ما سأكتبه سيستفز الجميع، مسلمين ومسيحيين. سيستفز المسلم غير المطلع على الحقائق التاريخية مما يجعله يرفض الاعتراف بالتاريخ الذي سبق الفتوحات الإسلامية رغم اعترافه بـ”أهل الكتاب”. وقد غاب عن باله أنه بمجرد اعترافه بوجود “أهل الكتاب”، فقد اعترف بتاريخ سبق رسالته بمئات السنين. كما سيستفز المسيحي اللبناني الذي لا يعرف أهمية دوره التاريخي في استعادة مهد ديانته واعتبار المنصة التي اكتسبها لاسترجاع أرض الرب، الغاية لا الوسيلة.
أما بالنسبة للمسلمين، فأرض فلسطين أرض جهاد لسببين لا ثالث لهما. السبب الأول أن المسلمين قد أخرجوا منها بقوة السلاح من غزاة لا من أهلها. أي عندما تم إخراج المسلمين من إسبانيا، لا يعتبر المسلمين هذا الخروج “طرداً” من أرض مسلمة، لأن من أخرجهم هم أهلها. أما فلسطين، فقد أتى غزاة من غير أهلها، واستخدموا إله لا يعترف به المسلمون، وأخرجوا المسلمين وغير المسلمين من أرض فلسطين، فيحق الجهاد عملاً بالآيات القرآنية الكريمة من سورة البقرة: بسم الله الرحمن الرحيم… “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهو فإن الله غفور رحيم (192)”. رغم أن هذه الآيات مرتبطة بحادثة معينة في التاريخ الإسلامي، ولكنها تشير إلى طبيعة الجهاد وأخلاقه عند المسلمين؛ خصوصاً في الآيتين 190 و192. أما السبب الثاني فهو التعبير الإسلامي الشهير الذي يختصر فلسطين بمدينة القدس الشريف: “أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين”. ورغم أن هناك بعض المشككين بصوابية هذا التعبير، ولكنني لن أدعم المشككين بل سأفسر هذا التعبير بحقائق لا يختلف عليها مسلمان. أولى القبلتين لا تعني أن للمسلمين قبلتين أولهما هي القدس، بل تعني أن قبلة المسلمين كانت “أولاً” هي القدس، ثم تم “إلغاء” هذه القبلة واعتبار الكعبة الشريفة هي قبلة المسلمين الوحيدة والسرمدية. إذن فقد انتفت صفة “القبلة” من القدس. أما ثالث الحرمين الشريفين فهو ما يشير إلى المسجد الأقصى وقبة الصخرة فيه الشاهدة على إسراء ومعراج النبي محمد (صلعم). ولكنه، رغم ذلك، الثالث في التراتبية المقدسة، حيث يسبقه كأقدس مكان على وجه البرية عند المسلمين المسجد الحرام في مكة المكرمة الذي تتوسطه الكعبة الشريفة، ثم يليه المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة.
وفي المحصلة، وباستخدام بعض المنطق التحليلي، نستطيع أن نقول عملاً يالآية 192 من سورة البقرة، أنه في حال تم التعويض عن المسلمين الذين أخرجوا من فلسطين وعن الضحايا وتم اعتماد السلام، وتم فتح معبر آمن إلى المسجد الأقصى وقبة الصخرة لجميع المسلمين وجعلهما تحت السيادة الدينية المطلقة للمسلمين، تنتفي أسس الجهاد الإسلامي.
أما المقاربة العربية، فلا تتفق مع هذا التحليل. فبالنسبة للعروبيين، إن فلسطين أرض عربية ويجب إعادتها إلى العرب وإعادة العلم العربي الفلسطيني كالعلم الرسمي والشرعي الذي يجب أن يسود كامل الأرض والشعب.
وهنا نصل إلى بيت القصيد. كل ما تقدم هو سبب تساؤلي المزمن الذي ما فتأ يحيرني، لماذا دائماً نسمع: إن قضية فلسطين هي القضية المركزية للعرب والمسلمين. قضية مركزية للعرب مفهومة، ولكن قضية “مركزية” للمسلمين هو ما لم أتفهمه. هي إحدى قضايا المسلمين ولكنها ليست مركزية؛ قد تكون القدس مركزية لوجود المسجد الأقصى وقبة الصخرة وهما ثالث وليسا أولى ولا ثانية الحرمين الشريفين. حتى التعبير لا يأخذ بعين الاعتبار استخدام المساواة باللجوء إلى “الأحرام الثلاث” مثلاً، بل الحرمين الشريفين والأقصى ثالثهما، وصفة الشريفين محددة بالمثنى لا بالجمع.
أما الاكتشاف البسيط والواضح وضوح الشمس، فهو ما لم أسمعه بحياتي رغم أنه حقيقة صارخة عند قراءة تاريخ فلسطين وتاريخ القدس وتاريخ المسيح والمسيحية. قد تكون قضية فلسطين القضية المركزية “السياسية” للعرب، لكنها من دون أي شك القضية المركزية الوجودية والروحانية والمقدسة المركزية “الوحيدة” للمسيحيين عامة، ولمسيحيي المشرق على وجه الخصوص!!!
