لم يعد ممكناً تأجيل المواجهة الكبرى للإرهاب التكفيري ، فقد تمكّن دعاته ورعاته والقائمون عليه، من تثبيت أقدامهم في كثير من بلدان “الربيع العربي” وآخر جرائمهم ما قامت به ما تدعى بكتائب عبدالله عزام في لبنان ، من تفجيرين انتحاريين بحق الأبرياء والايتام امام المستشارية الثقافية الايرانية في بئر حسن .
لقد أصبح من المتعذر القول بحصانة أي منطقة لبنانية من هذه الظاهرة، بما يعني أن عوامل التسلل والاختراق في البنيان الوطني، غدت من المشتركات بين معظم المناطق اللبنانية.
المعضلة في مواجهة الاجرام التكفيري ، أن هذا الاجرام هوعمل تآمري وسري، ديدنه القتل والتدمير ، والعداء للدولة والمجتمع، ورفض الآخر وتقديس الوهم، والمصادمة مع العصر، وليس بإمكانه العيش في النور . وذلك ما يجعل منطق الحوار معه، وقبول الرأي والرأي الآخر معدوماً، أو غير مجد. ومن هنا لم تجد غالبية البلدان، المبتلاة به، سوى الحلول الأمنية، وذلك شر لا مفر منه، لكن تجربة العقد المنصرم، أكدت أن الحلول الأمنية وحدها، ليس بمقدورها اجتثاث هذه الظاهرة من جذورها .
المطلوب اليوم من الجهابذة في لجنة البيان الوزاري بذل جهود كبيرة لصياغة بيان يلتف من حوله جميع اللبنانيين للقضاء على ظاهرة الإرهاب التكفيري ، وتجفيف موارده المالية والعسكرية، وضرب مرتكزاته الفكرية والثقافية والإعلامية، وإيجاد ثقافة بديلة للحد من مناورة قوى الإرهاب واساليبه الاجرامية.
ومن نافلة القول إن تحصين الجبهة الداخلية، بتحقيق التنمية المستدامة هو الخطوة الأولى على طريق مواجهة التهديدات التكفيرية ما ظهر منها وما بطن، وحماية الأمن الوطني . فشرط مواجهة الإرهاب والتخريب هو تحصين الذات . والتنمية بهذا المعنى، ليست مجرد تحقيق للرخاء والازدهار لأبناء الوطن جميعاً، وإنما أحد العناصر الجوهرية، للتأسيس للمواطنة، وإلغاء الظلم والحيف وازالة الترسبات الراكدة، التي تمثل البيئة المناسبة، لنمو ظاهرة الإرهاب والتطرف .
والمواطنة التي ننشدها، ، تعني شيوع المساواة وتكافؤ الفرص، بين أفراد، ينتمون إلى جغرافيا مشتركة، وتاريخ مشترك، وذاكرة مشتركة وتنتظم العلاقة فيما بينهم، من خلال دستور مدني، يحدد حقوق وواجبات كل الأفراد المنتمين إليه، ويصبح الدستور هو عنوان الهوية الجامعة، يؤكدها انتماء إلى أرض ذات سيادة، وعقد اجتماعي، ينظم علاقة الند بالند والتكافؤ ، حيث يتمتعون بذات الحقوق، ولا يعود للانتماء االطائفي أو المذهبي أو القبلي، أو الإثني، قيمة تضفي تميزاً في الحقوق على الآخرين . والمواطنة بهذا المفهوم، تعطي للاختلاف والتنوع في مجتمعنا ، شكلاً إيجابياً، يضيف قوة لها ولا يأخذ منها .
لا يتعايش الإرهاب التكفيري مع الحرية، لأنه يستمد قوته من التجهيل، وتعطيل الوعي، وتغييب العقل وفرض الطاعة، وتغليب عقيدة الفرقة الناجية، وإبلاغ الأوامر من الأعلى إلى الأسفل، من غير مناقشة . فمن غير توفر هذه البيئة يستحيل على قادة هذا الإرهاب، الزج بالشباب اليافعين في محرقة الإرهاب .
المعركة الوطنية الكبرى لمواجهة الإرهاب، تقتضي تدشين مؤسساتنا الدستورية ، بعيدة عن هيمنة النزعات الفردية أو الفئوية، تنظم الحياة العامة، وتحمي الملكية الخاصة، وأن يطبق القانون على جميع الناس . كما تقتضي العمل السريع، من أجل بناء مؤسسات المجتمع المدني، والحواضن الفكرية المتنورة ، التي تعلي من شأن الكرامة الإنسانية، وصياغة برنامج وطني ، يعبر عن هذه التطلعات، وتكون المواطنة رافعته،التي تشكل الحجر الاساس لهزيمة الارهاب .
مناخات الإرهاب التكفيري ، هي ضعف الدولة، ووجود الأزمات السياسية، وهدر الحقوق، وسيادة الجهل، ولذلك نرى قوى التطرف تنشط، حيث تضعف الدولة، وتغيب فكرة المواطنة، ويسود الانفلات الأمني، ويغيب الاستقرار .
والأمثلة على ذلك كثيرة، ويكفي النظر إلى ما يجري في ليبيا واليمن ومالي وأفغانستان، وغيرها من البلدان الاخرى التي تعيش أزمات سياسية حادة، ارتبط بعضها بفشل عملية الانتقال السياسي، وغياب دولة القانون، وعجز الحكومات عن الوفاء باستحقاقات الناس .
^