احتلت ظاهرة التفجيرات والانتحاريين ، صدارة الأحداث اللبنانية في الفترة الراهنة، خاصة بعد الحشد المتزايد للقتلة ، المتسللين عبر الحدود إلى مختلف المناطق في لبنان من جنسيات مختلفة، تتدفق عليهم نوعيات السلاح الثقيل المهرب، يشاركون مارقين يحملون الجنسية اللبنانية ، وهم معاً يعلنون، بأفعالهم أن المقاومة هي عدوهم وليس “اسرائيل ” ، ، ويترصدون لجميع مؤسسات الدولة وكانت آخر جرائمهم على يد “جبهة النصرة” ، سلسلة تفجيرات إرهابية طاولت كل من الهرمل والشويفات .
قبل ذلك كان العالم قد اعتبر الإرهاب ظاهرة دولية، إضافة إلى كونها مصدر تهديد للدولة من داخلها ، لذلك شهدنا العديد من الدراسات والمقالات والتحليلات التي تناولت ظاهرة الإرهاب منذ تصاعدها في الثمانينات . وكان آخرها وأحدثها، دراسة غربية مهمة نشرتها المطبوعة العلمية البريطانية “دعوة للفهم “Perception وركزت على تشخيص الظاهرة من منظور علمي وموضوعي ، وخلصت الى التمييز بين نوعين من الارهاب : الإرهاب التقليدي، والإرهاب الجديد .
بداية تشرح الدراسة موقفها من التوجهات التي حاولت من بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر/أيلول ،2001 ربط الإرهاب بالإسلام، رافضة استخدام مصطلح “الإرهاب الإسلامي” الذي كان قد شاع في فترة حكم الرئيس بوش الابن في أمريكا، وهي مغالطات تستند الى وقائع واعمال اجرامية تتناقض كليا مع تعاليم الدين الإسلامي، فهؤلاء الكفرة يمارسون الإرهاب بدافع من أهداف سياسية، وإن تستروا وراء شعارات دينية .
واذا كان المجتمع الدولي قد اتفق في المؤتمر الدولي الذي عقد في العاصمة الإسبانية مدريد في عام 1998 على تعريف الإرهاب بأنه جريمة ضد الإنسانية، تهدد حياة أناس أبرياء، وتنشر مناخ الخوف، وتحفز على الانقسامات المجتمعية، لأسباب عرقية أو دينية انطلاقا من ذلك يصبح الارهاب بجميع صوره انتهاكا صارخا لتعاليم السلام وكذلك للقانون الدولي ،وقيم الكرامة الإنسانية . وعلى هذا الأساس اعتبر حزب الله وحلفائه في لبنان الإرهاب الذي يستهدف اللبنانيين بجميع تلاوينهم السياسية والطائفية ، جريمة يجب عدم السكوت عنها او التخفي وراءها لاسباب حكومية .
وبالعودة إلى الدراسة وتمييزها بين الإرهاب التقليدي والإرهاب الجديد . فالأول كان يستخدم العنف والترويع لإحداث أقصى قدر من التأثير في الدولة، مع أقل الخسائر . بينما الإرهاب الجديد، يتبنى بإصرار إنزال خسائر بشرية جماعية ضد مواطنين أبرياء، ويرتبط في نفس الوقت برغبة أفراد، في قتل أنفسهم انتحاراً .
والإرهاب الجديد هو النمط الذي يتبناه “تنظيم القاعدة ” . وهو لم ينتشر نتيجة فقر أو ظلم اجتماعى ، وانما نتيجة قدرة جماعات تكفيرية على سلب عقول مرتزقتها ، الذين تجندهم ، وأن تفرض عليهم معتقداتها عن الدين والدولة، من خلال تسييس الدين، وشيطنة من تعتبرهم أعداءها.
