مشدداً على ترشيحه وترشيح جبهته لماروني لشغر مركز رئاسة الجمهورية حفاظاً على الميثاق. وبعد ذلك وللذكرة فقط، كان هناك نواب وقيادات مشهورة من طوائف متعددة تابعة سياسياً لزعامات من غير طوائفها، ولم نكن نسمع تعابير الغبن التي نسمعها الآن. فقد كان نائب صور ذات الأكثرية الشيعية، ومن أهم وأعرق العائلات السياسية الشيعية، كاظم الخليل، شمعونياً؛ كما كان أحد أهم قيادات المتن ذات الوجود الدرزي الكبير، ومن أهم وأعرق العائلات الدرزية السياسية، بشير الأعور، شمعونياً؛ ومنير أبو فاضل الأورثذوكسي ونائب عاليه ذات الوجود الأورثذوكسي الكثيف، أرسلانياً؛ والنائب فريد جبران من الأقليات المسيحية، جنبلاطياً؛ وغيرهم من النواب والفعاليات. وآنذاك لم نكن نسمع تعابير تشكك بمسيحية هذا أو إسلامية ذاك بحسب القيادات التي يناصرها من غير طائفته؛ كان العمل السياسي آنذاك ميثاقياً بامتياز.
وعندما تربع كميل شمعون على كرسي الرئاسة، انقلب على مقررات المؤتمر الوطني للجبهة الإشتراكية الوطنية وبرنامجها، وهي التي أوصلته إلى كرسي الرئاسة. وانفجر الخلاف بينه وبين جنبلاط، ولكن، ورغم هذا الخلاف، فقد كان الميثاق لا يزال بخير. ولكن، بسبب قوة جنبلاط الشعبية وتحالفاته السياسية مع شخصيات نافذة وأحزاب عريقة وتاريخية كحزب الكتائب اللبنانية وقائد الجيش فؤاد شهاب، قام الرئيس شمعون باستخدام صلاحياته الواسعة المنصوص عليها في الدستور والتي لم يتم استخدامها سابقاً منذ إنشاء لبنان الكبير في العام 1920. فقام بالدخول في المحاور وأعلن التبني الرسمي للدولة اللبنانية لما كان يعرف آنذاك بحلف بغداد أو مشروع أيزنهاور بوجه المشروع الناصري، وأعاد تقسيم الدوائر الانتخابية لتأمين أكثرية نيابية تسمح له بتعديل الدستور والتمديد لولايته الرئاسية، مما أدى إلى فشل أهم القادة المعارضين في الانتخاباب مثل كمال جنبلاط وأحمد الأسعد وصائب سلام وعبدالله اليافي؛ وكانت نتيجة هذه الانتخابات اندلاع “ثورة 1958”. وفي نفس الوقت، سقط النظام في العراق وأعلن النظام الجديد وقوفه مع عبد الناصر. هنا، قام الرئيس شمعون بطلب المساعدة العسكرية الأميركية من دون الرجوع إلى مجلس النواب، وهذه ضمن صلاحياته الدستورية، فأتت قوات الأسطول السادس الأميركية إلى لبنان. إن استخدام الرئيس شمعون لصلاحياته الدستورية لأول مرة منذ العام 1920، سلطت الضوء على هذه الصلاحيات وأثارت الشكوك لدى المسلمين بدرجات مواطنيتهم ونفوذ تمثيلهم الحكومي والشعبي أمام هذه الصلاحيات الهائلة للرئيس المسيحي. ولكن، وقوف أقوى وأعرق الأحزاب المعروفة بمسيحيتها عامة وبمارونيتها خاصة، وهو حزب الكتائب اللبنانية، ضد مواقف الرئيس شمعون، ومواقف قائد الجيش الماروني فؤاد شهاب الداعمة لحزب الكتائب وتحالفهما الضمني مع كمال جنبلاط بعد الثورة ووقوفهما على الحياد أبانها، ذلك بالإضافة إلى سيد بكركي آنذاك البطريرك بولس المعوشي الذي كان على خلاف صريح مع سياسات الرئيس شمعون، والبعد العلماني واليساري لكمال جنبلاط، بالإضافة إلى بعده الميثاقي بجانب زعامات المعارضة كأحمد الأسعد وصائب سلام وعبدالله اليافي، كلها ساهمت في الحفاظ على التعاطي الميثاقي لمدة طويلة. ولكن جمر الاستيفاق الإسلامي كان تحت الرماد، وبإضافة اتفاق القاهرة، إندلعت الحرب الأهلية اللبنانية وانتهت بوفاة الميثاق والصيغة ودفنهما في مقبرة اتفاق الطائف… أساس دستورنا العتيد الجديد.