ولنستعرض سوياً مصدر استنتاجي هذا. ولد يسوع “الناصري” (أي من الناصرة في فلسطين) في مذود في بيت لحم الفلسطينية. وبشّر في هيكل أورشليم (القدس في فلسطين) وجبل الزيتون في فلسطين. ومشى في درب الجلجلة في شوارع أورشليم، وصلب يسوع في أورشليم ومات في أورشليم وقام في أورشليم. ولكن، ماذا قال؟ ومن خانه ولمن؟ ومن هم الذين صلبوه ولماذا؟ وعلى من أنزل الله غضبه لحظة موت إبن الإنسان كي يقوم بعد ثلاثة أيام؟
وهنا سأروي القصة بمقتطفات من الإنجيل المقدس، حيث أن الكهنة الذين تشير إليهم الآيات هم الكهنة اليهود والهيكل هو الهيكل اليهودي في أورشليم والشعب هو الشعب اليهودي وهيرودس ملك اليهود. “ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاؤوا إلى أورشليم قائلين أين هو المولود ملك اليهود. فإننا رأينا نجمة في المشرق وأتينا لنسجد له.” (متى 2: 1 و2). “ثم صعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس.” (متى 4: 1). “حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى يوحنا ليعتمد منه.” (متى 4: 13). “فإن هيرودس كان قد أمسك يوحنا وأوثقه وطرحه في سجن من أجل هيروديا إمرأة فيلبس أخيه. لأن يوحنا كان يقول له لا يحل أن تكون لك.” (متى 14: 3 و4). “فأرسل وقطع رأس يوحنا في السجن.” (متى 14: 10). “حينئذ ذهب واحد من الإثني عشر الذي يدعى يهوذا الأسخريوطي إلى رؤساء الكهنة وقال ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم. فجعلوا له ثلاثين من الفضة. ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه” (متى 26: 14 – 16). “وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع لكي يقتلوه.” (متى 26: 59). “وأما يسوع فكان ساكتاً. فأجاب رئيس الكهنة وقال له أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله. قال له يسوع أنت قلت. وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون إبن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء. فمزق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه قائلاً قد جدّف. ما حاجتنا بعد إلى شهود. ها قد سمعتم تجديفه. ماذا ترون. فأجابوا وقالوا إنه مستوجب الموت. حينئذ بصقوا في وجهه ولكموه. وآخرون لطموه قائلين تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك” (متى 26: 63 – 68). “ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه. فأوثقوه ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي” (متى 27: 1 و2). “ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع على أن يطلبوا باراباس ويهلكوا يسوع. فأجاب الوالي وقال لهم مَن مِن الاثنين تريدون أن أطلق لكم. فقالوا باراباس. قال لهم بيلاطس فماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح. قال له الجميع ليصلب. فقال الوالي وأي شر عمل. فكانوا يزدادون صراخاً قائلين ليصلب. فلما رأي بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً بل بالحري يحدث شغب أخذ ماء وغسل يديه قدّام الجمع قائلاً إني بريء من دم هذا البار. أبصروا أنتم. فأجاب جميع الشعب وقالوا دمه علينا وعلى أولادنا. حينئذ أطلق لهم باراباس. وأما يسوع فجلده وأسلمه ليصلب” (متى 27: 20 – 26). “فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح. وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى إثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت والصخور تشققت.” (متى 27: 50 و51). “فأجاب الملاك وقال للمرأتين لا تخافا أنتما. فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب. ليس هو ههنا لأنه قام كما قال. هلمّا انظرا الموضع الذي كان الرب مضطجعاً فيه. واذهبا سريعاً قولا لتلاميذه إنه قد قام من الأموات. ها هو يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه. ها أنا قد قلت لكما.” (متى 28: 5 – 7).
هذه جميعها آيات من إنجيل متى توضح لنا أن يسوع هو ملك اليهود، وأن الذي قتل معمد المسيح يوحنا هو هيرودس ملك اليهود، وأن الذي تآمر على يسوع هم رؤساء الكهنة وكهنة اليهود، والذين أهانوا ورفضوا وأمروا بقتل يسوع هم رؤساء الكهنة والكهنة وشيوخ الشعب والشعب اليهودي، والذين أقروا بل وطلبوا بإصرار بأن يكون وزر دم يسوع عليهم وعلى أولادهم هم الشعب اليهودي بكل مكوناته، وبأن يسوع من فلسطين وولد في فلسطين وعاش في فلسطين وبشّر في فلسطين وتعمّد في نهر الأردن (في فلسطين قبل اعتمادها دولة في القرن العشرين). كما تثبت لنا أن آلام المسيح كانت على درب الجلجلة في فلسطين ومماته وقيامته في فلسطين؛ وكنيسته انبثقت من فلسطين. كما أن النجمة التي دلت على ولادة المسيح هي نجمة مشرقية.