وقد استشهدت هذه الدراسة، بمجموعة من البحوث المتخصصة التي سبق أن أظهرت عدم وجود دلائل قوية على أن التكفيري مريض عقلياً، لكنه شخص مدفوع بأهداف سياسية حددها له قادته، وهو مُسَير بضلالة تفكيره . وهو ما يخلق لديه حالة من الانسلاخ عن مجتمعه بثقافته وتقاليده وقيمه الدنيئة .
بعد ذلك تنتقل الدراسة إلى الموارد التي تمنح المنظمات التكفيرية القدرة على الاستمرار، وأهمها التمويل . وهنا تقدم الدراسة خريطة تشمل خطوات لكيفية هزيمة الإرهاب، تركز على قطع خطوط التمويل التي تأتي من الخارج، عبر وسائل قد يبدو بعضها قانونياً، في شكل تحويلات بالبنوك لأفراد ليسوا ظاهرين كإرهابيين . وأن قدرة التكفير تتراجع من دون التمويل الخارجي، وفي هذه الحالة قد تلجأ هذه المنظمات -كما حدث في بعض الدول – إلى جرائم أخرى، كالسرقة، وتهريب المخدرات، لتوفير التمويل اللازم لاستمرار جرائمها .
إن هذا الإجراء الوقائي هو مجرد خطوة اساسية ضمن خطوات أخرى تتكامل معاً في إطار استراتيجية هزيمة الحركات التكفيرية وتحديدا في لبنان ، وهذا يستتبع بالطبع من قبل الحكومة في حال شكلت تحركاً واسعاً ل بكافة وزاراتها، ومؤسساتها، وبمشاركة المجتمع بأفراده ومنظماته، تعمل كلها على حصار الظاهرة الإرهابية، بسياج من السياسات التنموية، والتعليمية والثقافية، والتنويرية، ما يجعل خيوط علاقة الإرهابيين بالمجتمعات التي يعيشون فيها تتقطع، ويجد كل من لديه نزعة للتكفير ، واللحاق بصفوف القتلة، أو مجرد التعاطف معهم، إنه منبوذ وعدو لمجتمعه .
هذه هي الصورة العامة التي قدمتها أحدث دراسة علمية عما وصفته بالإرهاب الجديد . وعندما ننظر إلى تطبيقاته عملياً، فإن من المهم إعادة الاهتمام بمادة الدين في المدارس والجامعات ، حتى تتم تنشئة التلامذة والطلبة على فهم حقيقة دينهم الذي يدعو للمحبة، والتسامح، واحترام الإنسان وكرامته، وحرمة قتل الإنسان . لأن غياب التعليم الديني التنويري ، يفسح مجالاً لكل من هو مضلل، لسعيه وراء أهداف سياسية، أن يستغل العقول البريئة عند الاجيال الشابة ، والتلاعب بهم، والعمل على زرع أفكار ضالة في عقولهم، حتى يتحولوا مع مرور السنين، إلى عناصر تكفيرية يسيطرون عليها، ويحركونها كالروبوت، فلا تعرف من أمور دينها سوى ما غرسته هذه الجماعات في عقولها .
والجدير ذكره ان اتفاق الدول الغربية في اسبانيا على تعريف الإرهاب والتصدي له يعني أن الولايات المتحدة التي كانت شريكاً أساسياً فيه قد اتخذت موقفاً واضحا من ظاهرة التفجيرات الارهابية في كل من سوريا ولبنان والعراق ومصر وفي ذلك مؤشر على تبدل في السياسة الاميركية التي كانت تميز بالامس بين إرهاب ترفضه، وإرهاب تتجاهله، ولا تدينه ،خاصة بعد ان ظهرت أمام عينيها، التعبئة من “تنظيم القاعدة” لمرتزقتها ، لممارسة العنف والإرهاب، ووضوح العلاقة بين “القاعدة” ، وجماعات التكفير في المنطقة ، وربما ينعكس هذا الامر في الايام القادمة على الموقف الاميركي السابق و الداعي بإلحاح لإدماج “المعارضة “السورية في العملية السياسية .
^