وأتتنا تحفة اتفاق الطائف الذي كرس الطائفية السياسية بنصوص دستورية لم تكن أصلاً موجودة، ثم دعا إلى تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية في نص دستوري كذلك. أي، وباختصار، قام الدستور اللبناني المعدل في العام 1990 من جراء اتفاق الطائف بحقن الداء في النصوص الدستورية واقتراح دواء الداء الذي حقنه؛ إخترع الجرثومة وقدم مقترح اللقاح، علماً أن الجرثومة لم تكن أصلاً موجودة قبل الطائف. كما تم ذكر كلمة “الميثاق” لأول مرة منذ إنشاء لبنان الكبير لمرة واحدة في مقدمة الدستور التي أضيفت عام 1990، بالإضافة للهرطقة الوطنية المتمثلة بتعبير “العيش المشترك”، وذلك في البند “ي” من المقدمة الذي يقول: “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”. العيش المشترك؟ ماذا عنوا بذلك نواب الأمة الممدد لهم لخمس دورات؟ العيش المشترك يعني أن هناك مجتمعات مختلفة يجب الحفاظ على عيشها المشترك. أي لا توجد هوية لبنانية بمواطن لبناني وشعب لبناني، بل توجد مجموعات وشعوب مختلفة “مجبورة” بنص دستوري على “العيش المشترك”. علماً أن في المقدمة نفسها المضافة بعد اتفاق الطائف وفي البند “ج” ينص على: “لبنان جمهورية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل”. ما هذه الهرطقة؟ ما هذا الخبث؟ “المساواة في الحقوق والواجبات”؟ “المواطنين”؟ يجب أن تعتمدوا، إما مواطنين وإما مجموعات “تحتاج” إلى نص دستوري يحذرها من “رفض” العيش مع بعضها البعض… بدل من أن نسمو بالعرف ليرتقي إلى روحية النص الدستوري الأصيل والمميز، قمنا بتلويث الدستور بنصوص لينحدر إلى أبشع مقاربات العرف. فيا فتات القادة الذين أتوا بكم عظماء لبنان كتوابع ورحلوا فشوهتم تاريخهم وخربتم بلادنا، جعلتم الدستور اللبناني مضحكة الدوائر القانونية و”مسخرة” الدساتير والشرائع لأنكم لستم من أهل الاختصاص وتمثلون الجهل بامتياز؛ فجعلتم لأمثالكم من صغار النفوس القدرة على تفسير الدستور كما يشاؤون ونسفتم جوهرة دستورية بقذارة سياسة المزارع التي تمثلون. ولا يغربن عن بال أحدكم أن إحدى المواد الدستورية العائدة للعام 1926 ولم تعدل في العام 1943 ولم تلوثها تعديلات العام 1990، وهي المادة 12 من الفصل الثاني، تنص على التالي: “لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط القانونية التي ينص عليها الدستور”.
وفي الختام، أتوجه إلى السياسيين وأحزابهم والمصفقين لهم والشعب المسكين، لأقول: رحل الميثاق مع رحيل أصحابه العظماء من رياض الصلح وصولاً إلى عادل عسيران، ومات الميثاق ودفن بالتعديلات الدستورية الهرطوقية القذرة في العام 1990. فكفوا عن ذكر الميثاق كلما اختلفتم أو تناقشتم… لا يوجد ميثاق، ونقطة على السطر. أما الدستور، فحدث ولا حرج. فبعد التعديلات “الغبية” للعام 1990، أصبحت كل مادة تناقضها المادة التي تتبعها، وقمة القذارة مقدمة الدستور التي تمت إضافتها كلها في العام 1990. إن الحل هو في إلغاء جميع تعديلات العام 1990 بما فيها مقدمة الدستور الكارثية، وإعادة النقاش في كل بند يتعلق بصلاحيات الرؤساء والمؤسسات بما لا يتناقض أبداً مع نصوص دستور العام 1926 وتعديلات العام 1943. نعم لقد أنهى اتفاق الطائف الحرب، ولكن ارتداداته الدستورية أنهت الجمهورية… فيا ليت الحرب استمرت كي تستمر الجمهورية، فقذارة الحرب نقطة في بحر كارثة موت الجمهورية.
**