وعليه، رغم أن الفاتيكان بنيت على مرقد بطرس الرسول، وهو الصخرة التي بنى عليها يسوع كنيسته، ولكن رأس الكنيسة، وليس صخرتها، هو الأساس. وحيث مات وقام رأس الكنيسة، وحيث ولد وتعمد رأس الكنيسة، وحيث تألم وبشّر رأس الكنيسة، وحيث تمت تجربته لرأس الكنيسة التي انتصر فيها على إبليس، وحيث جمع رأس الكنيسة تلاميذته مداميك كنيسته، وحيث أطعمهم رأس الكنيسة من لحمه ودمه؛ هو المكان المقدس الأساسي لأتباع الرب، وهي فلسطين.
وأسمع من يقول أن فلسطين هي أرض ميعاد اليهود في العهد القديم. لكن المسيحيين هم ليسوا أبناء الشريعة، بل هم أبناء البشارة. أما يهود العهد القديم، فهم من أتى لأجلهم المسيح ليكون مليكهم ومخلصهم، فهم مسيحيي اليوم. أما الذين رفضوه ولم يعترفوا به وهم أهل التلمود، فهم ليسوا أولئك اليهود. إن من يدعون اليهود اليوم هم من ضلوا عن يهود العهد القديم حيث رفضوا أن يتقبلوا مخلصهم ومليكهم إبن الرب، لا بل لعنوه وأهانوه وصلبوه وتحملوا بحقد وخساسة وزر دمه عليهم وعلى ذريتهم من بعدهم. إن يهود التلمود هم ليسوا شعب الله المختار، بل هم من أنزل الله غضبه على كرسي هيكلهم في اللحظة التي أسلم فيها يسوع الروح. إن إسرائيل التي يتفلسف بعض مسيحيي الغرب بالادعاء بأنها الحقيقة قبل فلسطين، هي إسرائيل التي ملكها هو ملك الملوك وملك اليهود وملك إسرائيل يسوع الناصري. أما إسرائل اليوم فهي إسرائيل التي ذكرها يسوع: “يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك الآن لكم خراباً. لأني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب” (متى 23: 37 – 39)
وقد آلمني سماع أحد قياديي الشباب المسيحي اللبناني الواعد وهو يقارن سوريا (أو النظام السوري) بإسرائيل بما يتعلق بالعدائية والحروب. لا يا سيدي، إن عداوة وحروب المئة عام بين بريطانيا وفرنسا لم تقف بوجه تحالفهما في الحربين العالميتين، والعداوة بين ألمانيا وأوروبا لم تمنعهم من الدخول في اتحاد سياسي واقتصادي. إن الدول تتحارب وتتحالف وتنسى للتقدم، خصوصاً الدول الجارة. أما إسرائيل، والتي دعوتها في خطابك إسرائيل، فهي ليست إسرائيل الكتاب المقدس، بل هي إسرائيل الصهيونية التي تمثل النسخة المشوهة والأكثر قبحاً لإسرائيل هيرودس وكهنة الهيكل وأحفاد قتلة المخلص. إنها “أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين”. إنها إسرائيل التي تمثل صفعة بوجه كل مسيحي في العالم ومسيحيي المشرق على وجه الخصوص. إن السعي المسيحي لإعادة أورشليم إلى حضن الرب هو علة وجود أي مسيحي كي يرى الرب يسوع: “لأني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب”.
نعم، إن لبنان وطنكم، وأنتم مهما كان عددكم في لبنان، فإنكم المسيحيين المشرقيين الأهم لأنكم أحرار في التعبير عن مسيحيتكم سياسياً واجتماعياً وروحياً. فملايين المسيحيين في الدول العربية هم ليسوا إلا أعداداً وأرقاماً أمام فعالية مسيحيي لبنان. لقد سخّر لكم ربكم لبنان منصة حرية وديمقراطية وعزيمة، وسخّر لكم مواطنين غير مسيحيين يدافعون عن حقكم بالوجود الحر كإحدى وسائل تميزهم عن باقي مواطني الشرق؛ حيث يعتبر هؤلاء أن حرياتهم الشخصية وتميزهم الحضاري والثقافي والعلمي لم يكن إلا نتيجة لوجودكم الفاعل وسلطتكم وحريتكم المطلقة. فها نحن ندعوكم لقيادة المسيرة واستخدام لبنان منصة انطلاقتكم المقدسة لاسترجاع أورشليم الرب، فلا سلام في الكون حتى تعود كلمة الرب إلى أورشليم. نعم، فلسطين قضيتي المركزية العربية، لكنها قضيتكم المركزية المقدسة.
فيا مسيحيي المشرق عموماً، ويا مسيحيي لبنان على وجه الخصوص، أصرخوا صرختكم وسنكون لكم وقوداً لاسترجاع إسرائيل يسوع الناصري، ملك الملوك وملك اليهود وملك إسرائيل… وسنكون أمامكم وخلفكم وبجانبكم لاسترجاع كلمة الرب إلى أرض الرب… وسنكون جنوداً تتوافد تحت بيرقكم حتى نسمع حناجر أورشليم تصيح من القلب “مبارك الآتي باسم الرب”.
**